نزار بعريني
أحاول في هذا المقال التأكيد على موضوعية المعادلة التي تقول مقدمتها انّه” إذا كان هناك تحديد للشروط الأساسية للخروج من صيرورة التفشيل والتدمير السوريّة ، فإن امتلاك نخبة سوريا السياسية والثقافية وعيًا سياسيًا موضوعيًا- يرتكز على قاعدة فهم عميق لحقائق الصراع وموازين قواه ، و معرفة دور العوامل الخارجية وكيفية التعامل معها بناءً على المصلحة الوطنية- يُعتبر جزءًا حاسمًا من ذلك ” ، وتؤكّد نتيجتها ” أنّ الشرط الأساسي لنجاح الدور النخبوي الوطني المعارض هو أن تُبنى علاقات النخب مع القوى الخارجية والداخلية الفاعلة ، على النزاهة والمصلحة الوطنية وعدم التضحية بالمبادئ والمصالح الوطنية من أجل المكاسب الشخصية، المرتبطة بالتمويل والإمتيازات !! ”
في الواقع، لقد أصبح المأزق الذي يعيشه صنّاع “الوعي السياسي النخبوي المعارض ” أبرز تجليات المأزق الوطني السوري ، وقد بات يقتصر دور العامل النخبوي على ما يقدّمه من ترويج لدعايات ” الحليف ” الديمقراطي، الأمريكي والأوربي، وتوصيف سطحي لوقائع المشهد السياسي السوري- عملت الدعاية على تعزيز افكاره ، لتغييب الحقائق ، ومنع السوريين من فهم الواقع ، والتحوّل إلى عامل تغيير رئيسي- والبحث عن فرص الحصول على المكاسب الشخصية والجبهوية الخاصّة!!
إذا كان من الصحيح انّ” أسوأ مافي هذه المرحلة هو ضياع الجهود الوطنية السورية وتشتتها وتشرذمها وهرولتها خلف قوى كان ومازال لها الدور الكبير لما وصلت إليه سورية اليوم” ؛
و أنّه” لن يخرج السوريون من هذا النفق المظلم ، حتى يتنظّموا و يتوحدوا ” ؛
فإن من الصحيح أيضا أنّ “ضياع الجهود الوطنية السورية وتشتتها وتشرذمها ” ومنع السوريين من” التنظيم والتوحيد” لم يكن فقط بفعل أسباب داخلية ترتبط بسياسات سلطة النظام السوري ، خاصّة بعد ٢٠١١، بل كان ناتجاً عن عدم وعي النخب السورية بطبيعة المصالح والسياسات والعلاقات مع القوى “الأجنبية” المعادية لأهداف ومصالح السوريين ، والانخراط في متاهاتها و”التفاعل” مع أنظمة وحكومات لعبت وتلعب دوراً كبيراً في صناعة الأحداث الجارية في سورية، وما تفرضه من مآلات سياسية وعسكرية واقتصادية مدمّرة !!
فيما يتعلّق بطبيعة الوعي السياسي النخبوي الموضوعي، أعتقد انّ من مقتضيات المصلحة الوطنية السورية التأكيد على أهمية أن يفهم “صنّاع الوعي السياسي النخبوي الوطني الديمقراطي” الأسباب الحقيقية وراء المأزق التاريخي والراهن في سوريا والمنطقة بشكل عام، وأنّ يدركوا أنّ أسباب الأزمة الجذرية والمعقدة تعود في الجوهر إلى تداخل مصالح الدول العظمى وطبيعة موازين القوى الدولية والإقليمية،وما نتج عنها من تصاعد التدّخلات الخارجية،ووصولها إلى درجة تركيب “أنظمة محلية” لتلبية مصالح تلك القوى، خاصة الأنظمة الديمقراطية في الولايات المتّحدة وأوروبا!!
نفس المصلحة، وضرورات صناعة وعي سياسي موضوعي يتطلّب فهمًا عميقًا للمصالح والتحالفات والمتغيرات الدولية والإقليمية التي تؤثر على الأحداث، ويقتضي إدراك أنّ ما يبدو من أسباب داخلية ،تتعلّق بأشخاص، أو حتى شكل سلطة، و بأحزاب أو ” تركيبة طائفية ” أو ” تراث متأصّل “،( التي يغرق الوعي السياسي النخبوي في البحث فيها)،
هي في الواقع ، وفي سياقات صراع السيطرة الإقليمية وفعل موازين القوى ، نتائج ، وليست أسبابا رئيسيّة !!
من المؤسف أن لا يرى البعض فارقا بين الإعتقاد بأنّ الوصول تقييم موضوعي للأحداث وتحليلها يتطلب تفكيرًا متوازنًا وفهماً عميقًا للعوامل المختلفة التي تلعب دورًا في تشكيل الواقع السياسي ، خاصّة مصالح الدول والقوى الكبرى والتحالفات وكيفية تأثيرها على الأوضاع المحلية والإقليمية-بما يساعدنا في تحديد الأسباب الرئيسية، وتطوير استراتيجيات وطنية فعالة للتعامل مع التحديات -وبين ” نظرية المؤامرة الإيرانية “التي تحاول ستر طبيعة العلاقات التشاركية بين قوى بين الولايات المتّحدة والنظام الايراني!!
المفارقة أنّ الذين يعتقدون أنّ في هذه القراءة بعدا مؤامراتيّاً ، يعمل على تبرئة الداخل ( السلطوي والتراثي)، هم أنفسهم الذين يعتقدون أنّ ٩٩% من أوراق الحل في يد ” الخارج المتآمر” ، ويعوّلون عليه لإحداث التغيير الذي يحلمون به ، ولا يشغل بالهم ” الوطني الديمقراطي ” سوى ترويج ما يُعلنه ذاك الخارج ، لتضليل الرأي العام السوري !!
المفارقة الأكثر خطورة في سلوك بعض نخب المعارضة :
من المفهوم أن” تدفع ” سلطة النظام اللاوطنية عبر الإرتهان السياسي والاقتصادي للحفاظ على مكاسبها الخاصّة، بغضّ النظر عن مصالح السوريين ،فهل يجوز للنخب التي تحوز على شرعيتها الوطنية بمعارضتها لسلطة النظام، أن ” تقبض ، بما يلبّي حاجات المموّل الخارجي ذاته ، بغضّ النظر عن مقتضيات المصلحة الوطنية ، وما يحقّق مصالح السوريين المشتركة؟
خلاصة القول، إذا كان الشرط الأساسي لخروج السوريين من هذا النفق المظلم ،عبر الوصول إلى مستويات وطنية من التنظيم والتوحيد ، هو امتلاك نخبهم السياسية والثقافية لوعي سياسي موضوعي ، يرتكز على وعي عميق لحقائق الصراع ، ومدرك لطبيعة العامل الأساسي” الخارجي ” في صناعة الكارثة ، وآليات مواجهته الوطنية ، وإذا كان العامل النخبوي الأساسي هو النزاهة ، والابتعاد عن الإرتهان، والبحث عن الفرص عند كلّ مَن يدفع ..فليس من الصعوبة أن ندرك أخطر أسباب المأزق الذي يعيشه الوعي السياسي النخبوي السوري ، ويمنع الاقتراب من حقائق الصراع!
فهل ترتقي النخب السياسية والثقافية السورية إلى مستوى التحدّي الوطني ، ام تكتفي بترويج دعايات التضليل ، و بالنعيق ، واللوم ، وانتظار الفرج الخارجي …من نفس القوى التي كان لمصالحها الدور الأساسي في صناعة أخطر عوامل صيرورة الكارثة؟!
آب – ٢٠٢٣