نزار بعريني
منذ تلك اللحظة الأكثر إجراما وتدميرا في التاريخ ، حين ” اختبرت ” الولايات المتّحدة باكورة قنابلها الذرية في اليابان ، في مثل هذا اليوم من العام ١٩٤٥ ، أصبحت الدولة الأكثر جبروتا وقدرة على التدمير ، واحتلت بجدارة موقع “القيادة” العالمية!! وأيّة قيادة تلك ؟!!
في تلك الحقبة الفاصلة في تاريخ اوروبّا ، لم يكن” الاتحاد السوفياتي ” في موازين القوى العسكرية ” حينها ” ندّاً قطبيّا للولايات المتّحدة، وكان يستطيع الرئيس الأمريكي أن يُخرج” جيوش ستالين” المنهكة من كامل البر الأوروبي ، ويُعيد توحيد أوروبا ، ويحولها إلى اعظم ” كتلة ديمقراطية ” ، دون أن يضطر “لمسح” موسكو أو ” ستالين غراد ” عن الخارطة ، ودون أن “يخسر ” مليارات الدولارات لتحويل جزء من أوروبا إلى قطب ” ديمقراطي ” ، في مواجهة مع قطبها ” الستاليني ” ، لكنّه لم يفعل- وهنا يكمن ” السرّ “الأعمق في خطط وسياسات السيطرة الأمريكية على العالم :
اوروبّا -التي تتعايش فيها روسيا وإلمانيا، دعامتي قيام أوروبا الموحّدة ، على جميع الصُّعد والمستويات ، في وئام وتكامل – هي المنافس الأخطر لمشروع السيطرة الإمبريالية الأمريكية على العالم !!
دقّ إسفين في العلاقات” الألمانية الروسية”، كخطوة أساسية في ابقاء اوروبة ضعيفة وممزقة ، شكّل الهاجس الأوّل في سياسات واشنطن العالمية ، كما شكّل هدف سيطرة الولايات المتّحدة على “مثلث الطاقة” الإستراتيجي العالمي في قلب منطقة الشرق الأوسط، لما يوفّره من أداة بالغة الأهميّة للتحكّم بأوروبا ، الهاجس الثاني !!
أمّا إبقاء الصين واليابان” ، مركز القوّة العالمي الثالث بعد أوروبا والولايات المتحدّة، في مستوى أقل من أن تشكّلا ، بشكل منفرد ، او مجتمعتين ، منافسا جدّيّا للسيطرة العالمية ، فلم يغب لحظة واحدة عن أهداف خطط وسياسات السيطرة الأمريكية.
ضمن هذا السياق نفهم بقاء ” تايوان ” منافس، ومركز إضعاف للصين ، وكوريا ، مقسّمة ، تشكّل ” صواريخ ” قسمها الشمالي تهديدا مباشرا لقسمها الجنوبي و اليابان ، وبقاء ملكية بعض الجزر بين روسيا واليابان موضع نزاع ؛ وبما يحوّل جميع مكامن الصراع إلى فتيل إشعال حروب عند الطلب الأمريكي ، وفي الزمان والمكان الذي تحدده مصالح واشنطن !!
في هذه اللحظات من التصعيد الأمريكي في بحر الصين الجنوبي، على العالم أن يقلق من احتمال حرب أمريكية جديدة !. فحروب الامم الأخرى ، خارج البرّ الأمريكي ، ومجال مصالحه الأمنية الحيوية في شمال القارّة وجنوبها ، ووسطها، هي، بالإضافة الى كونها اهمّ وسائل السيطرة العالمية ، هي أيضا وسيلة دفاع أساسية عن” السلم الأهلي “،الداخلي للولايات المتّحدة، وهي وسيلة تراكم رأسمالي ، إمبريالي ، لصالح المافيات المسيطرة على الحكم ، خاصّة السلاح والمال والطاقة !!
تعمل سياسات الولايات المتّحدة- اعظم ديمقراطيات النظام الرأسمالي، دون كلل او رأفة بضحايا حروبها ، ومنذ تحوّلها إلى دولة إمبريالية ، وفي إدراك عميق لعوامل “الحماية الذاتية ” التي يوفّرها الموقع ” الجيوسياسي”، ومخاطر التفتيت التي تشكّلها عوامل صيرورة تأسيس الكيان- على شنّ تلك الحروب القذرة بدماء الآخرين ، وعلى حساب مقوّمات دولهم ، طالما كل خسارة هناك ،خارج البر الأمريكي ، يقابلها تراكم قوّة على الجانب الداخلي !!
تمارس جميع حكومات الولايات المتّحدة دون إستثناء سياسيات براغماتية خارجية ، تتناقض مع ابسط مبادىء النظام الديمقراطي ، وشرعة حقوق الإنسان ، وتضع اهداف حماية المصالح الحيوية الإستراتيجية للولايات المتّحدة – في تحوّلها إلى قوّة إمبريالية عظمى ، وحفاظها على موقع الزعامة من النظام الإمبريالي العالمي ، وبما يضمن توفير أسباب الحماية الداخلية -فوق كلّ اعتبار؛ ولا تتوانى عن استخدام أبشع أدوات القتل والتدمير في سبيل تحقيق أهدافها!!
منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وفي منطقتنا – قلب منطقة” الشرق الأوسط” ، حيث خزّان الطاقة الإستراتيجي العالمي الأضخم ، وما يشكّله من أداة تحكّم في اوروبا واليابان والصين ، ومواجهة روسيا – شكلت أداة ” الصراع الطائفي “، وأذرع قواه الميليشياوية، اكثر أدوات مشروع السيطرة الإقليميّة الأمريكية فتكا بشعوب ودول المنطقة ؛ وقد خاضت حروب سيطرتها الإقليمية تحت يافطة مكافحة هذا “الإرهاب” الأمريكي ، وبأذرعه ، وقد نجحت سياساتها في تحويل دول المنطقة إلى مراكز إرهاب تحت الطلب !
منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي،( وخلال التسعينات ، وحتّى غزو العراق ٢٠٠٣ ، وبعده ، خلال سنوات العقد الثاني، وقيادتها لتحالف” قوى الثورات المضادة” في مواجهة تحدّيات حراك شعوب المنطقة) ،تركّزت الحروب التي شنّتها الولايات المتّحدة، بشكل مباشر ، وعبر الأدوات وشركاء النهب والسيطرة، على مسارين ، متوازيين ، متكاملين في الأهداف :
في منطقتنا (وفي صيرورة موازية لحروب ” إعادة ترتيب البنى والنظم السياسية في اوروبا ما بعد حقبة ” انظمة المعسكر الاشتراكي “، في سياق استراتيجية أمريكية مستمرة ، تحرص على منع توحّد أجزاء القارة في إطار الاتحاد الأوروبي ، الديمقراطي ، وتأبيد حالة الانقسام والتنابذ بين روسيا ودول الاتحاد الديمقراطية، بما يُضعف الجميع ، ويعزّز الهيمنة الأمريكية )، جهدت سياسات واشنطن لتحقيق أهداف سيطرة مطلقة على “مثلّث الطاقة الإستراتيجي العالمي” في ايران والعراق والسعودية ، بأدوات جديدة ، وشركاء ” فوق العادة “، فكان صعود “الإسلام السياسي” بأذرعه الميليشياوية ، وبتجيير ذكي ومدروس لسيرورة ” الثورة الايرانية ” و حروب ” المقاومة الأفغانية “، وكانت اعظم نجاحات سياسات الولايات المتّحدة في تفشيل الدولتين ، وتحويلهم إلى مركز ” إشعاع ” طائفي وميليشياوي إقليمي ، بما ينسجم مع خطط ” الفوضى الخلّاقة ” ويبرر يافطات ” الحرب على الإرهاب “؟!
تركّزت استراتيجية الولايات المتّحدة اللاحقة على دحرجة ” كرة الحرب ” الميليشياوية ، لتغطي العراق
ولبنان وغزّة ، ثمّ اليمن وسوريا ، لتسيطر بشكل مطلق على مخازن ومنابع وطرق وسلطات “مثلث الطاقة الإستراتيجي،” مستغلّة سياسات شركائها في المنطقة ، وتناقض مصالحهم الخاصّة ؛ بدءاً من الصراع “الايرو عراقي” ، وأطماع ومخاوف ” الدولة الصهيونية” ، الى سياسات مواجهة تحدّيات الربيع العربي، وهواجس الأمن القومي التركي !!
في مطلع ٢٠٢٢ ، وبعد إنجاز هذه المهمّة الأكثر نجاحا في خطط السيطرة الإقليميّة والعالمية ، عادت الى اوروبا ، لتعيث فيها دمارا وخرابا من بوابة الحرب على أوكرانيا ، التي لعب فيها ” بوتين ” دور” الخميني “””””””””، وكان أداء ” زيلينسكي ” أقرب الى دور ” صدّام “!! لقد حققت حروب الرئيسين الروسي والأوكراني ، السريعة، جميع أهداف أمريكا الاساسية : اضعاف أوروبا وروسيا معا ، ودق إسفين في العلاقات الإلمانية / الروسية ، والروسية الأوربية ،
وأعادت ” اوروبا ” الى اجواء ” الحرب الباردة ” ودعايات النازية ، التي اعتقدت شعوب ودول أوروبا ونخبها الحاكمة أنّها اصبحت من الماضي، بما يؤكّد على جهلها المريع ( او تواطؤها )، بحقيقة سياسات واشنطن الاوروبية ، و أهدافها!!
في هذه المرحلة من خطط وسياسات السيطرة الأمريكية ، وبعد ان أشرفت حرب اوكرانيا على نهايتها ،من الطبيعي أن تعمل الولايات المتّحدة على دحرجة كرة الحرب باتجاه بحر الصين ، حيث كانت حريصة على بقاء ” الجمر تحت الرماد ” ، ، في دعمها لبقاء الصين مقسّمة ، استعدادا لحرب جديدة !!
على أيّة حال ،الوضع بين الصين وتايوان مختلف عن أوكرانيا وروسيا ، وقد تفشل الولايات المتّحدة ، كما نأمل ، وتأمل جميع شعوب العالم ، في إشعال حرب جديدة!
عامل الاختلاف الرئيسي هو في طبيعة الأنظمة. فالنظام الصيني ليس كنظام بوتين ، ولا النظام في تايوان يشبه نظيره الأوكراني، ” الديمقراطي !!
“بوتين” و”زيلنسكي ” صناعة أمريكية ، تماما كما كانا ” صدّام ” و ” الخميني ” ، ( ومَن يجهل هذه الحقيقة ” المؤامراتية ” ليغلّب نفسه قليلا بقراءة طبيعة الظروف و التغيّرات السياسية التي اوصلت بوتين الى قمّة السلطة ” الجديدة ” في نهاية الألفية ، بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي ، و”زيلنسكي بعد ٢٠١٣ ) ، وقد تمكّنا بسهولة ، بفضل سياسات أمريكية / أوروبية داعمة لتأجيج الصراع ، من جرّ شعوبهم وجيوش بلدانهم الى حروب مدمّرة ، ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!
المخيّب للآمال هو مواقف حكومات “أوروبا الديمقراطية” من الحرب على أوكرانيا- التي لم تستطع الخروج من عباءة المصالح الأمريكية ، رغم تناقضها الواضح مع مصالح القارّة – ( خاصّة ألمانيا وفرنسا )،التي تستهدف الحرب إضعافها ، وإبقائها تحت ” البوط الأمريكي”!
عوضا عن الوقوف في وجه الطرفين المتصارعين ، الروسي والأوكراني ، والطراف الداعم للحرب ، الأمريكي ، والعمل على منع حدوث الحرب، ووقفها ، لعبت نفس أدوار” اسرائيل” وأنظمة دول الخليج ،إبان حرب الخليج الأولى، في دعم جهود واشنطن لتغذية ماكينة الحرب ، ودفعها إلى نهاياتها المرجوّة أمريكيا !!
بكلّ الأحوال ، أعتقد أنّ القيادة الصينية أكثر وعيا في إدراك طبيعة اهداف المشروع الأمريكي ، وقدرة على مواجهة الخطط والسياسات الأمريكية ، وتفشيلها( على الاقل ، هذا ما نتمناه !) ، ولا نتوقّع منها الرقص على انغام طبول الحرب الأمريكية !!
الحكومة ” الديمقراطية ” في تايوان، من جهتها ، اكثر عراقة ، ولا يستطيع أن يقودها ” زعيم ” في مسار حرب مدمّرة ، كما فعل ممثّل أوكرانيا اللامع ،بدعم إسرائيلي مباشر، رغم ما بين ” الكرملين ” وسلطة الاحتلال من تقاطع واسع في المصالح والسياسات ، خاصّة في سوريا !!
ما نخشاه أن تكون قد أدركت واشنطن هذا الفرق ، وعملت على ” تجاوزه ” ، بوسائلها الخاصّة ، لخدمة خطط حربها الجديدة(١) !!
عندها ، ستكون حربا أمريكية جديدة ، تحرق الصين وتايوان معا ، قد بدأت بالفعل !!
الخزي لصنّاع الدمار والحروب !!
السلام والعدالة لنا جميعا !!
(١)-
أجواء الحرب التي تلبّد غيومها الأمريكية سماء فضاء المصالح الحيوية للدولة الصينية اليوم يجب ان لا تنسينا أن “الصين “هي شريك رئيسي للولايات المتحدة الأمريكية، إقتصاديّا ، وسياسيّا ، وأنّ العلاقات بين الدولتين ما تزال تحمل سمات” الشراكة إستراتيجيّة “؛ و قد وضعت لبناتها الأولى خلال المراحل المبكّرة من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي، وترسّخت لاحقا ، في إطار انتصار خط سياسي “رأسمالي” صيني ، يرى في الصراع الدائر بين منافسه الشيوعي اللدود ، الاتحاد السوفياتي ، وعدوه الاستراتيجي ، الولايات المتحدة الأمريكية، فرصة تاريخيه للنهوض باقتصاد الصين، وموقعها الجيوسياسي في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية الأمبرياليّة ذاتها ،دون المساس بمصالح الطغمة ” الشيوعيّة ” المهيمنة ، مستفيدا من التسهيلات التجارية العالمية التي اتاحتها الولايات المتحدة لحلفائها في ” المعسكر الرأسمالي العالمي الإمبريالي “، ومن حاجة الولايات المتحدة لتحييد الصين ، في صراعها الكوني ضدّ السوفيات ، و”معسكرهم الاشتراكي”، وإدراكها لما سيؤدّي إليه النهج ” الرأسمالي ” للقيادة “الشيوعية” الصينيّة من تقويض اسس النظام الاشتراكي ، ذاته ؛ في صيرورة صراع طويلة نجحت ، الولايات المتحدة الأمريكية، زعيمة النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي، في تحقيق نصر تاريخي ، إستراتيجي ، مزدوج ، في إسقاط “النموذجين الاشتراكيين ” ، الصيني ، والسوفياتي ، معا !!
على أيّة حال ، لقد نقلت تلك العلاقات والمصالح المشتركة حالة التعاون إلى مستويات إستراتيجيّة ؛ حصلت بموجبها القيادة الصينيّة على امتيازات ، وأسواق مفتوحة ، وصلت إلى شوارع واشنطن ، وأوصلت موسكو إلى” مياه المتوسّط الدافئة “!!
ضمن هذا السياق التاريخي، يصبح من الطبيعي أنّ يعزز سقوط “روسيا السوفياتية” في مطلع تسعينات القرن الماضي خطوات شراكة الولايات المتحدة الأمريكية، الإمبرياليّة ، مع سلطات الأنظمة ” الرأسمالية ” في “موسكو” و ” بيجين ” ، في إطار علاقات النظام الرأسمالي العالمي ، وتحت سقف مصالح قيادته الأمريكية ، وفي إدراك عميق لدروس مواجهات الحرب الباردة، وهو ما يُبّن ضعف مصداقية دعاية صعود صيني( وهي دعاية أمريكية بالأساس ، أطلقها مسؤولو الصف الأول في الإدارات الأمريكية، وتروّجها ابواق مرتهنة ) ، في مواجهة مع الأمريكان، ومنافسة على موقع الزعامة ، يجعل من بكين “تحدي رئيسي للقطب الأميركي الأوحد للعالم” ، او دعاية سعي موسكو لمواجهة الولايات المتحدة بحلف عالمي جديد ، لا يملك في الواقع ، ومنطق موازين القوى،الحدّ الأدنى من المقومات الذاتية والموضوعية لنجاحه !