مكاييل الثائِر النتن

ماجد ع  محمد 

“إن تاريخ الثورات في العالم يُظهر كم أن مصيرها هشٌ، وغير مؤكد بعد انطلاقها”.
مالك بن نبي
درجت العادة في بلادنا على إعطاء (الثائِر) سواء ككلمة تُطلق على شخصية من لحم ودم أم كمفردة تحوم في فضاء الشعارات أو ترِد في سياق الأدبيات المكتوبة، ميزة معنوية لا يمتاز بها أياً كان من المنتمين لفصيل الأوادم، ولا يتبوأ تلك المكانة إلاَّ مَن كان مِن أصحاب الخُلق والمبادئ ومن ممتلكي الخصال الحميدة في التضحية بالغالي والنفيس لأجل رفعة المجتمع أو من أجل رَفع الظلمِ الواقع على أفراده، وأن يُنظر للثائر كقيمة عالية في عالم الكفاح والمقاومة ونيل الحرية، وحيث أن كلمة الثائر لها وقع جميل في خاطر عشاق الانعتاق من نير السلطات المستبدة أياً كانت تلك السلطة القمعية قومية أم دينية أم مذهبية، رأسمالية أم اشتراكية أم علمانية.
وتلك الصورة الجميلة الملازمة لكلمة الثائر وصاحبها بقيت محافظة على رومانسيتها قبل اندلاع الثورة وظل مفعولها المعنوي سارياً حتى العام الأول من عمر الثورة السورية، ولكن بعد انفجار البركان سقطت الهالة عن الكثير من الأوادم، وحتى المفردات المتعلقة بالثورة التي كان لها مكانة مميزة في نفوس الناس فقدت قدسيتها، وغدا حال ارتطامها بالواقع كحال البراكين عندما تنفجر فتمزق ثوب الكرة الأرضية وتدمِّر وشاحها الأخضر الجميل، إذ غالباً ما ينحرف مسار البركان بعد انصهاره، وبدلاً من أن تتجه حممها صوب قصور الطغاة تراها مهاجمة على المناطق الأكثر بؤساً، ويكون المعدمون هم أول المتضررين من فوران البراكين الاجتماعية وبالأخص في الشرق الأوسط وأفريقيا، وذلك لأن البنى الاجتماعية في تلك المجتمعات هشة ومهيأة للانزلاق، كما أنها حاضرة لاستقطاب كل الأمراض.
وفي الثورات تكون الفئات التي خرجت منها الحشود الرافضة للواقع القائم هي أكثر من يطالها الضرر وأكثر الفئات التي تتعرض أعشاشها للخراب والدمار، وتغدو تلك المضارب أكثر خطورة على حياة الإنسان من مناطق نفوذ السلطة المحصنة، بالضبط مثلما تجرف السيول البيوت الطينية وبيوت الصفيح الماثلة أمامها، بما أن مقومات الصمود فيها شبه معدومة.
كما أن المناطق التي ذاقت الويلات والجور من قَبل هي أكثر عرضة لانتهاك كل شيء فيها ضعف المناطق الأخرى، طالما أن التحلل فيها جاهز للانجراف بالنفوس المريضة فيها نحو المستنقعات الآسنة، كما يقدر البركان على تدمير بنيتها الرخوة والآيلة للسقوط من أول سيلٍ حممي لها؛ والفئات الأكثر تضرراً من النظام القائم قبل الثورة قد يطالها الضرر الأعظم بعد الثورة  أيضاً وذلك بدلاً من تحسن حالها.
إذ في سوريا على سبيل الذكر قبل انفجار الأوضاع فيها عام 2011 كان المواطن المنتمي للقومية الكردية على امتداد سنوات حكم حزب البعث العربي الاشتراكي موضع ريبة ومشكوك بولائه ومتهم سلفاً، وفي نظر كل سلطات البلد هو خطر على أمن الدولة، لذا كان محروماً من وظائف كثيرة في الدولة وممنوع عليه أن يصبح طياراً، بينما أفراد باقي فئات المجتمع كانوا موجودين في مجمل كواليس وسراديب السلطة، ويتمتعون بخيرات السلطة، ويمارسون عاداتها وتقاليدها وشعائرها ويضربون بسيف السلطان متى ما أرادوا من دون إظهار مواقف تشي بأنهم متذمرون من ممارسات السلطة وقوانينها الاستثنائية.
وكان من الطبيعي أن تجد أكبر معارض للسلطة في الخارج له أقرباء في هرم السلطة، وبعد إندلاع الثورة في 2011 وخروج الكثير ممن كانوا محسوبين على السلطة ويحاربون بسيفة ويعتاشون على اُعطياته ممن كانوا يصفقون للحزب والقائد ليل نهار ويتهمون الكرد بالانفصالية حينها، صاروا فيما بعد يحاربون الكرد أيضاً ولكن هذه المرة ليس بسيف الحزب الحاكم في دمشق، إنما بسيف الجهة التي أرسلتهم للشمال السوري، فبعد أن أرسلتهم تلك الجهة لمحاربة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بدلاً من النظام الذي ثاروا عليه، لم يسأل بعضهم بعضا يا ترى هل حربنا هي من أجل إسقاط النظام واسترداد الحرية أم من إجل إنهاء حزب الاتحاد الديمقراطي؟ وهل خرجنا من أجل إسقاط الحاكم في العاصمة دمشق أم من أجل نهب وسلب ممتلكات الأهالي في مناطق عفرين ورأس العين وتل أبيض بدعوى محاربة PKK؟ ولكن بدلاً من طرح هكذا أسئلة على الذات والمحيطين راح بعضهم عند اقتحام قرى منطقة عفرين وتهجير أهلها يُلقون ملاحظاتهم النتنة على أسماع العسكر وهم يوصون فيها عناصرهم بالذي عليهم فعله مع الكرد، وحيث كشفت بعض العبارات التي حفظها أحد المعتقلين لديهم عن ظهر قلب عن وضاعة ما كان وما يزال يدور في أقحاف بعض الأوباش المسلحين المسلطين على رقاب الأهالي منذ عام 2018، وحيث جاءت الوصايا العفنة كالتالي: 
ـ عليكم اعتبار كل كردي متهماً طالما أنه يتكلم اللغة الكردية.
ـ فحتى ولو لم يكن الكردي مع حزب الاتحاد الديمقراطي PYDأو حزب العمال الكردستاني PKK اعتقلوه لأن أقرباؤه في الحزب.
ـ أي كردي ميسور اعتقلوه وأهينوه واستولوا على ما تقدرون عليه من ممتلكاته.
ـ الكردي الذي مع الثورة وضدها عاملوه بنفس السوية.
ـ حجة الانتماء لـ: (  PKK ـ PYD ) هي سلاحكم الرئيسي، لذا اضغطوا على أي كردي ميسور حتى ولو كان ضد (  PKK ـ PYD )  وذلك حتى تسحبوا منه كل ما بحوزته.
ـ الكردي الذي له أقارب في الخارج أهينوه، عذبوه، حتى يأتي بالنقود من الخارج ويعطيها لكم من أجل خلاص نفسه، وهكذا كرروا الأمر معه مرات ومرات حتى يُعلن إفلاسه ويغدو خادماً رخيصاً بين أيديكم.
ـ الكردي الذي لا تستفيدون منه مالياً بكونه فقير أو بكونه محسوب على المجلس الوطني الكردي أو على المجالس المحلية اضغطوا عليه ابتزوه وجرِعوه الإهانة حتى يضطر لترك المنطقة لكي تضعوا أيديكم على ممتلكاته وتحققوا ما تريدونه، وبنفس الوقت نحقق مراد الجهة التي أرسلتنا إلى هذه الديار!!!
هذا بالرغم من أن ذلك الثائر النتن الذي غدا أرجس من جلاوزة النظام الذي ثار عليه، والمستعد في كل ثانية ليكون مداساً للذين أرسلوه وجعلوه قفازهم النتن، له أبناء عم في الأجهزة الأمنية للنظام، وأقارب في مجلس شعب النظام، وأصحاب في القيادة القطريه للحزب الحاكم في دمشق، ورفاق ضباط في جيش النظام، ومعارف في أعلى المواقع في المؤسسات السيادية للنظام، وهذا كله عادي، لا يستدعي الحرج بالنسبة له ولعترته، ولا وزر له، ولا إشكال لديه، ولا مآخذ عليه، بينما الكردي ولمجرد تنفسه الهواء في فترة حكم حزب الاتحاد الديمقراطي PYD في منطقة عفرين، فهو متهم وينبغي إهانته وابتزازه وسلبه ونهبه وإدانته!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…