انتفاضة جنديرس: انتفاضة النار

 

إبراهيم اليوسف
 
لم يدر أفراد أسرة “بيشمرك”، في جنديرس، وهم يشعلون نار عيدهم القومي الإنساني- نوروز- فوق سطح منزلهم، في تلك الليلة الفاصلة بين شتاء يجرُّ أذياله، بخجل، وربيع حيي، قادم، أن ما يقومون به ليس مجرد أداء طقس رمزي- مواجه للظلم-  تقليدي طالما قاموا به، من قبل، كما فعل آباؤهم. أجدادهم، وهم يعلنون عن كرديتهم، في الوقت الذي صنفت فيه هذه النار، عهداً إثر عهد، في قائمة المدنس، من قبل من لا يريد لهم الحياة، ويكن لهم ولنارهم العداء، بعكس فعل النار كأحد عناصر الكون والوجود، كأثر للشمس، أو كأصل لها، لا فرق، ما استفزَّ ربيب ثقافة- إلغاء الآخر- في أن يوجه إليهم سبطانة- رشاشه- بدم بارد، وقلب يغلي حقداً ولؤماً، وكأنه في جبهة مواجهة مع عدو، وليس في مواجهة أسرى كرام، لم يتعدوا حدود بيتهم، بل مدينتهم.
 إن ما أقدم عليه القاتل- ومن معه- لم يأت من فراغ، فهو لن يعدو أن يكون أحد المصفقين في مهرجانات الاتحاد العام للفلاحين أو العمال، أو مسيرات حزب البعث المتسلط، ليهتف ظاهراً لحياة “قائد” مجرم، وسراً لآخر أشد إجراماً، يفصل بينهما فرات أسير بين حدودين” سايكسبيكويتين”، من دون أن ننسى الفضاء العقيدي، الذي ترعرع فيه، وسط هذه المعادلة المؤسسة على: التمايز- السوبرمانية الرخيصة، من دون أن يكون هناك ما يشفع له في سلوكه، وتفاصيله اليومية، وحتى تراث هكذا- عقل- مأفون، استطاع التنقل من مركبة إلى أخرى، كي يتسلل إلى- جنة الكون- عفرين التي عانت طويلاً، تحت ظل النظام الاستبدادي العنصري، إلى عقود، قبل أن يغدو هدفاً لطائرات الحالم ببسط سلطة الخلافة، ما بعد الحداثية، واستعادة دفة العبودية في هذا الشرق البائس، واتخاذ كائنه وقوداً، من أجل حرب كبرى، يخضع له العالم كله، كما كان ذلك في أسِّ مدونته التي تسببت بالكوارث والويلات، في إطار سلسلة عهود مماثلة، استهدفت الكردي، قرناً بعد قرن، إلى أن فرضت  عليه اغترابه، إلى حدِّ الوشوك على الأفول، لولا ما كانت تدعو إليه الصفوة، من قادة الثورات، عبر هذا التاريخ، ما جعل الكردي كائن ثورات الشرق، بلا منازع، لأنه كان ضمير الدين الحنيف، في مواجهة تزويره، وجعله أداة تهلكة وإلغاء له، ليسجّل في خانات سواه، إلى أن بات بعض غلاة العنصريين يعدونه ضيفاً في بيته الذي يحتلونه!
لقد تم منع الاحتفال بعيد نوروز في عفرين منذ السنة التالية للاحتلال-2019- وألزموا المجالس المحلية التي هنأت بعيد نوروز القومي بسحب تهنئتهم، تحت الضغط، وصاروا يعممون سنة بعد أخرى، عشية نوروز بمنع مظاهر الاحتفال. منع التجمعات، وقبل كل شيء: منع إشعال النيران، بمعنى أن القاتل- هنا- مفرد بصيغة الجميع، ولا يمكن اعتبار ما تم- حادثاً فردياً- فحسب، وإنما هو تنفيذ لقرار المحتل. تنفيذ لفكرة- جيش الارتزاق- بفصائله المجرمة، من دون أي استثناء، ولعل ابن عفرين، قد وجد في موفد- جمعية البارزاني الخيرية- بصيص أمل دفعه إلى التفاؤل، بإعلان عيده، على نحو أوضح، بعد أن كان يشعل ناره، على نحو سري، ما أدى إلى استفزاز العقل العنصري، الذي يراد أن يقدم كمجرم، وتحول من متنمر، إلى فأرٍ فارٍ، فضاقت به الأرض، وبات ذليلاً، خانعاً، إلا إنه- في المحصلة-  بين يدي- أمثاله- معلميه، صانعيه، أية كانت هوياتهم، فهم من عداد مرتزقة الاحتلال. المرتزقة الذين يجب أن يحاكموا جميعاً، باعتبارهم جزءاً من الاحتلال الذي لابد من إنهائه، وإن كان هذا الإنهاء لا يأتي فعل صدقة من قبل المحتل، مالم تكن هناك جهود متكاملة عامة، لطرد فلول المحتل من كل شبر محتل في: عفرين- سري كانيي/ رأس العين- تل أبيض!
إن أية قراءة عميقة للعداء للنار، في دماغ قتلة- حرَّاس جنديرس الأربعة- أو موقدي مشعل نار نوروز الجنديرسي، تحيل إلى فكر يستهدف الآخر، في وجوده، في تاريخه، في إرثه وتراثه، في علاماته الفارقة، باعتباره لا يتقبله إلا كأنموذج متناسخ عن الذات، بعيداً عن خصوصيته التاريخية، وتفاصيله، وتمايزه، ناهيك عما ترتب- لاحقاً- لاسيما في المئوية الأخيرة، من تغذية ممنهجة لهذا- الدماغ- بكل أصناف السموم، أمام أعين العالم، من دون الاكتراث بشخصية هذه الضحية، وأعني: الكردي تحديداً، محور مخططات التآمر العام عليه. التآمر الأممي. القوموي، الدنيوي، الدينوي، حتى من لدن من هو ذاته سبب في وجودهم، واكتمال ملامحهم، من جيران، أو شركاء، تحولوا إلى محتلين، والتوصيفات لا تعمم هنا على عوام الملل، وإنما على أولي أمورها المتوالين، مرحلة تلو مرحلة، ضمن خطٍّ بياني تصاعدي من ثقافة التسلط والكراهية التي يدفع- الضحية- ثمنها، من وجوده، وحاضره، ومستقبله!
وإذا كان الشهيد- سليمان آدي- ابن قامشلي، قد قادت دماؤه التي سالت أول مظاهرة، صوب القصر الجمهوري. دمشق” قلعة الصمود؟!” بحسب الزعم، أجل، صوب قصر الطاغية حافظ الأسد، في أوج  زمن الرئيس الدكتاتور. الأسد-الأب، وكان من نتائجها: اهتزاز عرش هذا المستبد، الذي عاجل، ليتصرف- بدهاء- ومكر، وخبث، مسمياً يوم نوروز- عيد الأم- ليكون يوم عطلة، في محاولة لإرضاء الكردي، بل الضحك عليه، واعتبره بعضهم- عطاء- غير مسمى، وهو الذي لم يذكر إعلامه علناً، اسم- الكردي- إلا بعد مجزرة-سجن الحسكة1993-، وكان من ضمن  شروطه المسبَّقة على محاوريه عدم ذكر- اسم الكرد- في أسئلتهم عليه، فإن دماء شهداء جنديرس- الأربعة- وذويهم من الجرحى، لم تتحول إلى زيت لإعادة النار إلى المشعل الذي حاول المجرم. عدو النار. الذي يحمل رشاشاً ورصاصات أعطاه إياها المحتل- التركي- بعد أن أطلق يده:
اقتل الكردي، اختطفه، انهبه، اسجنه، آسره، اقتله، بعد اتهامه، وضعه في خانة:
 صالح للذبح-
مهدور الدم!!
 باعتباره: ضمن تصنيف معادٍ، حتى وإن كان من ضحايا هذا التصنيف، أصلاً- وهو كذلك حقاً- إلا إذا قارنا الاستبداد الأول، بالجينوسايد، رغم تداخل العامل الممهد مع عامل الإجهاز والفناء، حتى وإن لم يرد المستبد ذلك، إذ شتان بين الحالتين، بل وإن كان مثل هذا التقويم، غير بعيد عن سطوة العاطفة في لحظة ما، والعقل في لحظة أخرى، موازية، أو متاخمة، أو متنافرة، باعتبار الاستبداد، وإن أدى إلى- الاحتلال- زائل، وإن بعد حين!
الفيديوهات التي وزعت، وتوزع- تترى- بعد جريمة مجزرة- جنديرس، عشية عيد نوروز، كانت رسالة للعالم بأسره، عن أصالة ابن المكان. ابن جنديرس. ابن عفرين. الكردي، عامة، وهو يتشبث بترابه، بمكانه، تعطينا- دفقة أمل- جديدة، بعد خمس سنوات من الاضطهاد. الظلم. الاستعباد. السلب. الجور. السطو. الخطف. القتل، من قبل أدوات المحتل، بحق أهلنا في عفرين، كما سري كانيي- تل أبيض إلخ، لأن ابن جنديرس واصل صرخة أبناء- بيشمرك- وكسر أصفاده، وقيوده، في انتفاضة عظمى، تسجل باسمه. انتفاضة دخلت التاريخ، باسم جنديرس، وتوقيع من دماء أبناء جنديرس. وإرادة جنديرس، وعملقة إنسان جنديرس، فلباها الكردي أينما كان، متضامناً معها، كل حسب إمكاناته، وهو يواصل نوروزه الجريح. المدمى، رداً على مخطط إفراغ عفرين ممن تبقى من أهلها، استجابة للب المؤامرة:
نحو عفرين دون كرد!
 ليتم وضعهم في مخيم خاص- كما حدث ويحدث حول منطقتي الشهباء و  – وفق مخطط- قاسم سليماني- بعد أن نجح مخطط المحتل في إفراغ سري كانيي من أهلها، فلم يبق هناك إلا حوالي تسعة وأربعين شخصاً، وهم من كبار السن، الذين يعاملون معاملة الأسرى-كما حال كرد تل أبيض- بينما كل الأراضي الزراعية والمحال- هناك- يستثمرها الغرباء، أدوات الاحتلال، الذين يعيشون في بيوت الأهالي بعد طردهم منها، وهوما يجري أمام أعين العالم كله، وقد بات لزاماً على كل من يحضرون المؤتمرات الأممية أن يحضروا معهم هؤلاء المنكوبين، كي يشرحوا لمن تنطعوا لقيادة العالم، ما جرى ويجري لهم، لأن وجودهم في هذه المواقع والملتقيات إنما هو لأجل- قضيتهم- وليست” القضية” مفصَّلة لأجل ذواتهم، كما بات يفهم من سلوكيات بعضهم!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…