أصداء النّداء الاجتماعي

صبري رسول
لقي النّداء الذي أطلقته اللّجنة المنظّمة للقاء دورتموند الاجتماعي بعنوان «نداء لتخفيف مشقّة العزاء بين صفوف الجالية الكُردية في أوربا »، للوقوف على بعض قضايا اجتماعية مهمّة، ومنها قضية العزاء التي تهمّ الجالية الكُردية في أوربا، أصداءً مختلفة لدى الوسط الثقافي والاجتماعي، كانت المواقف في غالبيتها إيجابية تجد في النّداء خطوة إيجابية لتنظيم بعض العادات، بالأخصّ تنظيم العزاء الذي يدقّ كلّ الأبواب، وأنّه يفتح المجال أمام الآخرين لتهذيب بعض الفوضى التي ترافق عاداتٍ وتقاليد اجتماعية حملَها المهاجرون معهم، ويظنّ المرء أنّه، لايمكن تغيّرها أو تبديلها، رغم اختلاف البيئة الاجتماعية بين المكانين، الوطن والمهجر الجديد.
استبقَ الأستاذ خالد بهلوي، نشرَ النّداء الذي وافق على مضمونه الحضورُ بالإجماع، بنشر مقال في Welate me مُثمّناً على الفكرة، ومشيراً إلى أنّ «هذه الفعالية لم تكن الوحيدة فقد سبقَتْها توجيهات بعض من علماء الدين وبيانات كثير ومن العائلات التي بدورها بادرت لإلغاء التعازي في أوروبا، والاكتفاء بالتعازي في البلد أو في مكان دفن الفقيد او الفقيدة.  تأتي هذه المبادرات وهذه النشاطات رغم تأخر إقرارها تحت تأثيرات الوضع المعيشي الذي أصبح ثقيلاً على كل أسرة » لكن الإشارة إلى وقوف الاتحاد العام للكتاب والصّحفيين الكُرد، واتحاد كتاب كردستان وراء المبادرة بالتعاون مع منظمات أخرى تقلّل من مستوى مشاركة الآخرين، الذين ساهموا بقوة في تنظيمه وإنجاحه، رغم استباقية الاتحادين إلى طرح الفكرة.

 

ودعا الأستاذ بهلوي وبروحٍ عالية من المسؤولية الأغنياءَ قبل الفقراء «إلى تبني مبادرة الكرام الذين حضروا وشاركوا بمقترح وتوصية التوقف عن تقديم الطعام في التعازي، وتنفيذهما لما فيهما من خير الجميع».
من جهة أخرى عَنْوَن السّياسيّ الكُرديّ المخضرم الأستاذ صلاح بدرالدين، الذي يعمل منذ سنوات على تأطير الحركة الكردية من خلال مبادرة سياسية تحت اسم «بزاف»، مقالاً تحليلياً مطوّلاً بـ«معضلات الاندماج لن تحل بالنداءات فقط »، ويُفهم من عنوان المقال بأنّه وجد فيه خطوة صحيحة، بدلالة استخدام «فقط» في نهاية جملته، وكأنّ هذه الخطوة يجب أن تلحق بها خطوات أخرى سياسية، أو لنقل بأنّها ستكون أساساً لحلّ القضايا الجوهرية، من خلال ربطه الوضع الاجتماعي بالوضع السّياسية. لكن لم يتناول السّيد بدرالدين الفكرة ذاتها، بلّ ربطها بقضايا الاندماج التي تتعلّق  بالدّولة المضيفة وتفرض عليها سياسات داخلية لمواجهة الأزمات التي تنتج عن المُهاجرين الذين يشكّلون «جزراً ومجتمعات» شبه منفصلة داخل المجتمع المضيف، وتلك القضايا لايمكن حلّها بمثل ذلك النّداء كما يُفهم من العنوان. هنا يمكن العودة إلى مسألةٍ جوهريةٍ  أرهقت كبار السّياسيين الكُرد على مرّ العقود، وهي وحدة الحركة الكُردية. يمكن التأكيد أنّ ربطه حلّ القضايا الاجتماعية بقضية تأطير الحركة الكردية رؤية ثاقبة، وصحيحة، فالمهام لن تكتمل إلا بـ«استرجاع سلاحنا الوحيد في الكفاح واعني وسيلة نضالنا المجدية وهي حركة وطنية كردية سورية سليمة، موحدة، شرعية متصالحة مع نفسها، وشعبها، جامعة لكل الطبقات، والفئات، والتيارات الفكرية والسياسية تتوافق مع شروط المرحلة التي يجتازها شعبنا، ووطننا» كما يطرحه السّيد صلاح بدر  الدين. لكن المفردة التي يجعل المرء يقف عندها طويلاً استخدامه «استرجاع سلاحنا الوحيد في الكفاح»، وكأنّ هذا السّلاح قد اُغتُصِبَ من قبل الآخرين، ويجب استرجاعها، وهذا قد لايكون دقيقاً بالمفهوم السّياسيّ، لأنّ حركات التّحرر القومي أو الوطني تمرّ في أزمات سياسيّة كثيرة، وقد تفقد بوصلتها في بعض المنعطفات، لكن إذا ضاعت فيجب بناء بديلٍ لها وليس استرجاعها. هذه مسألة أخرى لسنا بصددها. كنتُ أتوقّع ألا تفوت مسألة دقيقة تتعلّق بالتّغيير الثّقافي من نصّ أستاذ بدر الدين الذي كان له باعٌ طويل في رسم معالم السّياسة الكُردية. لأنّه لا يمكن للمرء إنكار أنّ التّغيير الثقافي يحصل في كلّ المجتمعات تحت تأثير عدة عوامل من داخل المجتمع ومن خارجه، وإن بشكل بطيء، منها ما يتعلّق بالمادة وأخرى بمسائل أخرى، مثل التّواصل مع الثّقافات الأخرى المختلفة من خلال وسائل الإعلام أو بتأثير من الهجرات البشرية الكثيفة من منطقة إلى أخرى، ومن ثمّ تتوالد عادات جديدة من التّلاقُح الثّقافي.
نعرف أنّ الواقع السّياسي المؤلم والمرير لم يترك للمثقّف الكردي فرصاً ليقوم بدوره، ويحاول السّياسي أن يجعل المثقّف تابعاً يستظلّ بظلّه، وربما يكون الأستاذ صلاح بدر الدين أحد الذين لا يقبل انتقاداتٍ لتجربته السّياسية، ورغم ذلك يتّهم الاتحادات الخاصة بالكتّاب بالتّبعية، وهذا يجافي الحقيقة، فإذا كان هناك «كروبات» ثقافية تتبع تنظيماتٍ سياسية معينة فالأمر لا يشمل أهمّ الاتحادين في السّاحة كما ورد في مقاله:
«ولان الفئات المتعلمة او المثقفة افتراضا، تحذو حذو الأحزاب في اتحاداتها المنقسمة على نفسها بل وبكل اسف تتبع المراكز الحزبية وبعضها امية، فقد وصلنا الى مرحلة من التردي ينتظر فيها – المثقف – ليمنحه الحزبي الرضى، ويركض فيها – المثقف – ويهرول نحو الحزبي بدلا من ان يكون العكس»
فالكُرد، وأخصّ الجزء الغربي من كردستان، ليس لديهم كيان سياسي ليكون فيه للمثقّف استقلالية اقتصادية تمدّه بجرأة الاستتقلال السّياسي، المرحلة الخاصة بحركات التّحرر القومي تمنح للسّياسي دوراً أكبر، وغالبية المثقفين البارزين في السّاحة كانوا أعضاء في الأحزاب السياسية سابقاً. وأعتقد أنّ مثال جان بول سارتر قد لا ينطبق على الحالة الكردية.
كاتب آخر وقف بجرأة أمام هذه الخطوة، ورأى في المبادرة  التي طرحتها منظمات المجتمع المدني وشخصيات أدبية وثقافية وسياسية واجتماعية خطوة جريئة، لايقبلها اثنان: «شخصٌ لايستطيع الخروج من النمطي، ومغرض مفلس يبحث عن أخطاء الآخرين». فالأستاذ أحمد مرعان كتب مقالاً في (ولاتي مه) عن المبادرة التي وصفها بأنّها «مبادرات محمودة» وعنْوَن نصّه بـ«مبادرات محمودة !! عن نداء منظمات المجتمع المدني في دورتموند ». حيثّ رحّب الأستاذ مرعان بالفكرة التي لم يجد مبرراً للاعتراض عليها.
سنترك الشخص الثّاني الذي وصفه الكاتب بـ«المغرض»، لأنّنا لن نلتفت إلى من يتصيّد أخطاء الآخرين، ولن نعير أهميةً لاعتراضه، أمّا الشخص الثّاني الذي يخشى الخروج من السّلوك النّمطي، فمن حقّه التمسّك بنمطيته، والدّفاع عنها، ومن حقّنا مجادلته، ومحاولة إقناعه، والهمس في أذنه:إنّ العادات والتّقاليد الاجتماعية في المجتمعات البشرية تتطوّر وتتغيّر بحكم الحياة المتجددة وتطوراتها، وانعكاسها المباشر على أفكارنا وسلوكنا، والظروف المستجدة لنمط الحياة.
والمجتمع الكردي مثله مثل المجتمعات الأخرى يستطيع أن يتجاوز النّمطية الثّقيلة ويخطو خطواتٍ إلى تجديد ذاته بما ينسجم وطبيعة الظّروف المحيطة به، والقيامُ بخطوات جريئة تجديدية بإرادتنا أفضل من الانتظار والخضوع حتى تترهّل عاداتٌ ننتظر تغييرها بفعل قطار الحياة.
في كلّ المجتمعات البشرية نجدُ فئة من النّاس تساير السائد والنّمطي، ويُزيد من صلابة التّكلُّس الفكري، وأفراد هذه الفئة لا يكونون جريئين إلى درجة مواجهة موروثات اجتماعية قديمة تمدّ العقلَ والنّفس بارتكازات بنائية لايمكن تخطيها أو الانتهاء منها بسهولة، ومن الصّعوبة بمكان التحرّر من تأثيراتِ قيودها.
وردت في مقال الأستاذ أحمد مرعان إشاراتٌ كثيرة تشجّع الرّواد على تخطي أسوار الخوف التي تعيق التّفكير خارج الصندوق الاجتماعي العام، مثل: «علينا أن نعيد النظر في أشياء شتى.. نحن أمام ظواهر تفوق إمكاناتنا .. من يضع الجرس في رقبة القط!!» فإعادة النظر في كل شيء، لا يترك ظاهرة من الظواهر التي تفوق قدراتنا مقدسة ويجب ألا نفكّر فيها، لكن كلّنا ننتظر الجريء الذي سيضع الجرس في رقبة القطّ.
لذلك لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الثّقافةَ، بوصفها مجموعة القيم والأفكار والعادات والتقاليد والمواقف والرموز المشتركة، الموروثة والمكتسبة تنتقل من جيل إلى آخر، وتحدد سلوك الفرد اجتماعياً وتقف خلفه، منها ما يتناسب المرحلة ومنها ما لايتناسب، تُصبح بعضها تعرقل مع الزّمن التّطور الطّبيعي للمجتمع ولا تلائم مع حاجات العصر، والإبقاء عليها يلحقُ الأضرار البالغة لكل أفراد المجتمع، وبمكوناته، لذلك تنبثق أصوات ثقافية واجتماعية كثيرة، «ستعلّق الجرس في رقبة القطّ» تُنادي بالتغيير كحاجة اجتماعية ملحّة، وتخلق  ذلك أساساً للتطور السّياسي.
فالحياة المنظّمة بإرادة المجتمع تأسيساً على الوعي العميق، والإرادة الحرّة، تمنح للأفراد حرية بناء العلاقات الهادفة، وتبني شبكةً من العلاقات السّليمة، وتجدّد أنماط الحياة بما ينسجم مع طبيعة المرحلة.
[1]موقع ولاتي مه، الأثنين 04 كانون الأول 2023.  رابط النّداء:  https://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=29657
[2]   – موقع ولاتي مه، الأثنين 04 كانون الأول 2023.  رابط المقال: https://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=29655
[3] موقع ولاتي مه، الأربعاء 06 كانون الأول 2023.  رابط المقال: https://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=29660
[4] موقع ولاتي مه، الخميس 07 كانون الأول 2023.  رابط المقال: https://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&si

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…