عزالدين ملا
إن كل من يتطرق إلى الخوض في التحليلات السياسية الدولية والإقليمية في المرحلة الحالية أو مَن كان متابعاً لها، يفاجئهم الدوران الشاقولي والأفقي لسياسات الدول والأطراف المتصارعة في المشهد العالمي عامة، والمشهد الشرق الأوسطي خاصة، والتي يدخلهم في متاهات نوايا الدول والرؤية المستقبلية لماهية النظام العالمي الجديد.
المتغيرات الدولية والاصطفافات السياسية الدولية التي تجري منذ بداية العام الحالي – صحيح أنها ليست بجديد ولكنها أكثر حدة وتوسعاً – توحي إلى أن منطقة الشرق الأوسط والعالم تسير نحو ترتيبات وترسيمات مصالحية وسياسية جديدة مغايرة لِما كانت عليه خلال السنوات والعقود الماضية، ولكن كيف؟
حتى الآن لا أحد يستطيع ان يحدد شكل ولون ذلك النظام العالمي الجديد. لذلك تحرُّك العمالقة نحو مختلف الاتجاهات لإرساء موطئ قدم لها في تلك الترتيبات المستقبلية، إن كانت اقتصادية أو تجارية أو مصالحية أو حتى سياسية، كل ذلك تحقق معادلة مَن الأقوى في المرحلة اللاحقة، والمحرك الاساس هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وقوة عملتها، مقابل المحاولات الروسية لفرض إملاءاتها وسحب دولاً جديدة إلى جبهتا، وأيضاً تحرُّك التنين الصيني الاقتصادي والتجاري والتي تحاول أن تكون القوة الأكثر مصداقية في التعاملات بين الدول وتثبيت قدم لها بقوة في النظام العالمي الجديد القادم.
إن افتعال الأزمات في مناطق عدة من العالم وخاصة خلال العامين المنصرمين، دليل على أن الترتيبات القادمة ستكون له لون ونوع جديد، هنا يبادر لمَن يقرأ المقال، لماذا؟
للإجابة عن السؤال، نعود أدراجنا إلى بداية دخولنا العقد الأخير من مئوية ترسيم النظام العالمي الحالي عام 1923، حيث بدأت ملامح الرؤية المستقبلية تتوضح شيئاً فشيئاً، والخلل الواضح في البنية المجتمعية في الشرق الأوسط إن كانت قومية أو دينية أو حتى الأنظمة الحاكمة القمعية والهشة شعبياً جعل منها تضّطرب في مراحلة عديدة خلال العقود الماضية، ولكن لم تكن هناك إرادة دولية لتحريك هذا الخلل وإحداث شرخ فيها إلى أن وصل الرؤية وخاصة بعد نظام القطب الواحد بأن العالم بحاجة إلى جديد، أما ما هو الجديد لم يتوضح بشكل نهائي.
كما نعلم أن الشرق الأوسط منطقة محورية في العلاقات بين الدول وخاصة الدول الصناعية والتجارية الكبرى كأميركا وأوروبا وروسيا والصين لِما تحملها تلك المنطقة من ثروات باطنية وبشرية ونقاط عبور عالمية بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، مما يجعل تلك المنطقة بقعة ساخنة في كل المراحل الماضية، وتدخل أيضاً في قلب اهتمامات القوى الكبرى، وما الصراعات الدولية والمنافسة على المصالح والنفوذ استدعت الكثير من التحولات الاستراتيجية والتكتيكية في الشرق الأوسط، والسعي إلى تعزيز النفوذ وتثبيت موطئ قدم لهم، لتعزيز دورهم في اللعبة الدولية الآنية والقادمة بين مختلف أطراف النظام الدولي الجديد المعقد.
وما عقَّد الوضع التحركات الحالية بين مختلف الأطراف الدولية وفي اتجاهات عديدة، يُدخل المتابع في دوامات تحليلية متناقضة ومتاهات كثيرة.
كما جعل لبعض دول المنطقة أولويات اقتصادية ممتدة خارج نطاق حدود علاقاتها مع واشنطن، وذلك يرجع إلى المحاولات الروسية لتوسيع رقعة الصراع كما الآن في السودان وكسب بعض الدول في تلك البقعة وتقوية عملتها الروبل الروسي، وأيضاً التغيُّر الواضح في الرؤية الصينية للمنطقة والتي تدخل ضمن حسابات الأمن القومي الصيني، واعتبار المصالح الاقتصادية الدافع الأساسي لبكين في محاولة إعادة التوازن إلى سياستها الخارجية والأمنية.
إلى ذلك نلاحظ مدى الضعف في التحركات الأوروبية، والتي أربكتها الحرب الروسية الأوكرانية، وأظهرت تلك الحرب عدم استعدادها لأي طارئ مستقبلي ليس كما كان يظن الكثيرون.
من هنا، اعتقد ستكون للدول الأوروبية ترتيبات أخرى بعيدة عن المخططات الأميركية، وهذا قد يشكل لوناً آخر لنظام العالمي المنتظر.
إن كان السبب في إحداث الخلل والفوضى في منطقة الشرق الأوسط، ومنها الفوضى التي أنتجت مما كانت تسمى ثورات الربيع العربي، لن يستطيع التحكم بنتائج نهاياتها، وهذا يعود إلى ظهور قوى جديدة لم تكن في السابق كذلك، وفقدان الثقة بالسياسة الأميركية الحالية، وخاصة بوجود تناقض بين ما تعلنها وما تخفيها، ومن ذلك تحالفاتها مع العديد من الأطراف هي كانت تعتبرها في الماضي القريب أطرافاً إرهابية.
كما أن السياسة الأميركية الغير الواضحة، دفعت العديد من الدول إلى اتخاذ خطوات أخرى، منها التقارب الإيراني السعودي، والتحالفات الروسية والإيرانية والتركية على تعويم النظام السوري ومناطق أخرى من العالم، إضافة إلى دعوات الدول العربية بالتطبيع مع النظام السوري الذي كان السبب في كل ما حصل في سوريا.
إذاً، من الممكن أن تكون هناك مفاجآت مستقبلية في شكل النظام العالمي القادم لم تكن تتوقعه أيٍّ من الدول الكبرى، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، والتي قد تكون نهايتها كما نهاية دول أخرى وصلت إلى القمة وانهارت، هذا إن لم تتوازَ بين سياساتها الدولية ونوياها مقابل شعاراتها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما الآن في سوريا.