نزار بعريني
يبدو جليّا أن الوقت لم يحن لتقديم تقييم موضوعي شامل ، على مستوى أداء قيادات الحزب والجيش من زاوية مصالح سوريا العليا .
“البيئة الآمنة ” التي افتقدها السوريون في محطّات تاريخية مختلفة ، ومازالوا ، (في ظروف أكثر تعقيدا اليوم حيث يتسيّد المشهد العسكري / السياسي السوري ” سلطات أمر واقع ” ميليشياوية ، تخضع لسيطرة مباشرة من قبل قوى الإحتلال الأجنبي)، خاصّة ، منذ تسلّم العسكر للسلطة
في بداية عهد ” الوحدة ” ١٩٥٨ ، هي العامل الأساسي.
أن لا يتفق بعض السوريين على غالبية الأفكار والاستنتاجات التي يتضمنها هذا المقال هي الحالة الطبيعية ، طالما ما نزال نختلف على قراءة الحاضر ، ويرى البعض في تجارب الماضي المرّة بعض جوانب القداسة !!
ما أريد الحديث عنه هي بعض دروس التجربة التي عُرفت باسم ” الانظمة التقدمية ” ؛ تلك الأنظمة الديكتاتورية العسكرية ، التي “تشارك” في مسؤوليات الحكم خلالها أحزاب قومية / اشتراكية مع العسكر ، وحكمت أهمّ دول المنطقة في مرحلة ” الحرب الباردة ” ، التي تميّزت بتنافس إستراتيجي على السيطرة الإقليمية ليس فقط بين الولايات المتّحدة والإتحاد السوفياتي ، بل ، وأيضا ، بين الاتحاد السوفيتي والولايات من جهة ، وبين ” قوى الاستعمار القديم ، فرنسا وبريطانيا، من جهة ثانية ؛ كانعكاس مباشر لموازين قوى الصراع الكوني التي نتجت عن نهاية الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥ ، وبرز فيها قوتين عالميتين، دخلتا في حرب باردة لإعادة إقتسام مواقع السيطرة والنفوذ على الصعيد العالمي، وفي كامل الإقليم ، على حساب قوى الاستعمار المباشر القديمة ، وأدوات مرتكزاته الإقليمية، السياسية والإجتماعية – حكومات وأنظمة الإستقلال الديمقراطية، التي مثّلت تحالف قوى البرجوازية الكبيرة الوطنية ، والإقطاع !!!
أوّلا ،
في أهم عوامل السياق التاريخي.
على المستوى الاستراتيجي ، ثمّة عوامل رئيسة شكّلت السياق التاريخي ، ينبغي على الباحث أخذها بعين الإعتبار ، إذا ما توخّى الموضوعية .
١- ظروف وعوامل التغيّرات السياسية الكبرى التي شهدتها دول الإقليم ، وتمثّلت في وصول العسكر إلى السلطة ، وإقامة ” الأنظمة القومية” – ” التقدمية “-، ( على أنقاض النظم السياسية الديمقراطية، التي شكّلت ” واجهات” لسيطرة بريطانيا وفرنسا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب مرحلة ” الاستقلال الوطني “) لم تكن بدورها خارج سياقات التغيّرات الكونية التي أفرزتها موازين قوى الصراع في نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي أوصلت الولايات المتحدة إلى موقع القيادة في النظام الرأسمالي الإمبريالي، وظهور الاتحاد السوفياتي ومنظومته الإشتراكية ، كقطب عالمي منافس ، ودخول النظامين في حروب متعددة الأشكال والأدوات للسيطرة على الأقاليم / والدول التي ما تزال خارج سيطرة الحلفين ، وعرفت بمرحلة الحرب الباردة.
٢- ظروف وصول العسكر إلى السلطة ، وصيرورتها كأنظمة رأسمالية ريعيّة ، معادية للديمقراطية، لايمكن أن تخرج عن سياق مصالح وسياسات مشاريع السيطرة الإقليمية ، السوفياتية والأمربكية خلال حقبة الحرب الباردة؛ وقد جيّرت سلطات الأنظمة بذكاء ليس فقط التنافس الأمريكي/ السوفياتي لصالح تعزيز أدوات حكمها، بل أيضا تقاطع مصالح وسياسات الولايات المتّحدة ” الديمقراطية “، وروسيا السوفياتية” الإستبدادية “، في معاداة قوى وصيرورات التغيير الديمقراطي ، وبناء مقوّمات الدولة الوطنية ؛ وقد كان من الطبيعي أن تتناقض أهداف وأدوات مشروع السيطرة الإقليمية لكلا القوتين مع صيرورات التغييرالديمقراطي، التي تشكّل أفضل مسارات بناء مقوّمات السيادة والاستقلال الوطني.
ثانيا ،
في بعض الإستنتاجات المهمّة :
١- “العسكر ” في قيادة الجيش، كانوا الحاكم الفعليّ، وأصحاب السلطة ، من خلال تنسيق وتقاطع مصالح مباشر ، او غير مباشر ، مع القوى الفاعلة الإقليمية والدولية ، خاصّة الولايات المتّحدة وروسيا السوفياتية ،وقد استخدموا الاحزاب المدنية – القومية العربية- كواجهات سياسية للحصول على دعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي كانت أهداف وشعارات ومنطلقات تلك الأحـزاب تدغدغ مشاعرها وآمالها في التحرر والدمقرطة ، والعدالة الاجتماعية ؛وبالتالي ” الشرعية الثورية ” ، كما جيّروا علاقاتهم مع الاتحاد السوفياتي ونموذج رأسمالية الدولة البيروقراطية للحصول على الشرعية ” التقدمية / الإشتراكية “.
تعقيدات العلاقة بين العسكر والمدنيين تتجلّى بوضوح في أبرز محطّات العمل السياسي للراحل الكبير ” صلاح جديد “!
كأحد أبرز اعمدة المجموعة العسكرية التي نسّقت مع” ناصر ” للانتقام من قادة الانفصال المدنيين ، كان في قيادة ” “ثورة” آذار ” ٦٣ ،و قاد لاحقا الإنقلاب العسكري الشهير على ” البعثيين والناصرين ” في شباط ٦٦ ، لكنّه ما لبث أن وقع هو نفسه ضحية انقلاب ” رفاقه ” العسكر في ت٢ ١٩٧٠ ، عندما انخرط في صفوف المدنيين، و أصبح قائدا بعثيّا مرموقا !!
٢- إذ لا أتجاهل اهميّة التناقضات الداخلية بين العسكر والاحزاب ، أو التناقضات البينيّة على صعيد كل جبهة ، احاول فقط التمييز بين قوى التناقض الرئيسي ، التي شكّل تقاطع المصالح بين العسكر والقوى الخارجية( الولايات المتّحدة وروسيا السوفياتية ) تحالف خندقها الأساسي، الحاكم لجميع التناقضات ، ( والمعادي لمسارات وآمال التحرر والدمقرطة)،كما شكّل العامل الحاسم في رسم مآلات الصراعات الداخلية والإقليمية على أشكال النظم السياسية، وبالتالي مصائر بلدان دول المنطقة، وكانت الولايات المتّحدة على استعداد للتدخّل العسكري المباشر ، أو عبر الوكلاء ( كالدور” الإسرائيلي” في ٦٧ ، أو السعودي ، في مواجهة المدّ القومي / الإشتراكي ) ” لتصحيح ” ما بدا اعوجاجا في المسارات لصالحها ( مواجهة الغزو السوفياتي لإفغانستان )؛ احاول توضيح مسألة غاية في الأهميّة :
إنّ تحميل الأحزاب السياسية القومية المدنية ، في القيادات أو القواعد ، مسؤولية ما نتج عن تجربة “حكم العسكر ” ، سواء اختلفنا مع أدائها أو توافقنا معه، تحت أيّة ذريعة أو في أي سياق ، ليس سوى محاولة ” لتبرئة ” العسكر اوّلا ، وإخفاء أهم عوامل السياق التاريخي ، المرتبطة بدور العامل الخارجي ، الناتج عن تحالف العسكر والأمريكان ( في إطلاق الصيرورة ، وتحديد مآلاتها) وقد كانت الأحزاب، وقياداتها، ومبادئها، كما كان جمهورها ،( وثورات الربيع العربي- لاحقا )في نهاية المطاف ،( والأوطان ) ضحايا تحالف العسكر والقوى الخارجية الفاعلة ؛ وقد أدّى استمراره إلى عواقب أكثر مأساوية في مواجهة حراك الربيعين العربي والسوري في مطلع ٢٠١١، وشكّل العامل الحاسم في انتصار الثورات المضادة للتغييرالديمقراطي ، بأذرعها الميليشياوية ، الإيرانية والسعودية، التي كان لحروب الولايات المتّحدة في الإقليم الفضل الاوّل في توفير البيئة الأمثل لنشوئها وتمددها ، وتحوّلها إلى ” إرهاب عالمي ” برّر للولايات المتّحدة غزواتها الرئيسة ، وسيطرتها المطلقة على قلب منطقة الشرق لأوسط، حيث مثلث الطاقة الإستراتيجي العالمي- بأضلاعه السعودية والإيرانية والعراقية ، وحيث محيطه الجيوسياسي!
٣- تتكرر نفس التجربة اليوم مع السوريين الكرد، واحزابهم القومية ، على مستوى اقل ، بالطبع ، لكن بوضوح أكبر ، وبعض التغيير في اليافطات التي تقتضيها المرحلة !
نظريا ، وعلى صعيد ” واجهة الحكم ” ، يقود ” حزب الاتحاد الديمقراطي ” جيش ميليشيا ” قسد” ، التي ” ، تستخدم أحزاب” مسد ” “الديموقراطية والقومية والإشتراكية ” كواجهة لسلطة الميليشا الذاتية ،
كما يجيّر “الحزب، والجبهة” “خليطا من الشعارات” القومية الكردية” والديمقراطية” للحصول على دعم الطبقات الشعبية الكردية ( وبعض النخب السياسيّة والثقافيّة السورية- الديموقراطية )، وبالتالي الشرعية “الكردية” و” الثورية السورية “في استثمار سياسي لآمال الكرد وحقوقهم القومية ، ودماء أبنائهم، وعلى حساب مصالحهم الوطنية/ الديمقراطية المشتركة مع جميع السوريين ! مقابل هذه المسرحية ، التي تشارك النخب السياسيّة والثقافيّة المدنية في تمثيل أدوارها ، ارتهانها وترزّقا ، يقود فعليّا مقاتلو ” جبال قنديل ” ، التابعين لجيش ” حزب العمال الكردستاني التركي ” ميليشيا قسد ، في تنسيق وتقاطع مصالح مع القوى الفاعلة ، المعادية لحقوق الكرد ، وللتغيير الديمقراطي- السورية والإقليمية والإمبريالية !!
كما يتوجّب على عقلاء القوميين العرب استيعاب حقائق تجربتهم ، واستخلاص الدروس المناسبة، لخدمة أهداف مشروع الشعب السوري، بجميع قومياته ، في قيام نظام ديمقراطي ، يحافظ على مقوّمات الدولة السورية، ويحمي حقوق جميع السوريين، ينبغي على عقلاء القوميين الكرد( والديمقراطيين السوريين ) الذين ينحازون اليوم لصالح مشروع “قسد ” ، إدراك مخاطر ما تقوم به قيادة ميليشيا قسد، التي تلعب نفس وظيفة ” العسكر العرب ” ، وبآليات لاتقلّ تدميرا لحقوق وآمال ومصالح السوريين ، كردا وعرباً، خاصّة عندما تستقوي بقوى الثورة المضادة للتغييرالديمقراطي، على الصعيد الداخلي ، وبقوى الاحتلال الإقليمي والدولي ، على الصعيد الخارجي ، وعندما تبرّر للنظام التركي وسائل وأدوات تحقيق مصالحه في سوريا ، على حساب السيادة ، والحقوق ، الوطنية والقومية!!
الكرة الآن في ملعب النخب السياسيّة والثقافيّة السوريّة، كردا وعربا ، وعلى الجميع، على مستوى الأحزاب والشخصيات ، أن يتحمّل مسؤولياته الوطنية/ الديمقراطية، والقوميّة ؛ بغض النظر عن الموقع الذي وجدوا أنفسهم فيه ، داخل أنظمة الديكتاتوريات العسكرية وميليشيات الأمر الواقع ،أو في معارضتها !!
شباط – ٢٠٢٣