أنا ولجنة التحديد والتحرير (4)

 

د. محمود عباس

 

بعد سنوات قليلة زال التخمين وثبت التأكيد! بأن هذه اللجان كانت تنفذ أوامر مسبقة مفروضة من السلطة وكانت من ضمن مخططات التعريب، ولا علاقة لها بالدراسات العصرية لجغرافية الدولة.
 قلت لرئيس اللجنة، مرة في إحدى فترات الاستراحة بعد الغداء وبهدوء، أمام اللجنة وكانت مؤلفة من ستة أشخاص، من باب التذكير واحتمالية تغيير الرأي، أنه من المفروض كتابة التقرير، على إننا سبع ملاكين، رد بأن المالك الوحيد هو الوالد فقط، أولاده ليسوا ملاكين وما تم في عام 1952 ملغي حسب قانون الإصلاح الزراعي، وكان يعني القرار رقم (161) لسنة 1958م، والمرسوم التشريعي رقم (31) لسنة (1980) المعدل للقرار السابق، والتي خلقت الحزام العربي، ومزارع الدولة إلى أن وصلت إلى مرحلة إقامة المستوطنات.

 

  ولا أظن بأنه كانت لديه نصوص القرارين وربما لم يكن يعلم مضمونهما، لكنه كان قد لقن ما كان عليه أن يفعله وكان يدرك الغاية، فقال: سأطبق القانون، وبها يعتبر المالك، أي الوالد، متنازل لأولاده عن ملكيته، وقرار المحكمة التي أصدرت سندات التمليك لسبع أفراد من العائلة؛ بينهم الوالد، ملغي وغير قانوني، يعني أنني كنت حينها أناقش صوت السلطة المحتلة لكوردستان.
 أتذكر حاول مرة أخرى أن يشرح القانون الجديد لي، وكأنه كان يريد أن يقنع ذاته وأعضاء اللجنة قبل إقناعي، لكنه لم يستمر وأنا لم أناقشه بعدها، حتى عندما كرر قوله أثناء كتابة التقرير النهائي على أن الأولاد ليسوا ملاكين. كان الوالد غائبا عن الديوان طوال الأسبوع ونادرا ما كان يأتي أثناء وجود اللجنة، وبعدما ذكرتها له، جاء إلى الديوان، تناقش معه، لكنه قال: (أبو صبري) كتبتها كما يفرض علي القانون الجديد. وفعلا عمل بموجب المرسوم التشريعي رقم (31) لسنة (1980) وهو ما سآتي عليه لاحقاً.
من المؤكد أن الرشوة لم تكن ستغير من المعادلة، حتى ولو كنت سأدفع له ما يريد بدون علم الوالد، وهو ما لم أفعله؟ فلم تكن هناك حيلة بإمكانها أن تعدل ما كان قد أقره القانون، وهو يقوم بتنفيذه مع أوامر من النظام، لكن تبين بأنه كان متعود على الرشوة وعزائم الشرب ولربما كانت ستأتي بنتيجة في المعاملة وترطيب الأحاديث ليس إلا، فالقرار كان قطعيا رغم أنه كان عليه تنفيذها لكنه كان فظا في التعامل ولا يستبعد أنه كان مكلفا بمثل هذا التعامل معنا، حتى الملاكين الذين دفعوا الرشوة خسرو أموالهم وأراضيهم فيما بعد.
   عندما كانوا يرسمون طبوغرافية بيوت القرية، ويحددون مليكة البيادر، ناقشت أحد العناصر الذي كان يخططها، وقد كان لطيفا؛ أصبحنا أصدقاء بعدها، لماذا كل هذا الاهتمام بالبيوت والبيادر ولا يماثلها عند تخطيط الأراضي، همس لي بأن المخطط سيتم كما هو مرسوم من الدولة والمحافظة، وكررها أثناء اللقاء به في إحدى مراجعاتي لدوائر الاستيلاء في الحسكة: بأن رئيس اللجنة ونحن الأعضاء كنا ملقنين! بكل ما تم في ذلك الوقت، بغض النظر عن تنفيذ قوانين التحديد والتحرير!
 بعدها وعندما تم الاستيلاء على الأراضي وعلى خلفية أعمال تلك اللجنة والمماثلة لها وبناء المستعمرات، برزت في مخيلتي مسيرة ذلك الأسبوع بأوجه أخرى، وأعمال اللجنة غير ما كان يظهره أعضاؤها ورئيسها، وعرفت بأنني كنت حينها أواجه واصطدم بشكل مباشر مع قوى الاحتلال والتعريب والاستيلاء، وأن نقاش الوالد المختصر معه ليوزع الملكية على جميع بناته وأولاده، أو على الأقل وضع أسماء الذين كانوا في الملكية السابقة حسب سندات التمليك لعام 1952م، كان هباء وكان من شبه المستحيل تغيير ما كان مخططا له، ولو كان البعد هو الإصلاح الزراعي للمنطقة أو تخفيض سقف الملكية لمساعدة الفلاحين، كان عليهم أن يوزعوا المستولى عليه على أبناء القرية ذاتها، لكن المخطط كان أكبر من اللجنة ومن النقاشات البسيطة بين الملاكين ورؤساء هذه اللجان، كان هناك مصير شعب على المحك، وقضية أمة تدمر.
في اليومين الأخيرين وعندما كان رئيس اللجنة يكتب التقرير النهائي وبخط وتخطيط منمق، وكما ذكرتها سابقا، قال: …
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
12/2/2024م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…