موسى زاخراني.. حياة من حلم و تحديات!

 

إبراهيم اليوسف

 

ثمة مقربون لايمكن اختزال الكتابة عنهم، عبر محض مقالات، تفيهم حقوقهم، لاسيما إذا ربطتنا بهم عرى المحبة أوالتجربة، إلى هذا الصنف من المقرَّبين- تماماً- أدرج علاقتي بالمناضل والكاتب موسى زاخراني الذي عرفته في ثمانينيات القرن الماضي، وتوثقت علاقتنا لأكثر من بعد: اجتماعي- ثقافي في المقام الأول، ناهيك عن الواضح من رؤاه، فيما يوازي ذلك، إذ تمت بيننا لقاءات كثيرة، حيث تبادلنا الزيارات برفقة الكاتب علي الجزيري، أو الشهيد مشعل التمو، أو عن طريق الراحل زناور حاجو، أوالمهندس كاميران حاجو، وقد كانت أكثر زياراته إلينا برفقة الصديق علي ابن الأسرة المقرَّبة تاريخياً، كما زرناه أنا وشقيقي أحمد في بيته في مناسبات اجتماعية عديدة، من أفراح وأحزان.
“بافي كولي” كما عرف على نطاق واسع أو” بافي جيا” كما كان يحب أن يعرف أيضاً، نتيجة حبِّه لجبله وهو الذي كتب إلي  ضمن رسائل كثيرة متبادلة” أنا طوري هفيركي” مشيراً بذلك إلى ما يجمعنا، من أرومة مكانية، مترامية الأطراف، وهو يطلعني على صورة في ألبومه تجمع والده أوسكي زاخراني بأشخاص آخرين ومن بينهم جدنا” حسن شيخ إبراهيم” ولعلها تعود إلى أيام لجوء هذا الأخير إلى- بن خت- في بيت كريمته- رغداء- زوجة جاجان حاجو- نتيجة الأحداث العاصفة في تركيا، ليدفن في- دوكر- وهو في الوقت ذاته نسيب آل عباس أصحاب القرية، أو يسألني بافي كولي من يكن -سيد يوسف قرطميني- الذي التُقطت له صورة في طور عابدين- كما يقول- ونشرتها مجلة ما؟- وهذا مكتوب في إحدى رسائله- فأرد عليه بأنني لست قادراً على أن أحدد هذه الشخصية؟

 

هذا المدخل الذي اتخذته من بين بعض رسائلنا الموثقة- إلى جانب ما سأكتبه من الذاكرة، وله فيها مكانة مديدة، استهلالاً لهذا الاستذكار البرقي لما بيننا، وهوغيض من فيض، إنما لأبين عمق الاجتماعي الذي كان يعنى به، إلى جانب همه القومي الأعلى، كما تربى  في بيته، وفي حزبه: اليسار- الاتحاد الشعبي- البارتي- وإن كانت تجربته مع الأخير جد قصيرة بعكس تجربته مع ثانيهما- و كل هذا أيضا مجرد إشارات مستقاة من المتبادل من حديثنا الاستذكاري، خلال عقد ونيف، من غربتنا، وفراقنا، بعد أن ضاقت به الأرض، لاسيما بعيد حراك الثورة السورية التي كان أحد وجوهها، وكان معتقلاً في سجن علايا، كأحد نشطاء الحراك، كما كتب إلي متسائلاً:
هل تدلني على ابن عمكم القرطميني-   أي ابن أخ والدي- الذي كان معنا في السجن آنذاك، فأرسل إليه صفحته الفيسبوكية، ولا أدري أتواصلا أم لا، فقد قال:
هومن أعلمني في السجن باستشهاد مشعل فصرخت ملء فمي آنذاك
لقد فاجأني أكثر من مرة، ونحن معاً ندخل بيتاً ما أو مجلس عزاء في قامشلي، دافعاً بي كي أسبقه، لأعتذر، إلا إنني أذعن أمام إصراره، ليكون تسويغه لذلك على خلفية أمر لا مفخرة لي به، إلا إنّها قناعات الرجل. ثقافة الرجل التي تسير على موازاة مع يساريته، كي أقول له:
أرجوك ألا تعيدها فأنت مناضل معروف وأكبر مني سناً. ثم أشير إلى لقطات من تواضعه. طيبته، قائلاً له:
لكن هاتين الخصلتين ليستا صالحتين للديمومة، فاحذر!
هكذا خلقت
يرد علي
أنا صلب في مواجهة المحققين إلا إنني لين اتجاه العوام
يحدثني عن كتابته في الجريدة الحزبية، على امتداد نصف قرن- هكذا حرفياً- ومن ثم ضياع أرشيفه. يحدثني عن كتاباته باللغة العربية، و قد كان يسمعني بعض نصوصه بها، فأسجل عليها ملاحظتي: دعك من تقفية النص الحديث لئلا يسمى سجعاً. لا ينسى أن يحدثني عن أبيه وحبه لطلاب الجيل السابق عليه:
لقد كان يفعل كذا وكذا والآن ثمة من أصبح كذا
قبل أسابيع كتبت إليه أن مدير صفحة- إعلامية- طلب سيرته، ويريد التواصل معه، فيوافق على الحال، ويعلمني أن ذلك تم. لقد نسيت أن أسأله: وأنا مازلت أنتظر إجاباتك عن ملف- الانتفاضة- وإن أتذكر الآن أنه وعدني بتكليف أحد مقربيه لكتابة ردوده، وإرسالها إلي، إلا أن استمر أزمته الصحية كانت وراء ذلك.
نعيق البوم الأزرق، هذا الصباح، تصادى في أربع جهات خريطة عالم ذوي ومحبي موسى زاخراني. الأصيل الذي عانى أكثرمن ظلم: ظلم آلة النظام التي جعلته وأسرته من عداد الأجانب وظلم الحياة التي أبقته فقيراً، بالإضافة إلى صدمته السياسية التي لطالما كان يشير إليها- بجرأة خبير- في منشوراته،  شاكياً المقربين الذين عول عليهم كثيراً، وضنوا عليه بمجرد إلقاء تحية، أو زيارة، ولعل أكثرما يدعو إلى الألم هو أنه ما أن كبر أولاده، وبات قادراً على تدبيرأموره الحياتية، بعيداً عن رعب آلة النظام، فإن ديناصور السرطان الفتَّاك كان في انتظاره، ناهيك عن انسداد الشريان التاجي الذي” شله عن الحركة والمشي أكثرمن ثلاثين متراً”  كما قال لي، من دون أن يرفع يديه، إذ قاوم كل تلك التحديات، بجبين ناصع، مرتفع، ليلفظ أنفاسه الأخيره، في إقليم كردستان، بعد طوال معاناة: متلونة. طوال عذاب. ألم. حلم، تاركاً وراءه ما يصلح لكتابة مجلدات من الذكريات التي لم تكتب، كما هو مطلوب من امرىء ذي قامة عالية مثله!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…