الشعب الكوردي أبدي الوجود

د. محمود عباس

الكورد الذين ضاعوا بين الله الذي قدم من غياهب الصحراء، والشيطان الذي خلقوه من أعماق الخيال، هم ذاتهم اليوم، وربما غداً فيما إذا ظلوا تائهين بين غياهب غياب الوعي وضحالة معرفة كيفية إخماد الصراع الداخلي والذي أصبح وكأنه شبه أبدي. 
 خارج آفاق الإحساس بالمظلومية، والتباكي على ماض لبس بالسواد، قوى ظلامية وخلفاء المتاهات، وسلاطين الفجور، وأنظمة الدمار والإجرام، حملوهم، جيل بعد جيل، كأمة وأفرادً، الألآم والمآسي، تقبلوها على كره وأكراه، مع ذلك لم تخمد فيهم الإرادة، وبالمقابل لم تنهض لديهم الوعي الكافي لإنقاذ الذات.
 ومع العصور تفاقمت قساوة الحياة بكل أوجهها، لكن ظل الأمل حيا فيهم، مكنتهم من إنقاذ الفرحة من بين ركام الدمار، والحصول على ملذات من فتات القدر بقدر عطاءه، وهو ما دفع بهم ليتكفلوا لخالق ما فوق اللاشعور وأبعد من قادمي الخيال والصحراء، عدم الرضوخ لثقل المصائب وجبروتها، بسند من حس عفوي يأبى الذل، وما أكثر المصائب في عوالم الكورد.
  قهروا ملكوت الموت كلما وقف على أبوابهم، بنفي العدمية الروحية جدلاً والهائمة فوق جبال كوردستان وأعماق أوديتها إحساسا وليست قناعة، واللامبالاة بما سيأتي من الدمار، وابتذال ما تم فرضه على الشعب، وتناسي أهوال التاريخ، وديمومة السير نحو الغاية، وإخراج السعادة من أحضان القهر عندما تبلغ والألآم أقصى أبعاده، فنجحوا في كثيره، ولم ينهاروا على أطراف الدروب المارة بين مستنقعات القوى الظلامية والأنظمة المحتلة لكوردستانهم.
 ذاقوا الشقاء بكل أوجهه، إلى أن أصبح رفيقهم الأزلي، عاشر القهر أجدادهم، وهو اليوم يرافقهم،  مخطِطاً أن يصادق أحفادهم، يعمل ليعيش بينهم بشكل أبدي، فهم بدورهم ولأسباب، وربما منها، وجود جينة ذات طفرة خاصة، تدفعهم ليخلقوا وعلى مر العصور البيئة الملائمة لبقائه ضيف مقرف بوجوده، سهل له، خارجيا وداخليا، ذاتيا وموضوعيا، كل الأجواء لبلوغ مآربه العديدة، كالعيش تحت ظل الأنظمة الاستبدادية العنصرية، والتمتع بالخلافات الداخلية المتفاقمة بين عشائرهم وفيما بعد بين أطراف حراكهم الكوردستاني، والتي حافظت وعلى مر التاريخ القريب التآكل الداخلي بين الأمة وفي شوارع الوطن، تعمق في مراحل متعددة، معاناة المجتمع، بدءً من ويلات المعيشة والهجرة، إلى التناقضات المرعبة بين المغترب الحالم بالعودة والصامد المتكالب على الهجرة من الوطن.
 رغم ذلك، ولربما لوجود طفرة لجينة أخرى تخص الصراع مع الحياة، لدى الكورد، قد لا نجدها لدى الأخرين إلا ما ندر، تجعل البسمة على وجوههم واسعة، والسعادة نابعة من الأعماق في معظم المناسبات الوطنية والقومية وحتى العائلية. شعب يعمل المستحيل لإذلال المعاناة الذاتية والعائلية والاجتماعية والوطنية، التي تكاد أن تكون حصة الكوردي منها مقارنة بشعوب الأرض أكثرها. 
   شعب لا ييأس، ولم يرضخ رغم كل ما أقدم عليه الطغاة، من البشائع بحق الأمة، دينيا وقوميا. ولم يقبل الذل يوما، رغم الأنفالات والقتل الجماعي والتهجير والتغيير الديمغرافي، ورعب السجون التي ملأت بالمناضلين، إلى جانب قبور الملايين من الشهداء. 
 فصدق من قال: كوردستان لا يحتاج إلى مقبرة للشهداء، فهي موجودة تحت كل شجرة وعلى أطراف كل الأودية وفي أعماق السهوب، وبجانب كل صخرة، ويقال أن جبال كوردستان هي صروح لمقبرة الشهداء، والمقبرة هي جغرافية كوردستان. ولاحتمالات وجود تلك الجينة المتطورة لا يزال هذا الشعب يصارع، قساوة الحياة، واستبداد المحتلين، ولا ينسى الغاية السامية التي يتذوقها مع أول قطرات الحليب من ثدي أمه. 
مر قبل أيام ذكرى إحدى أبشع الجرائم في تاريخ شعوب الشرق الأوسط، جينوسايد 3/8/2014م الذي تم بحق أهلنا الإيزيديين في شنكال وكوجو والقرى الأخرى في منطقة شنكال، مع ذلك نهض الشعب ثانية، ككل المرات التي تم بحقهم الجرائم والإبادة الجماعية، وأصبح يناضل من حينه لإنقاذ الأمة، وجلب المجرمين قادة المنظمات التكفيرية الإسلامية، إلى محاكم العدالة الإنسانية.
 هكذا خلق الشعب الكوردي، منذ الأزل، مناضلا من الولادة إلى الممات، يصمت، ويقف أثناء المحن، ويهادن الطغاة، لكنه ينهض ويثور مع أول نفحة للرياح الملائمة، لا تكسره الصدمات، ولا تهدمه المآسي، ولا توقفه الأخطاء، تخدعه لكن لا تعيقه مؤامرات الأنظمة الإقليمية العنصرية عن مسيرته نحو الهدف الأسمى. 
الكوردي يمتص الحياة بقساوتها ومصائبها وملذاتها، هادفاً نحو الأبد، لا ينسى أنه يستحق العيش بحرية وكرامة، ضمن جغرافية كوردستان، حتى ولو كانت النتيجة قتل المستحيل على الأرض، وتعديل جدلية الوجود والتاريخ. 
 الشعب الكوردي قادم من الأزل سائرا نحو الأبد، سكن الجغرافية ذاتها، وقدسها، نحر التاريخ بين جبالها، وخلق ذات لا تبصر إلا لآفاق الحرية. فلا تقف أيها الشعب الأبي، على عتبات الخلافات الداخلية، ولا تفاقم في التآكل الداخلي، ساهم أيه الكوردي بنهوض الكوري الآخر، فالنجاح في القوة، والقوة في الوحدة، والوحدة مصدرها الوعي، والوعي تنير الدروب، والدروب تتجه نحو الحرية حيث قمم كوردستان.
الولايات المتحدة الأمريكية
3/8/2023م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه- لا كحرفة أو هواية- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة. لقد كنتُ- وما…

عبد الجابر حبيب ـ ذاكرة التهميش ومسار التغيير بعد عقدين من اندلاع الأزمة السورية، وتحوّلها من انتفاضة مطلبية إلى صراع إقليمي ودولي، ما زال السوريون يتأرجحون بين الحلم بوطن حر تعددي عادل، وبين واقع تمزقه الانقسامات، وتثقله التدخلات الأجنبية والمصالح المتضاربة. سوريا اليوم لم تعد كما كانت، لكن السؤال يبقى: إلى أين تسير؟ وهل ثمة أمل في التحول نحو…

حوران حم في زوايا الحديث السوري اليومي، في المنشورات السريعة على مواقع التواصل، في تصريحات بعض “القيادات” ومواقف فصائل تدّعي تمثيل الثورة أو الدولة، يتسلل الخطاب الطائفي كسمّ بطيء، يتغلغل في الروح قبل أن يظهر في العلن. لم تعد العبارات الجارحة التي تطال الطوائف والأقليات، والمناطق، والمذاهب، تُقال همساً أو تُلقى في لحظة غضب، بل باتت تُصرّح جهاراً، وتُرفع على…

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…