الكرد في مرآة العدم

صبري رسـول

       في جبالنا تتحول الصخور إلى مقاتلين ، يدافعون عن قضية عادلة جعلتها الآلهة ظلالاً في أعينهم ، في جبالنا تتحوّل الوعورة إلى مجازات آمنة أمام أناسٍ يحبّون الحياة ، وتتحوّل الممرات إلى صخورٍ وعرة أمام جنودٍ مدججين بشهوة الموت ، ورثوا حبّ الطغيان من عمائم سلاطين العثمانيين ، ومن كثبانٍ الصحارى نطّوا إلى حدائق خضراء ، وغرسوا خناجرهم في رحم الحرية ، ناسين أنّ حنين الحرية ترفرف على هضبات الضباب منذ آلاف السنين ، وتخفق في قلوب الملايين ؛ فقيمة هذه الجبال هي مدى قدرتها على الصمود في وجه لعلعة المدفع ، وزحف الموت .
       كردستان لم يعد لها عيون ترسم الألوان ، ولا لها حنجرة ، فقدت حنجرتها أمام اتفاقيات خيانية ، لم يعد لها صوت ، أمام الخيانة تسقط الأصوات ، وتتبعثر الأوراق أمام الريح .

لكن لم يعد أصحاب الشراويل (بتعبير المثقف الشوفيني هارون محمد) يحتاجون إلى عطف الطورانية التي سفكت دماء الأرمن على مذابح دينهم ، وهدّمت قرى على رؤوسٍ رضَّعٍ ملفوفين بأقماطهم .
       يتأبقُ الترك بطاقية أتاتورك متبذّخين على سفوح آرارات وآغري ، وعند نزولهم على سفح هضبة أناضول – وقد خلَت من الشعب الأرمني المذبوح على صفيحة دين العمائم والخلفاء – يتبَرْبَسَون تارةً ، ويتهرولونَ أخرى نحو بلاد الرّوم ، لعلّهم يقبلونهم بين اتحادهم ، ليتجاوزا مهنة التسوّل ، وهم للروم (عُـتُلٌ من زنيم).
       هنا في هذه الجبال شتّل الكرد أحلامهم الشبيهة بعيون زارا ، وهنا دفنَ الكرد آلافاً من سنين عمرهم ، منذ خروجهم من سفينة أبيهم آدم ، وحتى اللحظة ، فجاء أحفاد (ريتشارد) ليوزّعوا سفح آرارات وقنديل وشنكال وجودي على خرائط تقودها السحالي والملالي ؛ هذا ثمن تقديس سلالة ميتان لكتاب (الأحرف الغامضة) مع تقديم قرابينهم على مذبحة العمائم ، فباع أصحاب الوجوه الكهفية تاريخنا وأرضنا ، ولوّنوا سحنات وجوهنا بصلواتهم.


هنا كان سمكو يزخرف ثوب التاريخ ، هنا حمل قاسملو كلام الملائكة إلى منافقي (قُـمْ) ، هنا حمل الشيخ العجوز حلمه إلى حيث طيور الحجل ، ليقطع أنهار الزمن متوجّهاً إلى دولة لينين ؛ رحل جميعهم راسمين في عيون الكرد حدود دمعة مشتعلة ، حباً في الحياة ، وكرهاً للظلم .


       هنا دفَن أصحابُ اللحى تعاليم زارا ـ وهو من انتزع الإنسان من سلوك الغابة ـ تحت محراب الصيام ، وأقاموا سياط الموت حسداً على أرقَ الألوان في مناحاتٍ لا تنتهي في محراب لالش .

هل كُتِبَ عليهم العيشُ في مراثي المدن ؟ هل سُطرت عليهم اللعنة في مدنٍ مشرّدة ؟
       هذه الجبال إن لم تكن أعلى الجبال فهي أكثرها شموخاً ، ثمّ هي الأجمل لأنها أكثر تمرداً في وجه الموت ، و هي أصدقُ وفاءً لأنها تقلقُ مضجع آل(أرطغرل الطورانيين) ؛ إنها تختزل تاريخ أمةٍ ، فهل من المقبول أنْ تتحول قضيةُ الحرية لها إلى عطفٍ ووجهة نظرٍ ؟ وهل يكتفي التاريخُ بتقديم أكياس الطعام لهم لتشكّل لهم وطناً ، هل الوطن مطمور في صرة مساعدات ؟

       كلّما تدثرنا عباءاتهم ، كلما اعتمرنا عمامات (ذي النون) أمطرت (كراماتها) خردلاً على أفواهنا ،  وضباباً من الألم ، ضباباً من التشرّد ، ضباباً من الموت.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي سوريا لا تبنى بالخوف والعنف والتهديد ولا بالقهر، بل بالشراكة الحقيقية والعدالة التي تحفظ لكل مكون حقوقه وخصوصيته القومية والدينية والطائفية دون استثناء. سوريا بحاجة اليوم إلى حوارات ومفاوضات مفتوحة وصريحة بين جميع مكوناتها وإلى مؤتمر وطني حقيقي وشامل . وفي ظل الأحداث المؤسفة التي تمر بها سوريا والهستيريا الطائفية التي أشعلت لدى المتطرفين بارتكابها الجرائم الخطيرة التي…

د. محمود عباس في عالم يتأرجح بين الفوضى والنظام، يبرز المشهد السياسي للولايات المتحدة في ولاية دونالد ترامب الثانية (2025) كمحطة حاسمة لإعادة تعريف التوازنات العالمية. إن صعود ما يُمكن تسميته بـ “الدولة العميقة العصرية”، التي تجمع بين النخب الاقتصادية الجديدة والتكنولوجية والقوى السياسية القومية، يكشف عن تنافس ضمني مع “الدولة العميقة الكلاسيكية”، المتمثلة في المؤسسات الأمنية والعسكرية التقليدية. هذا…

تعرب شبكة الصحفيين الكُرد السوريين، عن قلقها البالغ إزاء اختفاء الزميلين أكرم صالح، مراسل قناة CH8، والمصور جودي حج علي، وذلك منذ الساعة السابعة من أمس الأربعاء، أثناء تغطيتهما الميدانية للاشتباكات الجارية في منطقة صحنايا بريف دمشق. وإزاء الغموض الذي يلف مصيرهما، فإننا نطالب وزارتيّ الإعلام والداخلية في الحكومة السورية، والجهات الأمنية والعسكرية المعنية، بالتحرّك الفوري للكشف عن مكان وجودهما،…

اكرم حسين في عالم السياسة، كما في الحياة اليومية عندما نقود آلية ونسير في الشوارع والطرقات ، ويصادفنا منعطف اونسعى إلى العودة لاي سبب ، هناك من يلتزم المسار بهدوء ، وهناك من “يكوّع” فجأة عند أول منعطف دون سابق إنذار. فالتكويع مصطلح شعبي مشتق من سلوك السائق الذي ينحرف بشكل مفاجئ دون إعطاء إشارة، لكنه في السياسة يكتسب…