في ضيافة روداو

 إبراهيم محمود
في لقاء قناة ” روداو ” الكردية مساء يوم الخميس: 16-3-2023، كان للحديث عن الكتاب وهمّ الكتاب عموماً والكتاب الكردي خصوصاً، ووجع الكاتب عموماً، والكاتب الكردي بالمقابل خصوصاً، حضور تناسَب مع الوقت ومع مكانه في قلب معرض الكتاب الدولي ” 15 ” الساعة السابعة مساء. كان لقاء مباشراً يسجَّل له اعتباره ومكانته. فالمباشَر يحدد قيمتين ربما لا يُفكَّر فيهما: النشاط وارتباطه بالجهة المعنية، حيث التقدير قائم، وبالنسبة للمشارك، ووجوب اختيار ما يكون أكثر دقة، لأن في ذلك تتبيّن نباهته أو مدى قدرته على التعبير عما يعنيه ونوع اللقاء.
كان اللقاء مع الأستاذ دلبخوين دارا، ولعلّي أقولها دون تحفظ هنا، شيّقاً، وما أسمعني إياه قبل البدء، في حلقة من المحبين والمعنيين بهم الثقافة والكتاب، طمأنني أكثر، وبروح من الدعابة، وطلاقة الوجه” خذ راحتك “. وأضافت مشاركة الصديق الكاتب والروائي الكردي القدير جان دوست مسحة جاذبية وإثراء مشهد اللقاء والانفتاح أكثر، إلى جانب مشاركة شابة فتية كردية طبعاً، هي: زارا، أقدّر في روحها حبها للكتاب وأهله، ومتابعة هم الكتاب وتبعاته: نشراً وتوزيعاً،ومن قامشلو، حيث شاركت بجناحها ” شلير ” في المعرض، ذلك يستحق التقدير، وهي تعبّر عن الكتب وهمومه، وفي مثل وضعها.
تمحور اللقاء وفي وضع لا يُحسَد عليه، حيث أودع دلبخوين، وكما أسلفت، الكرَة في مرمانا ” ثلاثتنا ” وهو يسمعنا صوتَه صراحة: خذوا راحتكم، قولوا كل ما تستطعيون قوله. ذلك، كما أقدّر شكّل تحدياً بيننا وبين أنفسنا، أي ما يمكن قوله دون تحفظ، لنكون في إطار اختبار الذاكرة، ومدى قدرتها على الاستجابة لما نريد قوله، وجهة الأسئلة التي تتابعت وتكاملت وهي تنثر أجوبتها .
أكان هناك توازن في أساس اللقاء؟ نعم، وأقولها مباشرة، بالنسبة للأسئلة المطروحة وهي في جوهرها نسمعها هنا وهناك، أو نتخيلها، في كل ما نقرأ ونكتب، أو حين يُؤتى على ذكر الكتاب طبعاً: ماهو الكتاب، لمن يكون الكتاب، كيف يجب أن يكون الكتاب، ما المشاكل المحيطة بالكتاب ، قبل نشره ولحظة نشره وبعده، وفي التحديد، يكون الحديث معنياً بالكتاب الكردي، وكاتبه، إنما أيضاً بمجتمعه: قارئاً ومتفاعلاً، ومقيماً. وأحسب أن ثلاثتنا، كمتفاعلين مع أسئلة دلبخوين، تحرّكنا ضمن مجموعة من الدوائر كانت تتسع وتتضح بالأجوبة المعبّرة عن علاقات، عن تجارب، وعن محيط اجتماعي متنوع، وما في كل ذلك من خطوط اتصال وأوجه معانات متباينة  بالنسبة لكل منا بالتأكيد .هنا تكون أهمية الكلام، وقيمته، في التعبير عن التجربة الخاصة، وربطها ببقية التجارب التي تضيء طبيعة العلاقة بالكتاب، والكتاب بواقعه وأهله .
وإذا كان لي أن أوجز ما جرى طرحه من أسئلة وما قيل، فهو، كما أشرت بداية، يتعلق،في الصميم، بقيمة الكتاب، في عالم اليوم، ومدى أهمية الكتاب للكرد، وطبيعة علاقة الكرد بالكتاب، وكيفية إنارة المشاكل القائمة والحلول الممكنة.
هل علي أن أشير إلى نقطة في غاية الأهمية، تفرض نفسها علينا، ونسْجها داخل الحديث عن الكتاب؟ إنها تخص التاريخ ومرارته وقيمة حدثه: آذار، وتحديداً، 16 منه، حيث التذكير بمجزرة حلبجة قبل ” 35 ” سنة، وقد استهل دلبخوين اللقاء بهذا القول المطلوب طبعاً، ومن جهتي شددت على ما هو آذاري في كل أفراحه وأتراحه، لأن الحياة هي التي تعلّمنا في كل ما تقدم. أما عن النسْج، في إطار السعي إلى تنوير أنفسنا، وكيفية معرفة ما نحن فيه وعليه فهو مهم، ولا بد أن الإقامة في عالم الكتاب، هي التي تمضي بنا إلى الإقامة المناسبة والمثمرة في عالم الذين يعملون إذ يفكرون، ويفكرون إذ يعملون، ويعبّرون عما يعيشونه، ويودِعونه الكتاب، والكتاب متنقل، ومحمَّل بودائع ذاكرات وتواريخ، وهكذا يكون التراكم المعرفي ومجتمع الكتاب الحي..
طبعاً، لا بد من النظر في أمر التعامل مع اللغة، الكردية بوصفها اللغة الأم، إنما الكتابة بالعربية وفي ساحة ثقافية واسعة، لها أهميتها، تظل مهمة مطلوبة، لمن يريد توسيع دائرة الاهتمام بكل ما يشغل الكردي سلوكاً يومياً، ونفسياً، وتفعيل أثر كذلك.
وما يمكنني قوله بعد ذلك، إلى جانب جملة النقاط التي أفصح عنها كاتبنا جان دوست عن مدى تفاعله مع الكتاب، وسعيه إلى توسيع دائرة علاقاته بمن يتعاملون مع الكتاب عربياً وكردياً، فهو من حيث التوصيف ” عاشق اللغتين والجامع بينهما: الكردية لغته الأم، والعربية التي أمَّنت له انتشاراً قاعدياً أدبياً في الساحة الثقافية والأدبية العربية “، ومأساة الكتاب في وضع الحظر عليه والحيلولة دون انتشاره في تسعينيات القرن الماضي خاصة، وصعوبة التعامل معه لأسباب خاصة بالطباعة والعلاقة مع الناشر، وزارا تحدثث عن هذه الصعوبة، وسعيها إلى كيفية نشر الكتاب في حدود المستطاع، ولكم أتمنى أن تكون لخطوتها هذه مسيرة كتابية ناجحة وباسمها، لأن ذلك يكون باعثاً على التفاؤل،ومتجاوزاً لما هو موصوف بألسنتنا هنا وهناك: بالقدري، وتحكمه فينا، كما لو أننا محكومون بالتقييد المكاني والزماني، وأن كل ما يصيبنا لا يد لنا فيه..!
هنا أتوقف، وأشير إلى ما أمكنني قوله، لأن هناك تجربة مختلفة في التعامل مع الكتاب، والوضع الذي يعنيني بالمقابل.
أولاً، ما يخص الكتاب. كمفهوم، ليس هناك من كتاب، إلا حين يعبّر عن مجتمع معين، وفيه ما يستحق النظر فيه، وما أصعب العلاقة القائمة بين الكرد والكتاب، حيث إن الثقافة في بنيتها محكومة واقعاً بالشفاهة، إن الثقافة المكتوبة لم تتفعل بعد، وكما هو ظاهر، وتبيّن لي، وأشرتُ إلى ذلك، من وجود كم كبير من زائري المعرض، دون أن يكون لهم أي رابط بالكتاب.
ثانياً، أما عن تجربتي، فأستطيع القول بأنها طويلة: نصف قرن، وأنا أسخر كل قدراتي وإمكاناتي في عالم الكتاب، وعلى حساب عائلتي وأولادي دون التفكير في التحديات، وهكذا أموت قراءة، وأموت كتابة.
ثالثاً، المؤسف، أنه لا يوجد من يتنبه من الكرد إلى هذا الجانب، وكما تشهد تجربتي كباحث في مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية، جامعة دهوك، منذ ” 2013 ” دون أي اهتمام يستحق الذكر من الجهات المعنية، رغم أنني، ككمّ، الأكثر ” إنتاجاً ” في المركز، دون ما يستحق الذكر كذلك، ودون أن يكون هناك أي بند في وزارة التعليم العالي لطريقة التعامل مع باحث وليس أن يكون موظفاً، وبحسب شهادته يكون تقديره. والمؤسف أيضاً، أن حامل الشهادة لا يُطلَب منه أن يبذل جهداً لينال ترقية، وزيادة في مرتّبه، إنما كما خاصية” الرتبة العسكرية ” وهذا ينعكس سلباً على الكتاب في مختلف أموره.
وأكرر أسفي، أنني في الوسط الثقافي العربي أعرَف كردياً، بينما في الوسط الثقافي الكردي، فالكردية ” كمنسوب ” تنخفض ” لأسباب لها صلة بالنظرة الضيقة للكتاب.
ولو أن الجهات المعنية” أقول : لو ” راعت هذا الجانب البحثي، وتعاملت مع الباحث من خلال عطائه وليس شهادته ” ربما يمضي الأكاديمي عمره، دون أن يطبع ما يستحق الذكر، وهو مكتف بمرتب يقنعه أن ذلك كاف، ويكون له رصيد اجتماعي ” قيمة: دكتور، بروفيسور ” وما في ذلك من حصر العلاقة بما هو مادي، وتعبير ذلك عن استهلاكية المجتمع، لاختلف الوضع .
لهذا، فإنه بالنسبة إلى التعامل مع الكتاب، فليس من قيمة اعتبارية، جرّاء المنظور إليه.
هنا أنوّه إلى أن أي مجتمع شبيه الجسم الذي يتضمن جراحات. وليس من مجتمع إلا وفيه جراحات، وعمل الكاتب، أي كاتب، أن يسمّي هذه الجراحات، أن يوجدها، ودون ذلك لا يستحق أن يكون كاتباً، وهذا يصدم من لا يريد أن يعرَف في أخطائه ومشاكله.
هذا يقودنا إلى جانب التخوف من الكتاب الفعلي، والكاتب الفعلي، إذ لا أكثر من أثرياء الكرد، لكن الثري الكردي لم يتأهل في أغلبه إلى مستوى المنتمي إلى مجتمع فعلي، يعرف ما يكون عليه مفهوم الوطن والكردايتي، والغيرة القومية، ليسهم في نشر الكتاب، والاهتمام بالكتاب، وحتى العمل على تخصيص جوائز تكون له بصمة اجتماعية ومادية فيها.
وفي هذا السياق، إذا كان لي أن أشير إلى جانب آخر من التجربة الشخصية، فهو في كوني تناولت وجوهاً كتابية وفنية كردستانية مختلفة: جكرخوين، سليم بركات، محمد أوزون، نورالدين زازا، شيركو بيكه س، بهمن قبادي…إلخ، إنما بالمقابل ماذا حصدت: المرارة ؟
وهنا، يكون لفت النظر إلى وجوب الاهتمام، من أجل الأجيال القادمة، فالذين يرون كاتباً ما، لا أعنيني وحدي هنا،وهو في تنوع عطاءاته البحثية والثقافية، ويلقى التهميش، أي دافع يتشكل لديهم، أو انطباع جهة النر إللى الكتاب، وما يعنيه ظهور كتاب أو تسميته كاتباً ؟
تُرى، هل يكون للذين أفصحنا عنه ثلاثة، صدىَ ما، لدى المعنيين بالثقافة، ومن يريدون لنا ككرد ارتقاء في عالم الكتاب، عالم التنوع، عالم الحداثة لنكون أقدر على التواصل ؟
ذلك هو السؤال ، وهو التحدي !
وإذا كان لي من كلمة أخيرة، وهي مركَّبة، فهي في تكرار شكري الموجه إلى كل العاملين في قناة” روداو ” الكردية، والذين أسهموا في إنجاح هذه الحلقة، والشكر موجه إلى الأستاذ دلبخوين دارا على جهوده ومهارته في إدارة الحوار، ليكون اللقاء في مستوى اسمه: الكتاب وما يعزّزه موقعاً.
في الشطر الآخر من الشكر، وهو الجهد الملموس المقدَّر، من قناة روداو، حين خصصتْ سيارة خاصة بها، وجاءت من دهوك إلى هولير، لتقلني من هناك إلى حيث أقيم في دهوك.
أعتقدها الطرقة الجميلة على باب يعنينا جميعاً، باب الكتابة والكتابة، وتمنّي فتحه على ما هو منشود، وهو بمردوده يستشرف بنا ما هو أكثر تحفيزاً لقدراتنا وتنويراً لنا تدبيراً وتفكيراً .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…