البعد القومي لدى العلامة (محمد كرد علي (ومضمون التقرير الذي قدمه عن كورد الجزيرة 1/3

د. محمود عباس

كتبنا التالي: 
1- على خلفية سؤال الأخ (محمد شيخي) الوارد ضمن التعليقات على مقالنا (من غياب المصداقية إلى التحريف الممنهج لتاريخ الكورد في الجزيرة) الجزء الرابع، فيما إذا كان (محمد كرد علي) هو أول من وضع أسس الحزام العربي؟
2- لتوضيح خلفيات اعتماد المحاميين على تقريره الذي قدمه في عام 1932 إلى حكومة تاج الدين الحسيني عن وضع الكورد في الجزيرة.
نبذة مختصرة عما أبداه حول قوميته:
  تتبين من خلال مسيرة حياة الوزير والأديب العلامة (محمد كرد علي) أنه كان يحمل ازدواجية، ما بين الانتماء القومي والثقافي. يشبه ما سيكون عليه الجيل الثالث على الأغلب من أبنائنا نحن المهاجرون الكورد، المنتشرون في الأصقاع. 
   من الغرابة أن الشعب الكوردي أسرع الشعوب تخليا عن قوميتهم، ولغتهم، وتلقفاً للثقافات الراحلة إليها، وتلائما أو تطبعا مع المجتمعات الجديدة، وأكثر الناس صدقا مع ما يشربوه، والعلامة محمد كرد علي وأحمد شوقي وأمثالهما من أبناء الأمة الكوردية خير مثال، ولا يبتعد قادة الكورد العسكريين الذين غيروا وجه التاريخ في المنطقة عن هذه الحالة النفسية، فقد تطبعوا بالطريقة ذاتها، من بينهم أبو مسلم الخرساني، وصلاح الدين الأيوبي، وقادة عسكريون حكموا إيران والعراق وسوريا وتركيا، وهم كثر. بل نحن اليوم شهود على العديد من الكتاب الكورد، الذين يتأرجحون بين الكفتين، رغم أنهم لا يزالوا الجيل الأول من المهاجرين، بل ولدى بعضهم نسبة الميلان نحو الثقافات الأخرى مرجحة على الكوردية. لا شك الأسباب عديدة، فإلى جانب العامل الذاتي، تظل العوامل الموضوعية، الخارجية هي السائدة بعضها قاهرة لا قوة لمواجهتها، علما أن الشعب الكوردي من بين الشعوب الأكثر حفاظا على وجوده رغم ما لاقاه من الأهوال على مدى قرون عديدة، لسنا بصدد هذا البحث المؤلم – الكارثي.
  كان سهلا على العلامة كرد علي إخفاء انتماؤه الأول، لأنها لم تنمى فيه، ولم تتجاوز مراحل اللا شعوره، ربما على خلفية قلة ما نقله له والده من ماض أجداده، ودون تركيز على البعد القومي، أو لصعوبة المواجهة مع البيئة الثقافية العربية التي كان يعيشها، ونهل منها علومه وثقافته، أو لهشاشة المعرفة بماضيه الذي لم يتم نقله إليه من والده وعائلته، وهو ما عانى منه، أحفاد الخديوي محمد علي باشا، وأمير الشعراء العرب أحمد شوقي وأدباء كورد آخرين ولدوا في مجتمع شبه معدوم الارتباط بماضي أجدادهم. فهو الذي يقول في الصفحة (144) ” أنا كرديّ عربيّ مسلم، فوالدي وأجدادي من الأكراد، وليس للمرء في أرومته خيار، فأنا كرديُّ العِرق، عربي الفكر والقلب واللسان، مسلم العقيدة…” لكنه في جميع نشاطاته، ومطالبه السياسية والإدارية والثقافية يشدد على عروبته، وكان يناضل من أجل حقوقهم الثقافية والسياسية مثلما كانت الشخصيات الكوردية تناضل حينها، وفيما بعد تطالب بنفس المطالب من الأنظمة العربية التي تلت العثمانيين وخلال سيطرة الاستعمار وإلى اليوم، فيقول عن حقوق العرب ” وأكثر ما كنت أردد نغمته التعليم باللغة العربية في الابتدائية والثانوية، وجعل المحاكمات بالعربية في الولايات العربية، وأن يعرف العمال بأجمعهم اللغة العربية، إلى غير ذلك من المطالب المعقولة، وكان بعض الأتراك يتألمون من سماع هذه النغمة، لئلا تسري بزعمهم إلى الأكراد والألبان والروم والأرمن وغيرهم من العناصر العثمانية”
 والانتماء إلى الثانية، بنيت على الوعي الذي نمى فيه من خلال الثقافة التي تلقفها من الصغر، ورسخت فيه القناعة بكليتها، رغم تلقفه لغات وثقافات أخرى، علما أن المواجهات والتي أحيانا كانت صادمة، حول عرقه الكوري، خلقت لديه ردات فعل عكسية. 
 فمطالب السابقة تتجاوز مجرد التماهي أو التغطية تحت عباءة الانتماء الثقافي، بل عمق شعور يسود على اللاشعور، مبني على عمق المعرفة والتبحر فيها، وفي كثير من الأحيان سيادته على أقرانه من أبناء القومية العربية، شدته إلى التباهي بها أكثر على حساب ضمور الجانب العرقي، دعمتها البيئة الاجتماعية-الثقافية التي تربى فيها، والتي معظمها كانت إسلامية-عربية، على خلفية عمق معرفة والده، وهو شبه الأمي، بشخصيات كانت لها مركزها وهيبتها في المجتمع العربي الثقافي والسياسي، أمثال جد شكري القوتلي عبدالغني القوتلي، والأمير أرسلان، والأمير عبدالقادر الجزائري، وغيرهم، وفي مرحلة كانت اللغة العربية تدرج كلغة ثانية في الإدارة والسياسة والإعلام وحتى في الأدب الذي كان ينشر في تلك الفترة الزمنية، وكانت تتصدر الحوارات الأدبية والمجالس الخاصة اللغات التركية والفرنسية والإنكليزية على العربية، لكنه رسخ اللغة العربية في الإعلام والأدب وفي الحوارات، والمحاضرات،  رغم إتقانه الفرنسية والتركية إلى جانب العربية، لذلك يعتبر محمد كرد علي ومثله أحمد شوقي والبارودي وحافظ إبراهيم، والزهاوي والرصافي وعدد من الشعراء والأدباء الذين اشتهروا من حينه قادة الحركة الأدبية الثقافية العربية.
  العلامة محمد كرد علي من أب كوردي وأم شركسية، ولد في دمشق، ونهل ثقافته من مدارسها وتكياتها الدينية، وكان جل تعامله واختلاطه مع المجتمع الإسلامي-العربي، حتى ولو كانوا كوردا لكنهم كانوا يحملون الثقافة الإسلامية العربية، ولم يظهر أنه خالط الكورد من البعد القومي، باستثناء رحلته إلى الجزيرة، علما أنه كان يعاصر جلادت بدرخان وكاميران وغيرهم وفي دمشق، وكان حينها الأميرين يناضلون  من أجل  القضية الكوردية، ويكتبون بها، وعلى الأرجح كان على علم بآل بدرخان، وبالأميرين ونشاطاتهم بحكم مكانته الحكومية ومعرفته كوزير للمعارف، ومن خلفيته الصحفية لا بد وأنه كان قد بلغته خبر مجلة هوار على سبيل المثال. لكن شعوره كان طاغيا على لا شعوره، أي تفضيل الثقافة العربية على التقرب من الكورد، وهو القائل في مستهل كتابه (كنوز الأجداد) كإهداء ” إلى روح من أشرب قلبي حب العرب، وهداني إلى البحث في كتبهم، صدر الحكماء، سيدي وأستاذي العلامة الشيخ طاهر الجزائري” وتتبين فيها بوضوح شعوره بانتمائه القومي، لكن حب للثقافة العربية كان طاغيا.  
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
26/8/2022م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…