مُضَر الدبس: المسألة الكردية قضية وطنية مُهمة.. وسورية لن تكون حرة دون حل منصف لها

 حاوره: عمر كوجري

قال الدكتور مضر الدبس الباحث والسياسي السوري في حوار خاص مع صحيفة «كوردستان» “النظام السوري” تحوَّل إلى عصابة مخدرات وقتل وسرقة، والمعارضة تعمل في كل شيءٍ إلا بالسياسة. يعني نحن أمامَ إخفاقٍ كارثي للضمير، ولأن الوعي والضمير مفهومان متداخلان؛ فلا يمكن التعامل مع الوضع الراهن إلا بالاستعانة بمفهوم الوعي؛ يعني بنوعٍ من التعاون بين الفكر والسياسة.
وفي سؤال “كوردستان” عن وضع انتفاضة أهلنا في السويداء قال الدبس: طاقات مدهشة، خلاقة، رائعة، مهددةٌ بالهدر. ما يحدث في السويداء استمرارٌ في تطوير فكرة الحياة ثوريًا وشعبيًا، وإصرارٌ خلّاقٌ على الحرية، لكن تُهدد “النخبة السياسة” وجودَه، ويهدد وجودَه “غياب السياسة”، وغياب القدرة على ترجمته إلى سياسة.
وعن رؤيته للحل الأمثل في سوريا، وماذا يناسبها؟ أكد السيد الدبس: قد نغامر ونعطي جوابًا بنعم، أو لا عن هذا السؤال، ولكن ثمة سؤالٌ مهم قبله قد يساعد في تقليل المغامرة: ما هي الدوافع التي تجعل السوريين يبنون هذا النوع من الأسئلة في زمانٍ لا يمتلكون فيه السيادة على بلدهم.
وفي سؤال عن واقع التيارات السياسية الكردية في سوريا أفادنا الدكتور مضر: إن أكثر التجارب السياسية مركزية في سورية هي تجربة الإدارة الذاتية، وأكثر صور المركزية وضوحًا هي مركزية حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذه مفارقة لافتة، ولكنها واقع. حزب الاتحاد الديمقراطي مارس إقصاء الجميع، وعزز مركزية “قنديل” في القرارات الكبرى.
فيما يلي الحوار كاملاً مع الدكتور مضر الدبس
النظام السوري تحوّل إلى عصابة مخدرات والمعارضة لا تعمل في السياسة 
*لو تتفضل بالحديث دكتور مضر في سؤالنا الأول عن مآلات الوضع السوري خلال العام الجديد. فالنظام يبحث عن طرق ديمومته، وربما ينجح، والسوريون في استمرار مأساتهم الكبرى.
**ثمة في المسألة السورية الراهنة شيءٌ قريبٌ ممَّا قاله المؤرخ اليوناني “ثوقيديدس” في القرن الخامس قبل الميلاد، قال: “فَعَل القوي كلَّ ما بوسعه، وقاسى الضعيف كلَّ ما عليه أن يُقاسي”. قال ثوقيديدس ذلك واصفًا الذي حَصَل خارج حدود المدينة (البوليس)، أي خارج نطاق السياسة؛ وهذه هي النكبة في سورية: هي أن تكون هذه البلد موجودةٌ في الغياب: أي في غياب السياسة، فهذا النوع من النكبات لا يعيش إلا في الغياب؛ فـ “النظام السوري” تحوَّل إلى عصابة مخدرات وقتل وسرقة، والمعارضة تعمل في كل شيءٍ إلا بالسياسة. يعني نحن أمامَ إخفاقٍ كارثي للضمير، ولأن الوعي والضمير مفهومان متداخلان؛ فلا يمكن التعامل مع الوضع الراهن إلا بالاستعانة بمفهوم الوعي؛ يعني بنوعٍ من التعاون بين الفكر والسياسة وصولًا إلى بناء وعي جديد ومنهجيات ومقاربات ملائمة لمقتضى هذا الحال الذي وصفتموه في سؤالكم. وبطبيعة الحال، يعني الوعي، ومن ثم الضمير، تجاوز النظام والمعارضة معًا، وتوجُّه السوريين بعضهم إلى بعض، والعمل بدلالة هذا التوجُّه لتأسيس مشروع وطني سوري جديد.
*نشرت مقالة مهمة مؤخراً عن المفهومات السورية المنهكة، وكان نتيجة ما توصلت إليه أن مفهومات كثيرة عبارة عن أوهام، كيف يمكن تجاوز هذه الأوهام؟
** من هذه المادة الترويج لنوعٍ من تحدّي المسلمات التي تبدو بديهية، ومساءلة أدواتنا السياسية التي تبدو بديهيات. سبب هذا التوجُّه أن السياسة السورية صارت عاجزة عن إنتاج الحقيقة، ولا تنتج إلا الوهم على المستويات كلها، وعليه صار الموتُ يوقِّع كلَّ شيءٍ في عالم السوريين، حتى أفكارهم الجميلة يقتلها تقليدٌ جديد يمكن أن نسميه «وأد التفكير» خدمةً للكسل والسذاجة وسرديات مديح الموت من قبل النظام، وكلُّ الهمج الذين يعلمون معه، وأيضًا من قبل المعارضة الرسمية التي نعرف. مثلًا إذا فكرنا في هذه الثنائية (معارضة، نظام) لن نجد إلا أنها وهمٌ ومسلمةٌ غير صحيحة تحتاج إلى مساءلةٍ لم تتم إلى الآن، وقد نسأل: المعارضة مفهوم ديمقراطي؛ فكيف يكون لعصابة مخدرات ومجموعة من البلطجية معارضةً؟! أيضًا، المعارضة تعريفٌ بدلالة الآخر، فالمعارضة في الدول الديمقراطية معرفة بدلالة وجود نظام، وبدلالة وجود شرعية لهذا النظام، فمن يُصِّرُ على تسمية نفسه معارضًا، يشرعن وجودَ النظام، ويعرف ذاتَه بدلالة وجود النظام، ومن ثم يحافظ على النظام حفاظًا على ذاته! من يرضى أن يُعرِّف ذاتَه ومشروعَه الوطني بدلالة عصابة كبتاغون، وفي الوقت نفسه يظل مستمرًا في القول إنه يفكر بصورة وطنية؟! ويمكن أن نقيس على ذلك لنجد كم من الوهم، والفوضى الدلالية، تحيط بنا!! وكم نحن بحاجةٍ إلى إحالة حُزمةٍ كبيرة من المفهومات منتهية الصلاحية إلى التقاعد أو إلى التعليق المؤقت، للخروج من الوهم!! المفهومات الخاطئة في الفضاء العمومي لها من دون شك قدرةٌ على ترويج الموت، وتبدأ مكافحة الموت من مساءلتها باستمرار، ومن البحث المستمر عن إنتاج الحياة سياسيًا. بالعودة إلى سؤالكم عن سُبل تجاوز هذه الأوهام، قد نقول إن الجُرأة أو الشجاعة اللازمة لخوض غمار طرائق تفكير جديدة وغير مألوفة، والخروج من دائرة الراحة السياسة التي رسمناها لأنفسنا منذ سنوات، وصارت تقليدًا يُحتذى، هي حجر الزاوية في تجاوُز هذا الوهم، والعودة إلى إنتاج الحقائق السياسية وتدبير الواقع وتغييره. 

*لو نتحدث عن انتفاضة أهلنا في السويداء التي بدأت في 17 تموز العام الماضي احتجاجاً على الوضع الاقتصادي المتدهور، وتطورت المطالب لتأخذ أبعاداً أشمل وصلت للمطالبة العلنية بإسقاط نظام الأسد، ماذا تقول عن هذه الانتفاضة؟
**طاقات مدهشة، خلاقة، رائعة، مهددةٌ بالهدر. ما يحدث في السويداء استمرارٌ في تطوير فكرة الحياة ثوريًا وشعبيًا، وإصرارٌ خلّاقٌ على الحرية، لكن تُهدد “النخبة السياسة” وجودَه، ويهدد وجودَه “غياب السياسة”، وغياب القدرة على ترجمته إلى سياسة. باختصار وتكثيف: في السويداء شيءٌ مثل الذي كان في غالبية المُدن السورية في 2011، إنها تشهدُ مخاض ولادة وطنية سورية، ولكن تغيب القَابِلة التي تشرف على هذا المخاض وتجعله يسيرًا. السويداء تحتاج أيضًا إلى “قَبالة سياسية”.

*في مقال لك تقول: لا يوجد مشروع سوري لافت للإجابة عن مقاربة المعنى السياسي لمفهوم الكرامة، مع أنها شعارٌ وهدفٌ منذ 2011 لو توضح من فضلك هذه الفكرة بشكل أشمل وأسهل.
**في مخزوننا الشعبي ثمة ارتباط وثيق بين الكرامة والهُوية، يعني أن الكرامة مرتبطة بالسلوك الذي يحيل على فكرة الأصالة المستمدَّة من الهُوية الضيقة. الكرامة شعبيًا قابلة للتوريث بوصفها سلوكاً يرتبط بسؤال الهوية: من أكون؟ جواب هذا السؤال يكون مثل الآتي: أنا كردي، أو أنا درزي، أو أنا عربي، أو أنا سني، إلى ما هنالك من إجاباتٍ تنهل من الهوية أحادية البُعد، ومن الخزان المعرفي الذي ينهل منه الجميع من دون الحاجة إلى التفكير. ولكن على المستوى السياسي الأمر عكس ذلك؛ ففي العمومي، ومن ثم الوطني، الكرامة لا تلتقي مع الهوية، بل الكرامة مُلازمة لفعل التفكير الحر، ومن هنا نقول لا كرامة في السياسة لمن يتهوى. الذي له كرامة في السياسة هو الذي يرى نفسه فردًا ومشروع مواطن، لا يبذُل الحمية لقبيلة، أو طائفة، أو إثنية، أو عرق، بل هو، إن شئت، شيءٌ يشبه تجربة “الصعلوك” التي عرفناها في الأدب الجاهلي، بما يحمل من فرديةٍ وتمردٍ على تدجين فرديته في سياسة القطيع وغياب التفكير: في السياسة لا كرامة لأي إنسان بوجود إرادة خارجه تتجاوز عقله وتتعالى عليه. التحرر من الهوية أحادية البعد على المستوى السياسي هو شرطُ الحفاظ عليها على المستوى الثقافي والاجتماعي. يعني إذا دخلنا إلى العمومي السوري بوصفنا أكراد، أو دروز، أو سنة، أو عقيدات، أو بقارة، فنحن لا نفعل شيئًا إلا أننا نسيء إلى هذه الانتماءات كلها في حين أردنا خدمتها. خدمتها تعني أن نخلع العباءة التي تشير إليها خارج العمومي فحسب.
*سوريا بلد الجماعات الاثنيية والطائفية، والهويات، هل تعتقد أن هذه الجماعات من الممكن أن تتفق في سوريا الغد على استحقاقات التعايش المشترك؟
** أعتقد أنها ممكن أن تتفق على الاندماج الوطني، بل أكثر من ذلك، أنا أعتقد أن الثقافات في سورية لا وجود لها بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكن ثمة أنساق وجود لا يزدهر أيٌ منها إلا داخل نطاق الوطنية السورية. يعني بكلمة أخرى كل الثقافات السورية مهددة بالتشويه أو الانقراض أو التوظيف في العنف إن لم تكون في داخل نطاق الوطنية السورية.

* كيف تقرأ الواقع السوري؟ هل ترى أن الاتحاد الفيدرالي، أو النظام الكونفيدرالي ملائم للسوريين عامة؟
**قد نغامر ونعطي جوابًا بنعم، أو لا عن هذا السؤال، ولكن ثمة سؤالٌ مهم قبله قد يساعد في تقليل المغامرة: ما هي الدوافع التي تجعل السوريين يبنون هذا النوع من الأسئلة في زمانٍ لا يمتلكون فيه السيادة على بلدهم؟ إن كانت الدوافع هُووية؛ فإجابتي لا، وإن كانت الدوافع ديمقراطية تحيل على مصلحة البشر؛ فإجابتي بالضرورة نعم.
* أكد مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا، ونائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، قبل أيام أن بلاده “مستمرة في مراقبة تظاهرات السويداء، وتدعم ممارسة السوريين لحقوق التجمع السلمي وحرية التعبير” مارأيك بهذا الكلام؟
كيف نترجم ساحة الكرامة إلى سياسة فاعلة؟
**ثمة في سورية ظاهرة تستحق التفكير فيها، وهي اننا من شدة ما نعوِّل على الدول تحوَّل معظمُ من يعمل في السياسة عندنا إلى محللين سياسيين، وصار من الصعب التمييز بين السياسي، والمُحلل السياسي. ولأنك تسأل عن رأيي فإنك تمنحني فرصة للقول بأن هذه التصريحات عن السويداء، وغيرها، لا تعني شيئًا من دون تكوين مجتمع سياسي سوري فاعل ومؤثر في سياقات السياسة حول سورية. الأكثر أهمية من الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول الفاعلة في المسألة السورية، هو تركيز الجهد في الإجابة عن الأسئلة الآتية: كيف يكون ما يحدث في السويداء بوابةً لإعادة السياسة إلى سورية؟ كيف يمكن استثماره في بناء سياسة وطنية؟ كيف نتعلم من أخطاء الماضي ونستقوي بالسوريين؟ كيف نترجم ساحة الكرامة إلى سياسة فاعلة؟ إلى ما هنالك. 
*تقول في مقالة لك: إسرائيل كائنةٌ في الألم، إذا زال ألمُ الفلسطينيين تجوع فتموت، وإذا زال ألمُها، يزول ألم الفلسطينيين؛ فتموت، برأيك هل حققت إسرائيل هدفها المعلن في حربها على غزة الفلسطينية؟
**إسرائيل مثل إيران الخمينية في الحِرفة، يعني يحترف كلٌ منهما أمرين: البُكاء والقتل. وإذا استعرنا تعبيرًا خلَّاقًا لمحمود درويش في “مديح الظل العالي” يمكن أن نقول: إنهما يحشوان بالدموع البندقية. لا يعيش الاثنان من دون بكاء، ولا يعيشان من دون قتل. وسواء تحقق الهدف السياسي المُعلن لإسرائيل، أو لم يتحقق (وهذا المُرجح بتقديري)، فإنها ستستمر في البكاء والقتل أو لن تكون.
* هل من سوء حظ السوريين وثورتهم وتضحياتهم العظيمة أن تتصدر لها هذه المعارضة بمختلف مسمياتها وأشكالها وألوانها؟
**نعم، أنا لا أشك في ذلك. إنها نوعٌ من سخرية القدر الفاحشة بحق السوريين. وأميل إلى إعادة تعريف الصراع في سورية ليفهم بوصفه بين ذهنية تنتمي إلى ما قبل 2011 وفيها النظام ومعارضته معًا، وأخرى تواقة للحياة، تنتمي إلى ما بعد 2011.
*المزاج العام الكردي وخاصة على مستوى المؤسسة السياسية ” الحزبية” يطالب بالاتحاد الفيدرالي في سوريا المستقبل، هل أنتم مع هذا التوجه.. هذا الطرح؟
**ما يمكن الحديث عنه الآن، وفي ضوء الواقع القائم، أن المسألة الكردية قضية وطنية تخص السوريين جميعهم، وأن ضررًا قد وقع على الأكراد السوريين يحتاج إلى جبرٍ بصورةٍ مُنصفة. أنا مِمَّن يعتقدون أن المسألة الكردية لا يمكن أن ندخل إليها من بوابة تصورات الفيدرالية أو اللامركزية فهذا حوارٌ آخر، ولا من بوابة حوار عربي كردي، كما نسمع في الأدبيات السياسية السورية أخيرًا؛ بل المدخل هو في تصنيف المسألة الكردية بوصفها قضية وطنية مُهمة لا تكون سورية ديمقراطية وحرة من دون حلٍ مُنصفٍ لها. 

*ماقراءتك لواقع المؤسسة السياسية الكردية في سوريا، فهناك قطبان سياسيان المجلس الوطني الكردي وأحزاب الوحدة الوطنية، التي يحكمها فعلاً حزب الاتحاد الديمقراطي ” pyd” ومارأيك بإدارة واقع الحال ” الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا؟
**أتصور أن العناوين السياسية التي ذكرتها تعاني، مثل غالبية السياسة السورية، من الأيديولوجيا. والمشكلة أن الأيديولوجيا مفهومٌ لا يصلح لمراحل التأسيس الذي نحن بصدده؛ ولكن يصلح لصهر البشر بعضهم ببعض وسحق الاختلاف. أنا لست مِمَّن يعتقدون أن التقوقع على الكردية، وبناء “كردية سياسية” بهذه الصورة سيؤدي إلى نتائج جيدة للقضية الكردية. مثلًا لو فكرت بتجربة العروبة، ستجد أن أكثر من أساء إلى العروبة بوصفها فضاء روحياً وثقافياً هو أدلجتها في فكرة “القومية العربية”. وبتقديري الأمر نفسه ينطبق على التجربة السياسية الكردية، يعني أنها عندما تفكر في الكُرد بوصفهم كتلة أيديولوجية واحدة ستؤدي إلى تقسيمهم ثقافيًا ووجدانيًا، وهذه كارثة، لأنها سياسة تُسيء إلى الثقافة الكردية العظيمة بأن تدَّعي السياسة بالاستناد إليها وأدلجتها. ثمة ضرر وقع على الأكراد، لا يجوز إنكار وجوده، ولكن لا أرى طريقة لجبر هذا الضرر من دون التفكير السياسي الذي يستند إلى أسس حديثة تقوم على بناء مشروع سياسي يؤدي إلى دولة تحتضن الجميع، وهذا التأسيس بالضرورة لا يكون أيديولوجيًا، ولا هوية له: لا عربية ولا كردية ولا غير ذلك.
وثمة شيءٌ قد نتحدث فيه عن تجربة “الإدارة الذاتية” بصورة خاصة، وهو ممارسة السلوك المركزي ودمجه بصورة هشَّة وكارثية مع خطاب اللامركزية، يعني ما أريد قولَه إن أكثر التجارب السياسية مركزية في سورية هي تجربة الإدارة الذاتية، وأكثر صور المركزية وضوحًا هي مركزية حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذه مفارقة لافتة، ولكنها واقع. حزب الاتحاد الديمقراطي مارس إقصاء الجميع، وعزز مركزية “قنديل” في القرارات الكبرى، ومع ذلك ظل هذا التيار محافظًا على ادعاء اللامركزية بوصفها أساساً شرعياً لوجود “الإدارة الذاتية”! أليس هذا نوعٌ من الهذيان الهووي الذي يجعل من صاحبه ضحيةً لذاته؟ هذا سؤالٌ مهم أدعو القائمين على الإدارة الذاتية إلى التفكير فيه، لأنني أعتقد أنهم أنفسهم سيكونون أول ضحايا هذا السلوك الكارثي قبل غيرهم.

* التهميش والإهمال نال معظم الجماعات السورية في ظل حكم البعث من بداية ستينيات القرن الماضي وحتى اللحظة، ولكن الثقل على الكرد كان بالغ القسوة، كيف يطمئن الكردي، ويقيم في سوريَّته، وأنت تقول في إحدى مقالاتك ” لاكينونة لسوريا من دون كينونة الأكراد، ولا كينونة للأكراد من دون سوريا؟
**القلق على الكردية في سورية قلقٌ مشروع من دون شك، لأنه قلقٌ من جنس القلق على مستقبل سورية كلها. وما دمت تحدَّثت عن الإقامة في أفق الوطنية السورية؛ فيمكن أن نبدأ من هذه المقولة لنقول: إن هذه الإقامة تعني عناية الكردي بكرديته سياسيًا، وتعني هذه العناية في أكثر صورها أهميةً صون الكردية من الأدلجة والحفاظ عليها بوصفها أفقاً ثقافياً وفلكلورياً ومزيجاً من الحب، والسياسة، والثقافة، والانفتاح. ويعني هذا التوجه بالضرورة دعوة العربي أيضًا إلى تطوير نوع القلق نفسه انطلاقًا من اللاعروبة التي بحوزته، وهو بالضرورة قلقٌ يمر بالحرص على كينونة الآخر، وهذا تكثيف لمفهوم المواطنة في حالتنا السورية الراهنة، وفي ضوء العمل السياسي من دون امتلاك دولة.
* الواضح أن التيارات السياسية في سوريا، وأقصد المعارضة لنظام الأسد بعيدة عن التوافق والوفاق، ماذا عن النخب الثقافية من الجماعات السورية؟ ألا تستطيع تقريب وجهات النظر، ودعم سوريا الوطن؟
**النخبة التي تعمل في المجال السياسي هي النخبة السياسية، وإن كانت تستند إلى وجودٍ ثقافي لها، أو تنتمي إلى النخبة الثقافية، فإن هذا لا يغير في الحقيقة شيئًا. في سورية نخبة ثقافية، ولكن النخبة السياسية فيها مفهوم مُعطل، لأن “النخبة السياسية” التي تدَّعي ذلك لا تنتمي إلى هذا الزمان، بل إن غالبية أدواتها السياسية أخذتها من مكب نفايات الثورة. فالثورة قد رمت في هذا المكب مفهومات مثل “البطل” و “القائد الخالد” و”الرسالة الخالدة” و”الاستعلاء على البشر” و “الأقليات” وغيرها الكثير، ولا تزال النخبة السياسية تستخدم المفهومات نفسها التي انتهت صلاحيتها. وإلى الآن، لم يتح للسوريين، إنتاج نخبة سياسية تشبه التغيير الجذري الذي حدث بعد 2011، وتنتمي إليه. وإلى حينه سيظل هذا المفهوم غير دقيقٍ بتقديراتنا.

*باعتبارك كنت رئيس حزب الجمهورية، وعضو مؤسس لهيئة العمل المشترك لحزب الجمهورية واللقاء الوطني الديمقراطي في سوريا، برأيك لماذا فشلت هذه التجربة الوحدوية؟
**لا أميل إلى توصيف “الوحدوية”، بقدر ما أميل إلى القول إنها كانت تجربة تجسير بين السوريين تستند إلى أفق وطني هو واحد بطبيعة الحال. وأما الحديث عن فشل التجربة، فأستطيع تفهمه من بوابة الأمل الذي يبثه هذا النوع من العمل، ولكن لننظر إلى الجانب الإيجابي في الموضوع وهو أن هذه التجربة قد نجحت في تقديم تصورات عملٍ وطني يعتز بالثقافات ولا يؤدلجها، وهذا بطبيعة الحال إنجاز يمكن المراكمة عليه في المستقبل.
*سوريا محتلة من قبل النظام، وبعض المعارضة المرتهنة للخارج والجهات الدافعة، وتركيا وإيران وروسيا وأمريكا، وغيرها من الميليشيات الطائفية المسلحة على مستوى الوطن السوري، كيف يمكن مواجهة مفاعيل هذه الاحتلالات؟
**من طريق ما أسميه “تأميم السياسة السورية” بما يعني التأميم من إعادة ملكية السياسة والسيادة للشعب السوري الواحد. وهذا يمر من طريق مشروع سياسي وطني يعمل بموجب آليات ومنهجيات جديدة، تبدأ من تغيير منهجية التمثيل من منهجية تقوم على تمثيل الإثنيات والطوائف والقبائل إلى جديدة تقوم على تمثيل الموضوعات التي ترقى إلى مستوى موضوعات وطنية تأسيسية. في هذا السياق ثمة حاجة إلى الاستقواء بالسوريين، وبالساحات السورية من جديد، والتقدم إلى السوريين بشيء يتناغم مع طموحاتهم. يعني بعبارةٍ أخرى الإيمان بقدرة السياسة على التغيير، والانطلاق من هذا الإيمان إلى بناء مشروع تمثيلي على أسس أقرب إلى روح 2011، أقصد روح التنسيق والوطنية وملكية السياسة. 
*ثمة قرارات ومؤتمرات ولقاءات دولية كثيرة تخصُّ المقتلة السورية المستمرة من سنة 2011 وحتى اللحظة، لماذا يفشل العالم في وضع حد نهائي وسلام مستدام للسوريين؟
**لا أدري على وجه الدقة نيات الدول الفاعلة في المسألة السورية اليوم، ولكن الذي يمكن أن نقوله في هذا الموضوع أن غياب السوريين عن نقاشات وترتيبات وتفاهمات الساحة الدولية التي تخص بلدهم، غيابٌ كارثي من دون شك. لا يمكن للعالم أن يقدّم حلًا نهائيًا للمسألة السورية، ويفرض السلام الدائم، كما جاء في سؤالك، من دون أن يكون السوريون قوةً سياسيةً واضحةً وفاعلة. هذا إن افترضنا حسن النيات عند الدول، مع أن النيات في غالبيتها لا تبدو حسنة، وتتطلب الكثير من عمل السوريين على مستوى العلاقات الدولية، وهذا أمرٌ يحتاجُ إلى قوةٍ يستمدها السياسي من السوريين في الداخل؛ فالسياسة الخارجية الفاعلة والناجحة نتيجةُ السياسة الداخلية المتوازنة والمتقدمة والحُرة.
مضر الدبس- بروفايل
-كاتب وسياسي سوري
-ماجستير دولي في الدين السياسة والمجتمع العالمي من جامعتي بادوفا وبيمونتي اروينتالي في إيطاليا، ومجاز في الصيدلة من جامعة غومل في باكستان.
-أستاذ محاضر في الفلسفة السياسية في جامعة بادوفا في إيطاليا.
-له عديد الدراسات والمقالات المنشورة وغير المنشورة، ومن كتبه عقل الجهالة وجهل العقلاء (2014)، ومفهوم المواطنة أو صورة السيزنية في المُسقر الإيماني (2021)، وفي ضوء الألم، دراسات في بنى الاجتماع السياسي السوري (2021).
-عمل في السياسة السورية، وله مساهمات نظرية في مجالات تأسيس الحل النهائي للمسألة السورية، كان آخرها مشروع “تأميم السياسة السورية” الذي نشرته جريدة العربي الجديد في مجموعة مقالات بين شهري أيار/مايو 2021 وتشرين الأول/ أكتوبر 2022.
-عمل في السياسة السورية، وشغل منصب الرئيس التنفيذي في حزب الجمهورية السوري بين عامي 2018 و2020، وكان عضوًا مؤسسًا في هيئة العمل المشترك التي انبثقت من تعاون حزب الجمهورية واللقاء الوطني الديمقراطي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…