هل من سر بين شهر آذار والكرد؟

إبراهيم محمود
ليس من غيبيات في بنية السؤال: العنوان، بين شهر آذار باعتبار موقعه الرمزي والدلالي المغاير، والأحد عشر شهراً، وما يستدعي التحليق بخيال بعيد المدى، في محاولة تبيّن سر كهذا، أو ما يمكن اعتباره سراً. ليس آذار الكردي، بالنسبة لشهور السنة الأخرى، يماثل مقام يوسف المعلوم بين أخوته الأحد عشر تاريخياً ودينياً.
إنه التاريخ الذي يدلي بشهادته، وتوأمه المادي الأطلسي: الجغرافي، حيث كل منهما يتقدم بما يضيء صفحة الآخر، وليكون للكردي بعضٌ من الجواب المرتَقب للسؤال الذي يُطرَح سراً وعلانياً، وبناء عليه، تتداخل تصورات وهواجس ورهانات.
أستقول لي: هناك الانقلاب الربيعي، ومردوده الفلكي في التأثير على الشعوب، والاستعداد للدخول في دورة فلكية: أرضية جديدة؟ ليس الكرد وحدهم هنا، إن شعوب العالم القديم، والرافديني ضمناً، كانت تعيش تأثير هذا التحول طقوسياً؟
ربما أمكن النفاذ إلى داخل اللعبة الكونية، باستعارة ذلك التوافق بين ما هو ناري طبيعي، جغرافي، نار كاوا الحداد الأسطوري بالموروث عنه، ومفهوم الربيع وما يتوخى منه، ضرباً من اليقظة التاريخية في ذاكرة شعب يتوق إلى تمثيل نفسه.
ربما تكون هذه النار، تلك الشرارة المشتعلة ذات الوميض البعيد المدى كمؤثر في الذاكرة الجماعية الكردية، وتجلي تأثيرها في الجغرافية التي احتضنت الكرد هنا.
كما لو أن النار هذه وهي ذات صلة مفصلية بوجود حي لأناس أحياء، تكون المرجع وشهادة العيان على الغائب في المعنى. وقد كانت النار علامة استعداد، وتحول نحو عهد جديد، وفي النار تكون ديمومة الحياة. وكلما اقترب الميعاد الآذاري هنا، باختلاف أسمائه، كلما تحددَ الاستعداد، ليصبح الربط حميمياً ومراقباً ومرصوداً من الكرد، وممن يكنّون العداء لهم ولا يريدون لهم تمايزاً من النواحي كافة، كما لو أن آذار فعل قيامة، انبعاث قوى وإخلاص لسلف نضالي، ورد فعله المباشر والمحفوظ في الوقت نفسه في الذاكرة المضادة لذاكرة الكرد، وما جرى تثبيته في التاريخ المدون ضد الكرد، وكيفية تلوينه بمداد يعكس النظرة السلبية إلى الكرد، واختلال  صورته زماناً ومكاناً، فالكرد ليس شعب آذار وحده، أو أمته، أو وجهه المرتقب، إنما شعب مدار السنة بدزينة شهورها، وإسناد شعب إلى شهر، أو بالعكس، إخراج لا يخفي مخاتلة وسخف موقف ممن ينظَر إليهم خارج التاريخ.
إن كل ما نقرأه في السجل الآذاري من أول يوم منه أو فيه حتى آخره، يتمحور حول حدث شهده آذار، الشهر، التوقيت الزماني- المكاني، والتجذير النفسي، والعقلي، وما بينهما من وشائج قربى، لعله المسنود إلى نار كاوا الحداد، وفي الحدادة ما يجري تغييراً في المكان، ما يجعل للحديد مسنداً ثقافياً وتحولاً اجتماعياً، على صعيد التعامل معه، وكيفية الاستفادة منه، وللحديد شأنه الاعتباري في البقاء.
وما يمضي إليه أعداء الكرد إلى تخصيص آذار بما هو كردي، وما للنار من قيمة رمزية في حياتهم، اعتراف حي بما لا يريدون الاعتراف به، وهو أن الكردي لم يكن يوماً في غياهب تاريخ الآخر الرافض له، إنما كان محل اهتمام منه، وهاجسه.
هذا السجل التراكمي في الوقائع المشهود لها بالتنوع، إلى جانب التباين والتصادم بين الصبوة الآذارية وبراعة الجاري فيها: انتفاضات الكرد ، وثوراتهم، وإعلان تشبثهم المستمر بالتمايز، ومطالبتهم بحق تقرير المصير تاريخاً وجغرافياً، حيث الأمل له مقامه المعلوم، وتلك الكبوة الآذارية، وما يترتب عليها من انتكاسات، ومن هزائم، أو إخفاقات ومآس في آن، وطابع المكابدة  في كل ذلك.
ليس هذا شرخاً في وعي الكردي لتاريخه، وجغرافيته، ووعي الآخر ” عدوه المصيري ” له، وكيفية تصريفه لعلاقاته معه، وتقويمه لشخصيته هوياتياً، إنما هو واقع مركَّب، يتداخل فيه نهاره وليله في وحدة تبقي الكردي حامل اللحظتين، سوى أن توقه إلى نهاره المفرح يظل متجاوزاً لليله الموجع له، من باب البداهة، وهذا ليس تلفيقاً وإنما ظاهرة تاريخية وثقافية واجتماعية في صميمها.
السر الوحيد الممكن النظر فيه ودوام مساءلته، والمساءلة حوله: لماذا يجري طرح السر، وهو بحمولته السياسية الضيقة جداً، سواء من جهة الكردي، أو عدوه أو خصمه، بوصفه قدَرياً، ويكون الكردي في شمول تاريخه وجغرافيته، بالع طعمه، والفائز بـ” الصيد ” هو المتربص به، والمبتهج باستمراره سراً ربما يعرفه هو وحده، والكردي حين يصدقه، فيكون شاهداً على نفسه، ومعاديها في آن. وطالما أن الكردي استمر في النظر إلى آذار من هذا المنطلق، فلن يعيش سويته لا فيه ولا في سواه بالنسبة للشهور الآخر، ويصيّر نفسه يوسف الأخوة الأحد عشر وهو ليس كذلك على الإطلاق، حتى بالمعنى المجازي أو الشعري الرومانسي الكئيب ؟؟!!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   تمضي سوريا في أحد أكثر مراحلها التاريخية تعقيداً، حيث تتزاحم الأزمات وتتداخل التحديات في مشهد يشبه الركام. نظام قمعي راحل خلّف دولة فاشلة ، واقتصاداً مفلساً، ونسيجاً وطنياً ممزقاً، وأرضاً مباحة لكل من يريد الاستثمار في الفوضى والدم. لكن ما بعد السقوط لا يجب أن يكون سقوطاً آخر. ما نحتاجه اليوم ليس مجرّد حكومة جديدة، بل…

قمع النّظام الانتفاضة بمنتهى القسوة، وبلغ عدد المعتقلين نحو سبعة آلافٍ من الفتية والشباب وكبار السّنّ وبينهم نساءٌ.. وقد مارس معهم أشدّ أنواع التعذيب مثل: تكسير الأسنان، وقلع الأظافر، والصعقات الكهربائية، وتوفي بعضهم تحت التعذيب كالشهيد الشاب فرهاد محمد صبري. وجلب النظام قواتٍ عسكريةً كبيرةً بقيادة ماهر الأسد إلى الجزيرة، وطوّق الجيش والأمن قامشلو وبقية المدن والبلدات الكردية، وقامت بفصل…

إلى كل من يحاول عبثًا تغيير مسار التاريخ بأساليب رخيصة وبالية، تدين لجنة إحياء ذكرى الأمير إبراهيم باشا المللي، بأشد العبارات، الجريمة النكراء التي استهدفت قبر الأمير، في اعتداءٍ لا يمكن وصفه إلا بأنه محاولة بائسة لتشويه إرثه، والإساءة لتاريخ الشعب الكردي، وإشعال الفتن بين مكونات المنطقة عبر خطاب الكراهية والتحريض. لقد كان الأمير إبراهيم باشا، المعروف بلقب “مير ميران…

نظام مير محمدي*   تُغرق الأخبار المتعلقة بالمفاوضات النووية النظام الإيراني في دوامة من الأزمات الداخلية والخارجية. هذه الأزمات لا تقتصر على فئة معينة في الحكم، بل تشمل النظام بأكمله، وتتفاقم مع مرور الوقت. يمكن رؤية دلائل هذه الأزمات في خطب أئمة الجمعة، وردود فعل نواب البرلمان، والتناقضات في تصريحات المسؤولين.   التحدي الكبير للنظام حدد النظام الإيراني هويته…