مقياس الهزيمة الكُردية

صبري رسول

تشير مصادرة كثيرة إلى أنّ الانهيار الاقتصادي الوشيك للنظام السوري سيعقبه انهيار سياسي في القريب العاجل، هذا ما دفع الأنظمةَ الحليفة له: روسيا وإيران إلى التفكير جدياً بإيجاد مخرجٍ عاجل له.
فقد شهدت الليرة السورية هبوطاً مخيفاً في قيمته أمام العملات الأجنبية، كالدولار واليورو، كمؤشرٍ واضح على ارتفاع التضخم إلى مستويات لم يسبق له مثيل منذ بداية الأزمة (2011) التي تعصف بسوريا.
يمكن أن ننوّه هنا إلى جملة من العوامل التي ساهمت في توفير الأجواء المناسبة لإنقاذ النظام من الانهيار، وهذه فرصة ذهبية للنظام للحفاظ على بقائه:
– الحرب الروسية على أوكرانيا خلقت مناخات سياسية واقتصادية للتقارب الروسي التركي، والرّقصّ المميز لرئيسها أردوغان بين ضفتين متناقضين: روسيا والغرب، لقطف الثمار من الطرفين والاستفادة القصوى منهما مادياً وسياسياً واستثمار ذلك في تنفيذ مشروعه في الشمال السوري المقلق له.
– الثورة الشعبية المندلعة في إيران، التي قد تقصّ مخالب النظام وتدخلاته في شؤون دول الجوار، وستقلّص نفوذه، ما يشكّل فراغاً في سوريا ستملؤه تركيا لاحقاً، والساحة السّورية أحد تلك الساحات للمساومات وبناء تحالفات جديدة تحت مسمّى «محاربة الإرهاب» وأنظمة هذه الدّول  هي الأكثر إرهاباً وفق كلّ المقاييس القانونية والسياسية للإرهاب.
– خفوت الصّوت الأميركي في المسألة السورية مؤخّراً، والاكتفاء بعقوباتها المفروضة على النظام كقانون قيصر، وقيادة التحالف الدولي لمحاربة داعش. 
– ارتهان الفصائل «المعارضة السورية» على الموقف التّركي المتقلّب، في استثماره للثورة السورية واللجئين. وتعتمد تركيا على ورقة اللاجئين في «طرنيب» أي مطالبات أوربية لها فيما يتعلّق بالشؤون الداخلية والمسألة الكردية، وتهدّد بإغراق أوربا بهم إن لم تستجب لها، وتستغلّها بشكل مريع للتوسّع في الأراضي السورية بحجة محاربة الإرهاب. 
اللقاء الذي جمع وزراء الدفاع والأمن بين سوريا وتركيا وروسيا بناء على الإلحاح التركي كان يستهدف «الإدارة الذاتية» التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سوريا 2013 بالدّرجة الأولى، فتركيا تريد إعطاء مؤشرات جديدة بوجود خطر كبير للحزب العمال الكردستاني، وضرورة ضبط الحدود للسيطرة على ثغور تقلق أمن تركيا، وهذا الأمر يعد أحد مشاريع أردوغان الخارجية لتسويق نفسه في الانتخابات القادمة. 
من جانبه يرغب النظام السوري إظهار نفسه كمنتصر في الحرب على شعبه، بدلالة «هرولة بعض الأنظمة لبناء علاقات معه» وثمّ استعادة مساحات شاسعة كانت خارج سيطرته. فسعادته المبنية على عذابات السّوريين كبيرة للغابة.
الاثنان متعطشان لبعضهما بعضاً، كلّ يريد تسويق نفسه داخلياً، وإظهار  نجاح علاقاته الإقليمية والدولية، وكلّ يريد إضعاف ما يراه خصماً «ق.س.د». فالرئيس التركي الذي وصف الأسد بالقاتل يتشوّق إلى عناقه، يحقّق بذلك هدفه بإبعاد تلك القوات مسافة 30 كيلومتراً، ما يجعل مناطق النفوذ الأميركي محصوراً بمناطق معينة «آبار النفط». والرئيس «الدّمية حاكم مهاجرين» يلهث إلى اللقاء بمُحتلِّ أرضه، والتّفاهم معه على الانتصار على بني جلده وأبناء شعبه.
في هذه المعادلة حقّقت الأطراف الثلاثة أهدافها بشكلٍ كبير، حيث يعزّز الرئيس السوري من نفوذه على بلادٍ (انهارت عملته، وتشرّد شعبه)، ويؤمّن الحدود الشمالية بضمانة تركية، وتحصل تركيا  في هذا التفاهم وبشكل سلس على ما عجزت الحصول عليه من خلال معارك عسكرية، أي على الشّريط الحدودي (السماح لها بالتوغل حتى 30 كيلومتراً داخل سوريا) وروسيا راضية من التفاهم، حيث الحرب على أوكرانيا أخذت الأولوية لديها، ولا تريد خسارة أحدٍ من حليفيها.
الضحية في هذا المشهد هو الكُرد، فقد كانوا قرابين متكررين في مفاصل تاريخية كثيرة. فما أشبه اليوم بالأمس القريب، وما أشبه التفاهم التركي – السوري- الروسيي باتفاقية الجزائر، وتحطيم الحلم الكًردي. فرغم أنّ «الإدارة الذاتية» لحزب الاتحاد الديمقراطي مسجّلة كعلامة تجارية باسم الكُرد، إلا أنّها لا تمثّل الإرادة الكردية، ولا تجسّد الحقوق الكُردية، لأنها مفروضة عليهم من الخارج، ولاتعكس الطموح الكردي لا على المستوى القومي، ولا على المستوى الوطني، ورغم التضحيات الجسام من أبناء الشعب الكردي (أكثر من 12 ألفاً من الشهداء وأكثر من 25 ألفاً من الجرحى) فأنّ هذه الإدارة ودماء الشهداء باتت على كفّ الرّيح. والحزب الذي يدير شؤون المناطق الكردية من قنديل سبق له أن لدغته عقرب دمشق سابقاً، حيث طُرِد زعيمه من دمشق بناء على الضغط التّركي، ما يعني أنّ أي تفاهمٍ سياسي وغير سياسي مع حاكم دمشق لا معنى له إن لم يكن مصاناً باتفاقية يحميها الدستور. هنا فمن الصعوبة بمكان إيجاد مخرجٍ آمن في الوقت الحالي، وأعتقد أنّ الوقت الضائع الذي أهدرته الخلافات الكردية انتهى، ولم يَعُد هناك أيّ أملٍ للكُرد سوى ابتلاع المرارة، وقد ابتلعناها مراراً في التّاريخ، والصّبر على البلاء.
الكُرد مشهورون بضياع الفرص الذّهبية، فمهما أجادوا الفنّ العسكري وأبدوا الشجاعة، إلا أنّ الانتصارات العسكرية تذروها قلة الحيلة، وانعدام الرؤية السياسية، والخلافات، والمصالح الشخصية، والارتهان على مواقف لاتودّ للكرد وجوداً. وتستكمل فصول التّاريخ بالكُرد وبدونهم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…