د. محمود عباس
انضمام حزب “النصر” القومي المتطرف، الذي كان جزءاً من تحالف “الأجداد” المتطرف، إلى المعارضة التركية، واتفاق رئيس الحزب أوميت أوزداغ مع كمال كليجدار أوغلو وعقدهم للمؤتمر الصحفي، قضى على كل احتمالات المعارضة بالنجاح، لأن النسبة التي ستحصل عليها من خلال هذا الاتفاق، والذي لا يتجاوز 2% ستخسر أضعافه من توقعات خروج الكورد من التحالف، وبالمقابل ترسخ احتمالات حصول أردوغان على أكثر من النسبة المطلوبة للنجاح، وقد كان يحتاج إلى قرابة 1% من الأصوات، وخاصة من الشريحة التي لم تشترك في المرحلة الأولى، والتي تقترب من 15% في الداخل وأكثر من 45% في الخارج، بينهم شريحة غير قليلة من الكورد، لأن التقارب بين القوى القومية العنصرية، أدى إلى انسحاب حزب الشعوب الديمقراطي ممثل الأغلبية الكوردية المطلقة، والذي بلغ في مرحلة ما عدد أصواته قرابة 11% حتى ولو أنه حصل في هذه المرة على قرابة 8%،
ولربما على خلفية اشتراكه مع الأحزاب التركية القومية المتطرفة، وعلى الأغلب سيمتنع نسبة عالية من الكورد خارج الحزب التصويت للمعارضة، الموقف الذي كان يجب أن يتبناه الحزب في السابق، ودخول الحملة الانتخابية إما بشكل مستقل مع القوى الكوردية الأخرى، أو مع القوى المؤيدة للحقوق الكوردية أو الوطنية.
التقارب الجاري خدمة إستراتيجية قبل أن تكون انتخابية لأردوغان بشكل غير مباشر، وطعنة للقوى التي تحالفت معها الكورد-حزب الشعوب الديمقراطي، وهي خباثة سياسية دفعت بالمعارضة إلى مستنقع الخدع الانتخابية، ولا يستبعد أن تكون خلفها قوى دولية كروسيا والصين، وربما الدولة التركية العميقة الحديثة التكوين، والتي أصبحت تميل إلى منهجية الخط العثماني، أي حلم الدولة التركية الملية، والتي يقال أن كمال أتاتورك قضى عليها باتفاقية لوزان، وتحلم بها ليس فقط القوى الإسلامية التركية، بل القومية أيضا، الطموح الذي يجمع الطرفين، خاصة بعدما تم إضعاف الدولة الكمالية العميقة، وبدأت القوى العنصرية القومية تنحرف نحو أحلام الإمبراطورية العثمانية، والتي أحياها أردوغان تحت غطاء ريادة العالم الإسلامي السني.
أردوغان هو الرئيس التركي القادم للسنوات الخمس القادمة، وتعني أن مسيرة التطبيع مع سوريا مستمرة، ولن يتنازل لأجندات روسيا وسلطة بشار الأسد، ففي الحرب الأوكرانية روسيا بحاجة إلى أردوغان أكثر من جميع المراحل السابقة، ولذلك سيقبل ببعض الشروط التي ستفرضها تركيا، ومن أهمها مخططات إخراج أمريكا من سوريا وبشكل خاص من المنطقة الكوردية، ومن ثم محاربة الكورد والإدارة الذاتية وقسد، فكما هو معروف هذه من ضمن أولويات تركيا وقد كانت على رأس جدول جميع الحوارات مع روسيا، وإيران، وفي كل المؤتمرات التي عقدت وستعقد لاحقا بينهم حول القضية السورية.
وإشكالية إعادة المهاجرين السوريين ستكون بخلاف ما كان يجري الحديث فيه إثناء الحملة الانتخابية، ففي مقابلة حديثة مع وزير خارجية تركيا، يذكر فيها بأن تركيا لا تود إعادة جميع اللاجئين، والعودة لن تكون فقط إلى المناطق المحررة (حسب منطقة) أي المناطق الكوردية التي تحتلها تركيا وفيها قواعدها، بل تأمين العودة إلى مناطقهم الأصلية ومعظمها مناطق النظام، أي عمليا بدأت لهجة حكومة أردوغان تتغير بعد الشعور بالنجاح.
سيحتفظ بالمعارضة السورية وخاصة المنظمات التكفيرية المدرجة ضمن قائمة الإرهاب لدى روسيا وأمريكا والدول الأوروبية، ليستخدمهم كأدوات ضغط على روسيا والنظام السوري، ولن يتخلى عنهم بالسهولة التي كان متوقعا في السنوات السابقة، فهم إلى جانب أدوات ضغط على النظام، وإيران، ستكون أدوات حكومته المستقبلية لمحاربة الإدارة الذاتية وقوات قسد، في حال لم يستجيب النظام لشروطه، أو لم يتم الاتفاق بينهم، كما وستكون أدوات ضغط على المد الشيعي في المنطقة. وقد أنتبه نظام بشار الأسد إلى هذه الجدلية لذلك كان تطبيعه مع الدول العربية سلساً، وبدون شروط، بقدر ما كانت هناك طلبات من دول الخليج، بعكس ما يجري بين التحالف الروسي الإيراني السوري مع تركيا ممثلة المعارضة التكفيرية السورية.
وعلى أثرها ستحاول تركيا الحفاظ على المناطق السورية والعراقية التي بنت فيها قواعدها العسكرية، لغايتين: الأولى محاربة الكورد، والقضاء على كل ما يتوقع الحصول عليه ضمن سوريا القادمة. والثانية تحويلها إلى منطقة مشابهة لما جرى للقبرص الشمالية، وهي من ضمن إستراتيجية بناء الدولة العثمانية الملية.
كما ومن المتوقع أن يقوم أردوغان بعد النجاح، إعادة تدوير السلطة على منهجية الإستراتيجية الحديثة، ومنها التوازن ما بين علاقاته مع روسيا والصين، واستمرار التعامل المتذبذب مع الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، وهي إستراتيجية لخلق قطب دولي، يستند على العالمين الإسلام السني ودول شرق أسيا المتحدثة باللغات التركية؛ ويستفيد من الصراع الجاري بين الأقطاب الثلاث الكبرى أمريكا، والصين، وروسيا، وحلفائهم.
في الواقع ما بنى أردوغان لتركيا لا يقل عما فعله كمال أتاتورك، من جميع النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية حتى ولو كانت حالة عكسية، ففي المرحلة التي كانت تركيا بحاجة إلى الخروج من تحت هيمنة القوى الكبرى، نشر البعد الإسلامي غير المعارض للغرب، وتحت منطق التوجه الليبرالي، تمكن من نقل الدولة الفقيرة إلى مصاف الدول العشرين الأولى في العالم، وخلق إستراتيجية مستقلة تعامل على أسسها ليس فقط مع دول المنطقة بعنجهية القوي، بل مع أوروبا وروسيا وأمريكا بمنطق المساواة وفرض الرأي، مثلما يفعلها ضمن حلف الناتو، متغاضيا عن أن قوة الاقتصاد التركي نمى على المساعدات الهائلة التي قدمتها له الشركات الرأسمالية العالمية بدون قيود تذكر والتي بلغت في بعض السنوات قرابة 450 مليار دولار أي أكثر من الدخل الوطني التركي، وبعقود آجلة طويلة الأمد، وهو ما سمح له الاستمرار حتى الأن رغم مواقفه المعادية للدول الأوروبية وأمريكا التي سهلت لشركاتها التعامل مع الشركات التركية في العقد الأول بعد وصول أردوغان إلى السلطة.
لا شك لهذه تبعاتها المستقبلية، وقد تجبر الدول المعنية، الكبرى قبل الإقليمية، إلى إعادة النظر في علاقاتها الإستراتيجية مع تركيا الأردوغانية، ومنها دول الناتو، والمتوقع أن تصل إلى درجة النظر في عضويتها، مثلما تم إعادة تدوير العقود الاقتصادية الطويلة الأمد، فلم تجدد العديد من الشركات عقودها، ولا يستبعد أن يتصاعد الموقف السلبي من حكومة أردوغان فيما لو يأتي بجديد على إستراتيجيته المعادية للغرب، وقد يبدأ التدهور الاقتصادي من خلال تراجع سعر العملة بشكل مستمر، ويزداد التضخم أكثر مما يجري في العالم.
أي عمليا قد يكون نجاح أردوغان، الذي سجل مرحلة مليئة بالانتصارات في التاريخ التركي، تفوق سياسي مؤقت في الداخل التركي سينهار مع التدهور الاقتصادي المحتمل تفاقمه خلال مرحلة حكمه الأخير هذا، والتي ربما لن ينقذه ما يقوم به من إعادة التعمير المتسارع في مناطق الزلزال، والعقود النفطية- الغازية مع روسيا وتركمانستان وأذربيجان، وغيرها من الاتفاقيات مع روسيا وربما مستقبلا مع الصين. إلا في حال إعادة النظر في استراتيجيتها على ثلاث محاور، وهو المتوقع عند ازدياد التراجع الاقتصادي وتدهور العملة: الأول في الداخل إي حل القضية الكوردية بشكل مناسب، من خلال التصالح مع حزب الشعوب الديمقراطي، وإعادة النظر في سجن قيادييها. ثانيا، التخلي عن التدخل في شؤون دول المنطقة. ومن ثم التصالح مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والاحتفاظ بعلاقاتها التجارية مع روسيا والصين.
الولايات المتحدة الأمريكية
24/5/2023م