إبراهيم اليوسف
لا أدري تحديداً، متى بدأت علاقتي بالصديق المربي أ. دلكش مرعي” 1953-2023″: الشاعر أولاً، والكاتب، ومن ثم الباحث، وقبل ذلك كله الإنسان المختلف الذي التقينا في محطات عديدة، وافترقنا. فقد اضطررت إلى الهجرة بعيداً عن الوطن، وظل هو من عداد هاتيك الأسماء القريبة التي تشكل بعض إرث الذاكرة، صامداً يواصل رسالته، بلا هوادة، على أكثر من جبهة: اجتماعياً، وسياسياً، وثقافياً، معلماً، مثقفاً، صاحب موقف، عرفت الكثيرعنه، عن قرب، لاسيما فيما يتعلق بالموقف من قضيته ضمن إطار” الحزب الشيوعي” الذي ضمنا، وكان مدرسة نضالية كبرى قبل أن تتم محاولة تفريغها تدريجياً، وكان صديقي فرحان الأقرب إلي، إذ عملنا في مجلة- مواسم- والتقينا في منتدى الثلاثاء، وكنت أعرف أ.فرحان وهو بعد طالب أول إعدادي، بينما كان أ. دلكش يسبقنا: سناً وتجربة وعمق رؤيا، وأكثرنا هدوءاً، إلا إنه الهدوء الذي يلوح برايته الحمراء أمام أي خطأ يتم.
كانت بداية حضور اسم وصورة دلكش في مخيلتي من خلال تردده على بيت أحد الجيران، الذي استأجر كثيرون من قريتهم آلا قوس وكيشك فيه، وأمضى فيه أسبوع امتحانات البكالوريا، وغيره . إنه بيت الراحل ملا يحي إبراهيم الذي أذكر أسماء بعض زملائنا الطلاب من مسـتأجريه ومنهم: شقيقه جمال وفرحان وأسماء عديدة من العائلة الفاضلة وغيرها من الأسر العزيزة التي عرفنا أبناءهم وبناتهم من خلال سفارة القرية في الحي الغربي- في البيت الآشيتي- كما كان معروفاً، ولا يفصل بين بيتينا إلا باب منزل أسرة جارة فحسب- كان اسم دلكش وكذا فرحان- ممن عرفت عن قرب من الأسرة- قبل أن تتوثق العلاقة مع الكثيرين من الأسماء اللاحقة من شباب الأسرة، تربطنا صداقة ومودة واحترام.
وإذا كان دلكش من الجيل الثاني من أبناء العائلة الوطنية الذين ناضل عدد منهم في صفوف الشيوعي السوري، لينضم سواهم إلى أحزاب وطنية كردية، فإن حضور شباب آل مرعي في المشهد السياسي والثقافي كان واضحاً، ولعل دلكش كان من أوائل هؤلاء، فهو: المثقف والسياسي والمبدع والفنان- عازف العود- الذي يشارك في احتفاليات منظمة الجزيرة، في آليان، وعلى مستوى الجزيرة، وسوريا، إلى جانب فرقها الفنية والفلكلورية، ليكون مثال: المبدع متعدد المواهب، إلى جانب ممارسته مهنة التعليم كمعلم وكيل، أو مدرس ساعات، من دون أن يتم تثبيته من قبل أجهزة أمن النظام، إلا في بدايات الألفية الثانية، بعد حوالي ربع قرن من العمل، ليكون اسمه في قائمة المرفوضين في كل مسابقة، وفي هذا تجسيد للحصار الأمني عليه، كشخص، وكابن أسرة ذات موقف!
ما أعجبني في صديقي فرحان ودلكش موقفهما من قضيتهما الكردية وهما في صفوف الشيوعي السوري، إلى جانب كثيرين، أنى احتدمت النقاشات، في هذه المحطة أو تلك حول الموقف من القضية الكردية، وكنت أجسد هذه الرؤية ضمن صفوف الحزب، مع الآلاف، وليس كمحض حالات فردية، وكانت مجلة مواسم تعيش صراعاً مع عقلية بعضهم، ويتذكر أ. حسن قاسم- خورشيد أحمد وآخرون بعض التحديات التي خضناها، و في أرشيفي أكثر من رسالة استفزازية وصلتنا، تهدد بغلق المجلة، إلا إنه وللحقيقة ثمة من كانوا في قيادات الصف الأول يساندون ديمومة المجلة، بعكس أقرانهم، ويستوعبون مثل هذا الرأي، ويرافعون عنه، بعكس محاولات تشويه اللوحة بكاملها، من دون أن يتمكن أحد من النيل من موقفنا. ويخيل إلي أن دلكش وفرحان تركا صفوف الحزب الشيوعي في العام 2000، ليظل بيننا ثمة خيط أخير جامع بالسياسة قبل أن أبتعد وفرحان في العام 2003- إن لم تخني الذاكرة عن العمل الحزبي- ليناضلا في صفوف الحركة الكردية قبل أن ينهي دلكش علاقته التنظيمية نهائياً، بعد أن فعلت ذلك قبل عشرين سنة، ماعدا العمل- إلى حين- في إطار-عام- مع مثقفين وأصحاب موقف من تيارات سورية مختلفة: القومي الكردي إلى جان الإسلامي المعتدل إلى جانب الشيوعي السابق، ممن ظلوا خارج الأطرالتنظيمية!
إذا كانت ظروف الحياة قد أبعدتنا، ليس بعد هذه الحرب اللعينة، التي تركت آثارها على البلد كله، فحسب، وإنما قبل ذلك نتيجة محاولاتنا الدائبة- وفق أدواتنا- في مناوأة الاستبداد، فإن التواصل بيننا ظل- وإن في حدوده الدنيا- في المناسبات الاجتماعية، نتواصل، لاسيما في زمن وفرة وسائل التواصل الاجتماعي، ويراني القريب منه، أتذكر أنني تفاجأت بهاتف منه في العام 2011 يقول لي:
ها أنا وذووك وبعض المقربين في بيتكم ونتناقش في أمر كذا
رددت عليه أنت تمثلني!
ليلة أمس، وأنا أواصل القراءة في رواية- خيط البندول- تفاجأت بهاتف وردني من أحد أفراد آل مرعي المقربين يعلمني المتصل بأن عمهم دلكش قد توفي، أرمي الكتاب جانباً، وأمضي في مواجهة صديقي قائلا:
لا، أرجوك تأكد!
كي يؤكد لي التفاصيل على عجل. لقد توقف قلبه نتيجة نوبة قلبية مفاجئة في الساعات الأخيرة من ليلة 15 سبتمبر2023 وأعرف من خلال أكثر من مجموعة واتس تنظيمية للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الذي يضم زميلات وزملاء أعضاء في الاتحاد من آل مرعي أن النبأ صحيح، و راح المكتب الاجتماعي يعد بطاقة يوستر في نعي الراحل وتعزية رسمية بالصديق دلكش الذي كان عضواً في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين، إلى وقت قريب، قبل أن يتوقف عن التواصل، وليس عن العضوية، يصطدم بالواقع التنظيمي الحزبي ويؤثر العمل- المستقل- مواصلاً نضاله عبر الكلمة، ومن يعد إلى صفحته على الفيس بوك يجد مدى حرائق روحه. أحزانه، وهو يرصد واقع أهله، على صعيد الحرب على الوجود نتيجة هيمنة اللصوص والفاسدين، أو على صعيد الخطر الذي يلاحق إنساننا الكردي في وجوده، بعد أن تم تهجير ثلاثة أرباع الكرد من مكانهم، إما إلى الإقليم أو غيره من دول الجوار، أو إلى أوربا، ولعل في وجود 30 ألف كردي- في مدينة ما ألمانية- دليلاً على حجم النزيف الذي تم، ويعد استبداد الاتحاد الديمقراطي السبب الأول في هذه الهجرة، وإفراغ المنطقة من أصحابها وأهلها الكرد، وها نكرردها بعد انزياح خطر التآمر العنصري على الكرد، بسبب سياساته التدميرية الهوجاء، بحق الكرد: قبل كل شيء!
كم كنت أود لو أن العمر طال بصديقي دلكش، ورأى بعينيه أن حلمه قد تحقق، وأن شعبه قد تحرر من نير الظلم. ظلم الطغاة محتلين وحملة صفة أهلين، زوراً، ويكمل مشروعه الكتابي، لاسيما إن بين يديه الجزء الثاني من مبحثه: إرث الاستبداد- الذي كتبه بوعي علماني، وحرص قومي، وإنساني، وقرأنا الكثير من فصوله، وهو معد للنشر، بعد أن نشر مجموعته الشعرية اليتيمة: أوراق من أحزان وطني بالإضافة إلى الجزء الأول من: إرث الاستبداد الذي نشره قبل سنوات، وبقي كلا العنوانين جزءاً متمماً لاسمه وهويته وبطاقته الشخصية