د. باسل معراوي
كان الأسد الأب يُصرّ على إبقاء شعرة حافظ الأسد مع خصومه ولا يقطعها، بعكس بنه الوريث القاصر.
ففي ذروة الحرب العراقية – الإيرانية التي وقف فيها العرب جميعاً مع العراق كان يقف علناً مع إيران، لكنّه حافظ على علاقته مع دول الخليج العربي وقَدّم نفسه وسيطاً أو صندوق بريد بينهم وبين إيران.
كذلك كانت هذه شعرة حافظ الأسد مع الولايات المتحدة، تحظى بحرصه على عدم قطعها، ففي ظِلّ انحيازه للمعسكر السوفييتي واعتبار نفسه جزءاً منه، لم يُغضب الأمريكان بالتماهي المطلق مع السوفييت بل ترك هامشاً للمناورة، وأيضاً كانت شعرة حافظ الأسد حاضرة دائماً مع إسرائيل حيث قام بحراسة حدودها طوال فترة حكمه ولم يسمح بأي شكل من أشكال المقاومة ضِدّها، وبالطبع كان تَدخّله في الحرب الأهلية اللبنانية ضد حلفاء السوفييت من الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وفي ذروة الحرب الباردة تخادماً مع الغرب والإسرائيليين.
وفي خِضّم الانهيار السوفييتي بادر إلى الاشتراك تحت المظلة الأمريكية بحرب تحرير الكويت، وبسبب شعرة حافظ أسد بارك الغرب عملية التوريث الجمهوري في سورية وقامت وزيرة الخارجية الأمريكية الراحلة بزيارة دمشق والانفراد بالوريث باجتماع مغلق لتذكيره بخدمات أبيه للغرب وبما يتوجّب عليه مراعاته، الرئيس الفرنسي جاك شيراك فَعل نفس الشيء وتَعهّد بتقديم الرئيس الجديد للعالم على أنه شاب مثقف، درس في الغرب، منفتح على إحداث إصلاحات جوهرية في نظام الحكم الذي ورثه عن أبيه.
وكانت علاقة الأب مع نظام الملالي ذات أبعاد إستراتيجية منذ اليوم الأول لوصول الخميني للسلطة، وبدأ يظهر للجميع التحالف الوثيق بينهما، لكنّه كان يستخدم الورقة الإيرانية ولا تستخدمه إيران كورقة سورية وفي لبنان كان حريصاً على إبقاء حزب الله تحت مراقبته الدائمة وعدم ترك الحرية له للانفراد بالقرار كما حصل أيام الأسد الوريث.
لم يحافظ بشار أسد على شعرة أبيه ولكنه أبقى على الدور الوظيفي للنظام السوري واعتبار ذلك النظام أحد ركائز الأمن والاستقرار في المنطقة، وعدم السماح بتبلور نواة سورية تكون بديلة له عبر متابعة سياسة أبيه نفسها بالتجريف السياسي للمجتمع، وكان يُجيد لعبة بقاء النظام أقلّ ضرراً بكثير من رحيله، على مبدأ الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي ستتعرف عليه، وكان نظام الأسد منذ ولادته يصنف غربياً من الأعدقاء.
لم يحافظ الولد على شعرة أبيه مع الغرب والعرب، ففي البداية أجهض الآمال الغربية بإحداث نوع من الانفراج السياسي الداخلي وبعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية الداخلية وذلك بانقلابه على ربيع دمشق وقمعه لكل أشكال المعارضة مهما كانت محدودة، وتجاوز الخط الأحمر العربي – الغربي باغتياله لرفيق الحريري، وتَمّ عقابه على فعلته تلك بإخراج قواته من لبنان، وقام ببناء مفاعل نووي خلسةً، ولا يُنسى دوره بالتعاون مع قاسم سليماني بعد الغزو الأمريكي للعراق بدعم تنظيم القاعدة وتسهيل مرور عناصره عبر الحدود السورية، ولم يُكمل الوساطات التركية والفرنسية للوصول لتوقيع معاهدة سلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
بدأت ملامح السيطرة الإيرانية تَتَوضّح إلى أن أصبح النظام السوري إحدى الأوراق الإيرانية في المنطقة، بدا ذلك جلياً في حرب 2006 بلبنان ووصفه للقادة العرب بأوصاف لا تُغتفر في الثقافة العربية وتمكن من إنشاء تحالف أقليات مُمتد من طهران مروراً ببغداد عابراً دمشق وصولاً للضاحية الجنوبية في بيروت.
يرى بعضهم أن يُسمى بالهلال الشيعي أو كما يُسميه الإيرانيون وذيولهم محور المقاومة، وأسهم الأسد بتبعيته المطلقة للمشروع الإيراني بربط عناصر المحور الإيراني مع بعضها وإعطاء إيران إطلالة بل نفوذاً على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
أمّا عن العلاقة السوفييتية مع نظام الأسد الأب ووراثة تلك العلاقة بين روسيا البوتينية والابن، فهي علاقة استراتيجية، حيث إنّ تسليح جيش النظام وعقيدته القتالية هي شرقية روسية، وبرز الموقف الروسي واضحاً من تأييده المطلق لنظام الأسد بعد اندلاع الثورة السورية.
لاشكّ أنّ موسكو تَعتبر كل موجات الربيع العربي (بل أي محاولة للوصول لشكل من أشكال نظام الحكم الديمقراطي) هو مؤامرة غربية يجب معارضتها والتصدي لها، لكن دون الانخراط المباشر بذلك حيث وافق الروس على التدخّل الغربي لإسقاط حليفهم القذافي (ويقولون إنّهم ندموا على تلك الموافقة)، ولم يكن لهم نفوذ حقيقي في المنطقة إلاّ في سورية، لذلك حرصوا على دعم النظام سياسياً وعسكرياً بل وصل الأمر عندما لم تُجدِ كل تلك السُبل إلى التدخّل العسكري المباشر في سورية أيلول 2015.
بالفعل تَمكّن الروس من منع سقوط نظام الأسد الذي كان على وشك الانهيار، وأعطاهم الأسد لقاء ذلك ما يريدون من قواعد بحرية وجوية ونفوذ بشكل ساهم بتعزيز القناعة لدى الرئيس الروسي بأان بلده قُوّة عُظمى.
وبالطبع تعمّقت تَبعية الأسد لبوتين حتى أصبح دُميةً بيده يستدعيه إلى موسكو أو حميميم متى شاء، ويطلب منه تنفيذ أوامره.
لا يمكن اعتبار نظام الأسد متماهياً أو يدور في الفلك الروسي بل هو ليس أكثر من بَيدق يُحرّكه الرئيس الروسي على الرقعة الدولية التي يَلعب بها.
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا كان الأسد أحد أربع دول مارقة أيّدت ذلك الغزو، بل واعترف باستقلال جمهوريتي الدونباس، وقَبلها كان قد اعترف باستقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية كدول مستقلّة.
أرسل نظام الأسد مرتزقة من قوّاته علناً للمشاركة إلى جانب الجيش الروسي بالحرب، كما أنّ هناك تقارير تُفيد بقيام المعامل التابعة للنظام بتصنيع الذخائر وبعض المستلزمات العسكرية اللوجستية اللازمة للجيش الروسي.
ما أودّ قوله أنّ مصير الأسد ونظامه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بنتائج حرب الرئيس الروسي على أوكرانيا واعتباره أحد المخالب الروسية في العالم الواجب قصّها.
المسرحية العربية في أعقاب الزلزال
تنطلق فلسفة المساعدات الغربية إلى سورية من عدّة أبعاد، إذ ترى واشنطن أنّ المساعدات الإنسانية هي إحدى ركائز سياساتها العملية في سورية (إضافة للحرب على داعش)، إلى حين إجبار النظام على الدخول في الحل السياسي، ولا تُعارض الولايات المتحدة وصول مساعدات إنسانية للنظام بل وكانت تُصرّ عبر الآلية المُتّبعة لدخول المساعدات الدولية إلى سورية بصيغتها الجديدة بعد عام 2014 على موافقة روسيا والصين على ذلك، وتعلم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أنّ روسيا استخدمت حق الفيتو 4 مرات (ضمن أكثر من 15 فيتو يَخصّ المسألة السورية) فقط لإجهاض دخول مساعدات دولية عبر معابر معينة، وتعلم الأمم المتحدة أنّ حصة الأسد من تلك المساعدات تَذهب لنظام الأسد، وأعتقد أنّ المقاربة الغربية تَنطلق من أمرين جوهريين وهما عدم تكرار سيناريو العراق بانهيار ما تَبقّى من مؤسسات الدولة، والحفاظ على شريك متماسك من النظام للدخول بعملية التفاوض وفق القرار 2254.
والأمر الثاني عدم حدوث مجاعة قد تؤدي إلى ركوب مئات آلاف السوريين في مناطق النظام البحر باتجاه القارة الاوربية القريبة جغرافياً.
حتّى أنّ قِمّة الرئيسين الروسي والأمريكي في جنيف صيف عام 2021 قد تَمخّض عنها تفعيل برنامج الإنعاش المبكر الأممي بأموال غربية لتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار.
لذلك لم تعترض الولايات المتحدة على وصول مساعدات إنسانية لمناطق النظام السوري، بل وحتّى لإسقاط بروباغاندا النظام قامت الإدارة الأمريكية بإصدار توجيه يَحرص على إعفاء المساعدات الانسانية (المعفاة أصلاً) من عقوبات قانون قيصر، الأمر الذي لاقى استهجاناً من بعض المُشرّعين الأمريكان بأنّه استجابة غير مُبررة لبروباغاندا الأسد، بأن العقوبات تحول دون وصول المساعدات وغيرها من المواد الإنسانية.
وتنطلق السياسة الغربية والأمريكية خصوصاً والرافضة لأي جهد حقيقي لتعويم الأسد من أنّ العقوبات الغربية تُسهم بتعزيز عوامل الضعف والتآكل في مفاصل قُوّة النظام السوري، وأيضاً عدم إعطاء أيّ نصر مجاني لبوتين في سورية في لحظة الاشتباك القصوى معه، بل ترك النظام السوري عالةً عليه سيمتص من قدراته للبقاء على قيد الحياة.
وأخبرتنا الحركة السياسية الأمريكية في أعقاب الزلزال رسوخ النهج المعادي للأسد في أوساط النخبة الأمريكية ومفاصل صناعة القرار، حيث وافق مجلس النواب الأمريكي ذو الأغلبية الجمهورية على مشروع قانون بشأن الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا ويتضمن الدعوة إلى إنشاء آلية رسمية لمراقبة المعونات المقدّمة من الولايات المتحدة الأمريكية لسوريا لضمان وصولها لمن يستحقّها فعلاً، ومطالبة الإدارة أن تَستخدم كل الوسائل الدبلوماسية المتاحة لفتح جميع المعابر بين سورية وتركيا، في إشارة لعين حمراء أمريكية تجاه من يحاول من العرب استغلال كارثة الزلزال للتطبيع مع الأسد والتذكير أنّ عصا قانون قيصر ستنال من اللاهثين نحو دمشق.
لاشكّ أنّ الإستراتيجية الأمريكية تعمل على فَكّ عُرى التحالف الإيراني الروسي في الإقليم ومنه سورية بالطبع ولكن ما يَهمّ بعض الدول العربية هو الجري وراء سراب انتزاع الأسد من الحضن الإيراني ولا يعنيهم كثيراً الحضن الروسي.
ما يُمكننا قراءته من مسرحية زيارة الوفد البرلماني المُشكّل من بعض الوفود العربية التي اجتمعت في بغداد الذي كان يَضمّ دولاً عملت على إعادة جزء من علاقاتها مع نظام الاسد سابقاً وجزء لم تقطع علاقتها أصلاً مع النظام، إلاّ أنّ بيضة القبّان هي امتناع وفود المملكة العربية السعودية وقطر والكويت عن زيارة دمشق، أعقبه بيان رسمي للخارجية القطرية بأنّ الأسباب التي أدّت لطرد الأسد من العرب وجامعتهم لم تزال موجودة ولا تغيير في الموقف السياسي للدولة.
الفارق الوحيد هو وجود رئيس البرلمان المصري مع الوفد العربي في دمشق، أعقبته زيارة وزير الخارجية المصري للعاصمة السورية ولقاؤه المجرم في قصره، وإن كان حاول التَنصّل من أي بُعد سياسي للزيارة بالقول بأنّ زيارته للتضامن مع الشعب السوري في نكبته، وكان قد سبق ذلك اتصال من الرئيس المصري مع الأسد في سابقة مصرية لم تحصل منذ 2011، وكان أن
أصدرت الخارجية المصرية بياناً لتوضيح سبب زيارة عميد الدبلوماسية المصرية لدمشق قالت فيه: إنّه لم يَتمّ خلالها مناقشة أية مبادرة أو خطة أو مشروع عربي لتعويم الأسد، ولا يرى أغلب المراقبون تفسيراً لتلك الحركة المصرية تجاه دمشق عقب كارثة الزلزال سوى إرسال رسائل للرياض بأنّ القاهرة بإمكانها إزعاج أو التشويش على سياسة المملكة ودول أخرى بعزل الأسد نهائياً وعدم دعوته لقمّة الرياض أو التشويش على القمة نفسها.
وفي النهاية ما يُؤخذ على بعض السوريين تأثّرهم بالبروباغاندا الإعلامية التي يقف خلفها إعلام النظام وقياس مدى شرعية قضيتهم بعدد الزوار الذين يستقبلهم السفاح في قصره بدمشق، فالقضايا العادلة لا تتأثّر أو تُقاس بعدد من يقف ضِدّها أو يُحاول تمييعها والقفز عليها.