مرضٌ ألمَّ بي فألممتُ به

 إبراهيم محمود
على مدى يوميين متتاليين، والبدء ليلُ، والمختتم ليل ” من ليل السبت 18- إلى ليل الاثنين 20- آذار 2023 “، ألم بي مرض، وكان أنفلونزا حادة، وأسمّي ما ألم بي مرضاً، لأنه لا يترك للراحة سبيلاً، لا جسماً ولا نفْساً، ولا للعقل ولو هامش نشاط، ولو أنه استمر أياماً لما ترك للجسد قواماً، وللروح مقاماً، وقد منعني من التواصل أولاً مع روحي التي اعتادت منذ عقوداً القراءة والكتابة، والتواصل مع أهل الحياة من الكتاب أصدقاءَ، ومن المعارف محبّي حياة وأهل الكتاب.
وربما هي مفارقة، حين أشير إلى مباشرة نشاطه وتسربه إلى الجسم من دون استئذان، وهو يعرَف بهذا التسلل، ودون استئذان كعادته، محكوماً بقانونه الخاص، ولو أنه استمر أطول من ذلك وعلى مراحل متقاربة جداً، لكان الوضع مختلفاً جهة النظر فيه، وما أنا عليه الآن، وهو يحكم قبضته اللامرئية شبه القاضية، من إيلام ومن إيذاء وبث وجع في كل مسام، في كل عصب وخلية وعضو جسمي. وأقول مفارقة، لإتمام المعنى المرصود هنا: البدء ليل، والمختتم ليل، وفي الأول يشار إلى الظلام، إلى المنظور إليه موتاً، وإلى انعدام النشاط، وخروج الجسم عن التحكم على كونه جسماً، والعقل على كونه عقلاً، ألهذا قيل ويقال: العقل السليم في الجسم السليم؟ أستدرك هنا في الحال: لا بد أن هناك استثناءات، فثمة من يقاومون أمراضاً، ويثابرون على نشاطهم العقلي وأن ألم بهم مرض ما، أو أكثر، من نوع السرطان – مثلاً- لكن الأنفلونزا تمنع من معايشة أي نشاط، وتنزل في الجسم لون عقاب واحد، أو لعله أسلوبها الوحيد في كيفية تدبير إيذائه للجسم بكامله الجامع بين ما هو عضوي وما هو عقلي، في حالة كهذه، يكون الاستثناء البليغ والموجع، حيث العقل يصبح محكوماً بما هو عضوي، ولا تعود الروح بقادرة على فعل شيء، إنما بانتظار ما يترتب على فظاعة حالة كهذه، وينزوي التفكير جانبياً في أدنى مستوى له من النشاط، والحواس تعيش ضمورها تحت وطأة الألم.
في انتشار ألم مفاجىء كهذا، حين يتساوى خضوع الجسم المحكوم بعضويته لمرض مباغت كهذا، وليس فيه ما تم تجاهله جانباً، للألم الذي يقيم هدنة للجسم، أو يتراجع لبعض الوقت، رغم المسكنات أو الأدوية المزعومة بأنها مقاومة لألم كهذا، وما في ذلك من إشعار بأن هناك الكثير مما يجب على الطب أو علم الطلب الخوف فيه تجاربياً، والنظر فيه عملياً، جهة الأمراض، ومن ثم آلام الحالات الطارئة التي يتعرض لها جسم الإنساني، وما في ذلك من إشهار، بأن الذي عاشه الجسم البشري، وما تعرض له من آفات في هذا السياق لا يحاط به، وأن الذي يتعرض له من غزوات متتالية، أو دورية أو سنوية أو حقبية ومتباينة في أنواعها حدة، وأوجاعها إيلاماً ” ومن ينسى كورونا في أجيالها السريعة والمتعاقبة؟ ” ليكون لأوجاع الجسم، ما يسبق التاريخ المكتوب طبعاً، وأن الذي جرى تأريخه وأرشفته حول ما تقدم، قليل جداً.
ليس في المقدور وضع مسرد دقيق لثواني الوجع المتنشط على وتيرة واحدة إجمالاً، لأن الذي يعيش ألم جسمه ومعاناته ودقائقه، ليس كالذي يبرأ منه، أو يتحرر من وطأته، إذا أراد تقديم وصف له، فالمفردات التي يقولها عما يعيشه، تكاد تكون صارخة، أما هنا فثمة نوع من التروي والانبساط والاعتدال، كما لو أن الذي حل به، وقد صار بينهما فك ارتباط، وصار من الماضي، يصبح للكلام معنى آخر، لأن الجسم الذي يعاود نشاط، وكذلك الحال، يتسع محيط نشاطه، والعقل يوسّع حدود أفكاره وما يريد النظر فيه. والموضوع قائم على مسافات ومساحات، وصلة كل ذلك بحالات الجسم المرضية غالباً. في المرض، في الوضع المذكور، يتخذ الجسم مرغماً أكثر الوضعيات تميزاً بالضآلة، والانسحاب إلى الداخل، جرّاء طغيان الألم، ومساحته لا تُذكر، إذا قيست بتلك التي يُرى بها في حالة الصحة، لكان القبر الذي يوارى فيه الثرى يتناسب ومساحة الجسم في الوضع الوضعي الذي يعرَف به، وآل إليه أمره فيزيكياً.
يومان آذاريان، في لائحة المفارقات الآذارية حيث نفسي كانت تنازع نفسي، توقاً إلى ما عرفتُ نفسي به، وما عرفتُ به خارج نفسي، وعن طريق نفسي، وما في النفس من حضور للإرادة، في وجب المجالدة أو الصبر، لأن عبوراً لرهبة ألم لا بد أن يتم كما هو معلوم في تجارب الآخرين، وهو ما يُسجَّل للنفس في الاصطبار، وما في النفس من اقتدار.
وربما التاريخ له دوره في منح جرعة تحمّل دوره، أعني به شهر آذار، تذكيراً بالكثير من أوجه المقاومة الآذارية، ومن الإكسير الآذاري، ومعاودة الحياة .
وما أردته من مقالي هذا، هو أنني أردت تأريخاً مختصراً له، لأن الذي عشته من ضراوة الألم جسمياً، ولكنه تاريخ في المحصلة، يستحق النظر فيه، والتعلّم، حباً في الحياة بأعمّ معانيها، وحباً بكل مكونات الحياة وأهليها، بأشمل دلالاتها العميقة الأثر، وحباً بالذين يقدّرون من يعملون في الحياة وأهل الحياة، وفي خدمة الحياة، وممن يتمنون لهم كل الصحة والعافية .
أصدقائي، أحبائي، عن قرب وعن بعد، هأنذا أقدّم شهادة برئي مما حصل، فشكر للصحة التي حفّزتني على كتابة مقالي عن نظيرها المغاير، المرض، وأعود إلى القراءة والكتابة، أعود إلى الحياة التي تصلُني بمن يعيشون الحياة في تنوع مراميها ومغازيها وحضوراتها عمقاً.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم ويوم على سقوط الأسد، لكن الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم يتجاوز بكثير الساعات التي مضت. هذه الأشهر الماضية التي تنوف عن الثلاثة كانت مليئة بالتحولات السياسية غير المنتظرة، إلا أن الواقع الأمني والمعيشي للمواطن السوري لم يتحسن بل ازداد تدهورًا. إذ من المفترض أن يكون تأمين الحياة للمواطن السوري هو أولى الأولويات بعد السقوط،…

شيروان شاهين تحوّل الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ 14 سنة كحركة احتجاجات شعبية، من حالة صراع بين ميليشيات مسلحة وسلطة منهكة على مستوى أطراف المدن والأرياف إلى صراع طال شكل الدولة ككل. حيث أفرزت الحرب الأهلية واقعًا وعنوانًا جديدًا في 8 ديسمبر 2024: انهيار دولة البعث وإعلان دولة القاعدة. تميّز حكم البعث، الذي بدأه أمين الحافظ “السني”…

اكرم حسين   طرح الأستاذ عاكف حسن في مقاله هل ما زلنا بحاجة إلى الأحزاب السياسية؟ إشكالية عميقة حول جدوى الأحزاب السياسية اليوم، متسائلاً عمّا إذا كانت لا تزال ضرورة أم أنها تحولت إلى عبء ، ولا شك أن هذا التساؤل يعكس قلقاً مشروعًا حيال واقع حزبي مأزوم، خاصة في سياقنا الكردي السوري، حيث تتكاثر الأحزاب دون أن تنعكس…

صلاح عمر   ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه. هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات،…