مروان سليمان
لا يتردد الكثير من الإنتهازيين في إلقاء خطابات نارية عن الوطن و حب الوطن و لكنه في الحقيقة يسلب و ينهش في لحم الوطن و إذا ما سنحت له الفرصة في التملص و التهرب و لا يعود يفكر في الوطن و لذلك فإن الإنسان الذي يقتصر وطنيته على تسعين دقيقة فقط يعاني من عاهة نفسية خطيرة في تكوينه الإنساني و يحتاج إلى علاج نفسي مكثف يعيده إلى رشده و عقله و يجب على المسؤولين أن يمنعوا مثل هذه النوعية من البشر حضور مناسبات و أماكن الزيارات لأن ذلك يسئ إلى كيان المنظومة و المجتمع برمته و يسبب المشاكل التي من الممكن أن تؤدي إلى تداعيات خطيرة على هذه المجتمعات لأن العلاقة المحترمة لا تعتمد أبداً على وطنية التسعين دقيقة
التجارب الكردية في تشكيل الأحزاب ضمن أطر الحركة الكردية تكاد تنفرد بخاصيتها في الإنقسامات إلى درجة أن هذه الإنقسامات أصبحت تنتج إنقسامات أكثر و تتفقس منها الأحزاب أكثر من الأفكار لا بل أن الفكرة الوحيدة التي أنتجتها النخب السياسية الكردية و الذي زاد و ساهم في نزول الحالة السياسية إلى الحضيض و ركود المشهد السياسي الكردي هذه الفكرة كانت اللجوء لتشكيل أحزاب جديدة و التي تنم بعد صراعات طويلة على المناصب الحزبية و في حال الفشل يلجأ القسم الآخر إلى تشكيل بديل حزبي أخر و كانت العدالة في هذا الأمر أن هذه الظاهرة شملت كل الأحزاب سواء اليمينية أو اليسارية أو ما تسمى بالحيادية أي بمختلف توجهاتها الأيديولوجية( النزعة الإنشقاقية لدى المجتمع الكردي).
عندما ننظر إلى هذه الظاهرة الإنشقاقية منذ التجربة الأولى في نشوء الحزب الأول في عام 1957 كان أول مظهر لهذه الإنقسامات هو تقسيم الأعضاء أنفسهم إلى يميني و يساري و حيادي و بعد إحتدام الصراع فيما بينهم لجأ كل منهم إلى تشكيل حزب له و سماه بأسماء مختلفة و لكن الصفات الثلاثة بقيت في ذاكرة الجماهير و من المفارقات أن النزعة الإنشقاقية كانت منتجة و فعالة و كانت تستقطب الجماهير لكل منهم.
و بما أنه لم يكن هناك و لا يوجد زعيم بمفهوم الزعامة و القيادة لكي يستطيع أن يوحد جميع تلك الطاقات و الأفكار في بوتقة واحدة فتشكلت الممارسات الإنشقاقية لدى الأحزاب السياسية و توارثتها الأجيال.
و مع مرور الزمن و تعدد الإنشقاقات داخل الحركة الكردية و كثرة تشكيل الأحزاب حتى أصبحت عائلية فبدأت الملامح الأسطورية و البحث عن القائد مختفياً من على الساحة الكردية لتأخذ مكانها الوجاهة و المنصب و المركز هو المهيمن على ( مؤسسة) الحزب و حيث تتمركز القاعدة الشعبية لذلك القيادي على سلوكيات جديدة تتمثل بالإستهتار بالقيادي الآخر في الحزب الآخر فعملت الإتهامات فعلها و المناورات و المؤامرات على البعض الصفة الأبرز مما تم ترسيخ فكرة الإنشقاقات و النزاعات و الخلافات داخل الأحزاب و خاصة الذين كانوا يتصدرون الإنشقاقات كانوا من الفئات الإجتماعية التي تملك تراكمات و خلافات و التأخير في الوصول إلى المناصب العليا داخل كل حزب من الأحزاب و خاصة القيادات القديمة التي كانت تشكل العائق الأكبر بسبب الخرف الذي أصاب ممن كانوا يديرون دفة ( مؤسسات) الحزب مما أدى إلى مزيد من الإنقسامات و ظهر الصراع جلياً بين القيادة و تشكلت فرق الموالين لها و المعارضين و ظهرت حالات الثأر و الإنتقام و تلفيق تهم الخيانة التي كانت تلقى جزافاً و خروجاً عن الإجماع الوطني و أدى إلى نشوء أحزاب موازية داخل كل حزب و ظهرت مفاهيم جديدة وسط الحركات الإنشقاقية بأنهم ينادون بالإصلاح و الآخرون يقفون عائقاً ضد هذا الإصلاح بحجة المحافظة على القيم و المبادئ و إعتبروا الخروج عنها خيانة و تم التصدي لها بالأساليب الدنيئة و الرديئة و تكررت تلك السيناريوهات مع كل حركة إنشقاقية وبقيت الأوضاع كما هي مع تغيير أسماء ( الممثلين) السكرتير.
و أخذت الصراعات الشخصية بين القيادات و إختلافهم في رؤية الأزمات و ظهرت طبقة الموالين (العميان) و طبقة المثقفين و كانت الغلبة دائماً للذين كانوا يسيرون خلف الآخرين( تحت شعار معاهم معاهم) مما أثر تأثيراً كبيراً على الأجيال التي أتت فيما بعد لإستكمال الممارسة السياسية.
إن ظاهرة نشوء الخلاف و صناعته كانت في أغلب الأحيان قبل المحطات الحزبية الهامة مثل الكونفرانسات و المؤتمرات ثم الإنتقال بها إلى شخصنة الأمور و الخلافات و تحميل الطرف الآخر ما آلت إليه الأمور و نعت بعضهم البعض بكلمات نابية و كل طرف يبرز محاسنه مع التركيز على مساوئ الطرف الآخر و بعد أن يتم التغيير حتى و إن تم تبقى الأمور على ما كانت عليه و تستمر نفس الخطابات دون الإقتراب من أي شئ من النقاط التي كان يثيرها المختلف و هذا ما كان يجعل منه مادة دسمة لكي يكون سبباً أساسياً لأزمة جديدة .
و بسبب قصر النظر و ضيق سعة الصدر و إنعدام الصبر خلال الصراع يلجأ الجميع إلى حسم الموضوع من خلال شرعنة غير الشرعي و تشكل هياكل موازية و التبشير بنتائجها سلفاً كمن يريد بيع بضاعته و تنتهي هذه الوعود إما نحو الأسوأ أو الإنشقاق و بدل وضع الأصبع على الجرح و تعيين الخطأ و العمل على تصحيحه فإن الإنجاز الجديد يهدف إلى تدمير القديم و السعي إلى إزالته من الواقع و هذا مرده إلى غياب و إنعدام العقلية التنظيمية و عدم إستخلاص الدروس و العبر من التجارب السابقة و هكذا دارت و لا تزال تدار الصراعات إلى ما لا نهاية.
إن الإنشقاقات في الحركة الكردية التي حصلت كانت دوماً تمر قبل إنعقاد المؤتمر و تنفذ في المؤتمرات بسبب النشاط الكثيف من قبل الإنشقاقيين في تلك الفترة و وضع المبررات السياسية و التنظيمية لها لتنفجر في اللاشعور الجماعي من خلال تصريح أو بيان حيث يتم تجريم القيادة و التكلم بكثافة عن أخطاء و سلبيات القيادة و نقلها من المستوى العادي السياسي و الإداري إلى المستوى الذي يلامس فيه الأخلاق وصولاً إلى الخيانة مما يؤدي إلى تفجير الكيان الحزبي عبر إنشقاق أو إنشقاقات برؤوس متعددة و هناك يعمل كل طرف على إزالة الطرف الآخر و محوه من الوجود و إلغائه سياسياً و إجتماعياً و يظهر الإنتقام و البغض دون أن يدروا بأنهم يدمرون الإنسان ذاتياً و خلق فتنة كبيرة بين أبناء الشعب الكردي بسبب الإنقسامات السياسية و الحزبية و تدوم إلى ما لا نهاية.
و من أهم المميزات التي يتميز بها المنشقون هو توجيه أنظارهم إلى منطقة ما و العمل ضد أية حلول أو أفكار منطقية تحد من عمليات الإختلاف في وجهات النظر كما يقوم المنشقون بتقديم الأعذار و التبريرات التي ينتجونها من مخيلتهم الذاتية للتهرب من مسؤولية فشلهم لأنهم تسببوا في تشكيل أزمة بسبب عدم إحترام النظام الداخلي لحزبهم و قاعدة الحزب و تكون حجتهم دائماً في ذلك هو ذهنية القيادة و سلوكياتها التسلطية و الإقصائية و الديكتاتورية، و إذا ما أصر المنشقون على رأي ثبتوا عليه و يقومون برش البهارات عليها و صبغها بمجموعة من القيم مثل الخيانة و الوفاء و المرتزقة و الخارجين عن القانون و تصل إلى مستوى أكثر توسعاً و تؤخذ من زاوية الثبات و الإصرار على التمسك بها.
ينهل المنشقون من خطاب تبرير الفساد و التوريط و الدخول في معارك وهمية مما يشكل شللاً تاماً في مؤسسات الحزب و يسيطر الإحباط على نفوس المناضلين و تتراخى هممهم كما إن المخلصون سوف ينفضون من حولهم و يبتعدون عن اليأس الذي أنتجه بعض القياديين و سوف تكون نتائجها كارثية و تتحول هياكلهم إلى مجمعات للكذب و الدجل و البوح بالغرائز الهمجية و التلفيقات بدل الإتزان و تتكون لديهم أفكاراً بأن الممارسة السياسية هي حرب وجود و قتال مصالح و ليس نضال من أجل الأفكار أو المشروع كما يدعون لأن ولائهم لبعضهم مؤقت، و في هذه الظروف التي نمر بها اليوم و الفضاء الأعلامي الواسع نجد بأن ميلاد الخلافات و النزاعات و الإنشقاقات أصبحت ضمن الممارسات الإعلامية و التي أصبحت مادة مستهلكة تخضع لقوانين الدعاية الإستهلاكية لتحقيق الإشباع الذاتي من أجل طموحات المنشقين الذين يحولون أنفسهم إلى رموز إجتماعية و نجوم و ينسجون علاقات جديدة من أجل حسم معاركهم المستقبلية.
إن الوجود الكردي في سوريا مهدد و إن أكثر ما يهدد هذا الإجماع هو السياسات المتبعة من قبل المعنيين و المتحكمين بزمام الأمور و إذا كان الإتفاق ضرورياً بين الأطراف الكردية لحماية أمنهم و مستقبلهم و وطنهم فإن السير في الطرق المتبعة يعد إنتحاراً سياسياً و عسكرياً و وطنياً بكل المقاييس
مروان سليمان
السلك التربوي- المانيا
10.08.2022