عبدالرحمن كلو
السلوك الإيراني المنفلت الذي يعبث في مساحات اللادولة
من خارج خطوط الأعراف والتقاليد الدولية يطرح مسألة إشكالية في غاية الخطورة بخصوص توصيف وتحديد طبيعة هذه ” الدولة” ، إذ هي تعتمد سلوك” الدولة” والمسارات الدبلوماسية في مطالباتها الحقوقية مع الجوار والمجتمع الدولي ، وبالمقابل تطلق العنان لأذرعها الميليشياوية لخلق الفوضى وتأمين مساحات ” لا دولة ” تكون كافية لعملها في إنشاء دولة موازية داخل الدولة الرسمية، بمعنى أنها تعتمد إستراتيجية ممنهجة ومدروسة إعتمادًا على نظرية الفوضى الخلاقة لتؤسس من داخل كل دولة دولة مليشيات موازية للدولة الرسمية.
الإستراتيجية الإيرانية الخاصة بالتوسع والهيمنة ليست وليدة أحداث سوريا والعراق أو اليمن فهي بدأت مع إنطلاقة الجمهورية الإسلامية عام 1979 وأسست لمشروعها في لبنان اولًا بُعَيْدَ الإنقلاب وفي خضم حربها مع العراق آثرت على تأسيس حزب الله اللبناني في منتصف ثمانينيات القرن الماضي رغم وجود حركة أمل الشيعية، والمشروع الإمبراطوري العقائدي الإيراني له بعده التاريخي إذ هو حلم حلم قومي فارسي بنكهة مذهبية طالما راودها لقرون طويلة ، لذا من الأهمية بمكان إستحضار عهد الإمبراطورية الصفوية( 1501-1736 ) حيث اعتمدت المذهب الشيعي مذهبًا رسميًا لنظام حكم الدولة أي أنها حددت وعرفت الهوية السياسية والدينية للدولة ، ومن بعد تلك الحقبة التاريخية من الدولة الزندية و القاجارية وحتى الدولة البهلوية التي سقطت عام 1979 غاب عن الدستور الإيراني الهوية المذهبية للدولة، حتى أن جاء إنقلاب الخميني عام 1979 بثورته الإسلامية حيث أُعتمد من جديد المذهب الشيعي كتشريع رئيسي لنظام حكم الدولة وإعادة التعريف بالهوية السياسية الشيعية للدولة ، أي أن في كل تاريخ إيران القديم والحديث تم إعتماد المذهب الشيعي في دستور الدولة مرتين فقط، الأولى في عهد الدولة الصفوية والثانية في عهد دولة ” الثورة الإسلامية ” بقيادة الخميني.
لكن ما علاقة المذهب بالطموح الإمبراطوري في بناء الدولة ؟ لا شك أن في هذا التذكير التاريخي تسهيل لقراءة السياسة بلغة الراهنية السياسية ، فالإمبراطورية الساسانية التي اسقطها العرب المسلمون في القادسية عام 651 كانت عاصمتها مدينة “المدائن” العراقية التي هي جزء من بغداد الحالية عاصمة العراق وتعرف اليوم ب” سلمان باك” بمعنى أن بغداد اليوم كانت عاصمة للفرس الساسانيبن وسقطت على أيدي العرب المسلمين أثناء الغزوات العربية الإسلامية لبلاد فارس، لذا فإيران تحتاج ذات الرافعة الدينية لإسترداد أمجاد إمبراطوريتها الغابرة في العراق العربي وكوردستان لكن بلغة إسلامه الخاص بها لغة الإمام وعلى ” نهج الإمام” مستثمرة الموروث التاريخي الدموي بين أتباع( بني أمية) وأتباع (علي) ذاك الموروث التناحري المفعم بالكراهية والأحقاد ، ومن خلال قصص التاريخ وخرافات الصراع وبعض الرؤى الفكرية لآيديولوجيا وعقيدة المذهب أسست لفكر” الأمة ” الأمة الشيعية وليست الأمة الإسلامية لتكون العقيدة الشيعية رافعة وعنوانا لإستراتيجية مشروعها الإمبراطوري العابر للحدود والسيادات الوطنية.
والخطاب السياسي لإنقلاب الخميني عند ما إستلم السلطة مازال يحضرنا ونقرأه عند كل حدث، فإلى جانب شعار:” الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل” تبنت” ثورة ” الخميني شعار “الإسلام هو الحل” : كتعبير معلن عن الرغبة في تطبيق الشريعة الإسلامية كأساس للحكم والمجتمع ، وطبعا كان الشعار يقصد بالإسلام السياسي الشيعي وفي ذات المسار عاهد وتوعد الخطاب الإيراني بتصدير النظام السياسي الإسلامي إلى كل العالم الإسلامي وكان يقصد تعويم نظام المذهب والعقيدة الشيعية الذي تبناه الدستور الجديد للدولة كنظام حكم رسمي للدولة.
وفي هذا السياق وحول مفهوم تصدير الثورة وإلغاء الحدود الجغرافية السياسية التقليدية أكد حسن نصرالله في إحدى خطاباته المتلفزة إذ يوضح : [نحن لا نريد دولة إسلامية في لبنان بل ما نريده دولة إسلامية كبرى في المنطقة تكون لبنان جزءا من هذه الدولة الإسلامية ], هذا إلى جانب الكثير من التصريحات الإستعراضية الغبية من كبار مفكري ومنظري المذهب بأن إيران باتت تحكم أربع عواصم عربية، كما أن الدراسات البحثية والمواد التاريخية التي تدرس في جامعات إيران تركز وبقوة على تاريخ الجغرافيا السياسية لبلاد فارس في عهود الإمبراطوريات .
ولهذا فإيران الدولة أخذت على عاتقها مهام مشروع إمبراطوري عابر لسيادات الدول برافعة مذهبية لتكون الإمبراطورية الجديدة إمبراطورية الأمة الشيعية ، ولهذا الهدف كان من السهل عليها إستثمار بيئة موروث التناحر التاريخي في باكستان وأفغانستان والسعودية والبحرين وسوريا واليمن ولبنان وحتى في تركيا و أفريقيا لتصنع من الخام الشيعي شتى أشكال وأنواع الميليشيات المرتبطة كأذرع وأدوات للحرس الثوري الذي هو المؤسسة المركزية العقائدية لسلطة ولي الفقيه في قم،
وهذه الميليشيات مكلفة بمهام الفوضى وتفكيك الدول من الداخل أو بتعبير أوضح مهام إلغاء الدول القائمة من داخل هذه الدول، وهذا ما يتطلب سلوكا خاصا بعناوين ” لا دولتية” مثل “محور المقاومة” واستقلالية القرار لإستلاب قرار الحرب والسلم من الدولة والعبث من خارج القوانين والأعراف الدبلوماسية الدولية لتتمكن من عبور حدود السيادات الوطنية للدول التي هي ساحة معركتها.
كما أن اللجوء إلى أسلوب العمل بالميليشيات و نظام اللادولة الهدف منه هو التهرب من المواجهه المباشرة مع المجتمع الدولي ومن سطوة التشريعات القانونية والدستورية للدولة وتبعاتها على الصعيدين الإقليمي الأممي ، وحتى الآن نجحت في الخارج بتأسيس دولة حزب الله داخل دولة لبنان وأيضا نجحت في تاسيس دولة الحوثيين في اليمن كدولة موازية للدولة الشرعية وفي العراق أنجزت الكثير في الجانب الإقتصادي والمالي إذ أسست منظومة شركات وبنوك وإستثمارات وهمية مع قنوات ربط يديرها الحرس الثوري بحيث يمكن لإيران تمويل كل نشاطاتها العسكرية في المنطقة من الاقتصاد العراقي، إلى جانب تقوية أحزاب وكتل سياسية موالية لها وتعمل بالضد من تشريعات دستور الدولة وقوانين المؤسسات الرسمية للدولة العراقية، لكن وبالرغم من هذا النفوذ وتلك الهيمنة فالسلوك الإيراني يصطدم بعقبتين كبيرتين: الأولى هو الوجود الأمريكي المتموضع متذ عام ٢٠٠٣ بحسب إتفاقات سياسية وعسكرية مع العراق الرسمي كدولة ، اما العقبة الثانية فهو إقليم كوردستان الذي يغرد من خارج السرب الإيراني سياسيا وعسكريا ومجتمعيا على عكس الحسابات الإيرانية إذ يحلم بإتجاه آخر مختلف عن إستراتيجية دولة ولاية الفقيه .
والحالة الكوردستانية التي إختارت مسارا تنمويا هادئا من حيث الإستقرار الأمني والمجتمعي والنهوض العمراني والاقتصادي رغم كل الضغوطات المالية والسياسية، باتت تشكل خطرًا كبيرًا على سيرورة المشروع الإيراني في العراق العربي بحكم الشراكة في حكومة بغداد ، لذا فإستهداف الحالة الكوردستانية والنيل من هذا التجربة المتمايزة عن العراق العربي هو من أولى أولويات مهام ” الثورة الإيرانية” من جانب طهران هو فالإقليم بتجربته المتمايزة عن العراق العربي ، خاصة وان الإقليم تربطه علاقات جيدة بالمجتمع الدولي و الولايات المتحدة الأمريكية وهذه العلاقات لا تخدم حرية عمل المشروع الإيراني في العراق .
لذا يبقى المفيد للمشروع الإيراني تشغيل كل اذرع الحرس الثوري في المنطقة لإستهداف الكيان الكوردستاني أولاً وكل حالات التنمية والإستقرار الموازية في السعودية ودول الخليج وإشعال الدول الإقليمية بنيران الطائفية البغيضة، بإستثمار القضية الفلسطينية كأداة شغل والإتجار بشعارات” المقاومة والتحرير ” من لدن فيلق القدس الذي يقاتل في كل مكان ما عدى القدس.