صلاح بدرالدين
أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتونس ( ٢٦ – ٧ ) عن انتهاء عملية الاستفتاء على الدستور التي دامت ثلاثة أيام بين الخارج والداخل بنجاح، بمشاركة نحو مايقارب الثلاثة ملايين أي نحو ( ٣٠٪ ) وبنسبة ( ٩٤٪ ) قالوا نعم للدستور الجديد .
لماذا الاهتمام باالاستفتاء على الدستور بتونس ؟
أولا – نحن ككرد وكسوريين محرومون من الاستحقاق الدستوري الحر منذ قيام الدولة السورية بعد الاستقلال، ولأنه القانون الأساسي الذي ينظم الحياة السياسية، والضمانة الملزمة للعقد الاجتماعي الذي يثبت الحقوق والواجبات بين جميع المكونات الوطنية، وكان ومازال على راس المشاريع، والبرامج التي يناضل في سبيلها الشعب السوري كمدخل لحل كل القضايا الأخرى التي تهم حاضر ومستقبل السوريين، وهو المطلب المفتاح للحركة السياسية الكردية منذ عقود من اجل ضمان الوجود والحقوق، وبايجاز بات الدستور هاجسا لايفارق مطامحنا، وآمالنا، ومشاريعنا، وحتتى نضالاتنا اليومية .
ثانيا – التجربة التونسية بهذا المجال كاول بلد انطلقت منه الثورة منذ نهاية عام ( ٢٠١٠ ) تجسد العلاقة المتينة بين ثورات الربيع، والدساتير، فكان مطلب صياغة دستور ديموقراطي، عصري، جديد من ضمن بنود التغيير الديموقراطي، والانتخابات البرلمانية الحرة على راس جدول الاعمال ، واهداف، وشعارات ثورات الربيع بكل مكان وبالأخص في بلادنا قبل افولها، وقد نال هذا الاستحقاق الشعب التونسي بعد نحو ثلاثة عشر عاما من ثورته، ونحن مازلنا على الطريق .
ثالثا – تماما مثل ماحصل في بلادنا، وبلدان أخرى التي شهدت اندلاع الثورات ( الربيعية ) فقد تسللت جماعات الإسلام السياسي، وركبت الموجة الثورية، وامسكت بمقاليد الأمور مستغلة الفراغ، والفوضى، وضعف القوى الديموقراطية، وعدم انتظام الفعاليات الشبابية العفوية التي هي من قامت بالثورة بالأساس، وقدمت التضحيات، فقد تصدرت حركة النهضة الاخوانية الصفوف، وجذبت الى صفوفها عبر الترغيب، والرشاوى، مجموعات، وافراد من الانتهازيين من اقصى اليسار، وبعض الليبراليين، ثم تمخض عن تلك المرحلة دستور ( ٢٠١٤ ) الذي مهد لتحكم الإسلام السياسي، والسيطرة على البرلمان، والتغلغل في المفاصل الأمنية، والمؤسسات القضائية، وذلك كسند قانوني لاستمرارية حكمها، والتخلص من الخصوم عبر الاغتيالات التي طالت شخصيات وطنية وديموقراطية مناضلة مثل شكري بلعيد، والبراهمي وغيرهما .
رابعا – مثل ماشكلت الثورة بتو نس تجربة فريدة بعد اشعال – البوعزيزي – نفسه بالنار احتجاجا على الظلم، والمعاناة، كذلك افرزت تلك التجربة مسارا غير اعتيادي في بروز دور الفرد باتجاه التصحيح، ووقف سيطرة الإسلام السياسي، ومواصلة التغيير بالمجال الدستوري الذي كان على راس اهداف ثورة تونس، وإعادة الاعتبار من جديد للإرادة الشعبية، عن دور شخص الرئيس التونسي – قيس سعيد – نتحدث، الذي انتخب باعلى نسبة من الأصوات، وهو مستقل لاحزب لديه، ولا فصائل ميليشياوية مسلحة، وليس جنرالا عسكريا، ولم يكن يوما اخوانيا، او منتميا لاي حزب سياسي، وتشير سيرته الذاتية الى انه أستاذ ( القانون الدستوري ) بالجامعة التونسية، ينحدر من الطبقات الفقيرة، ويعيش بالاحياء الشعبية، وكان منخرطا في التنسيقيات الشبابية جنبا الى جنب طلابه الجامعيين بداية الثورة، ومعروف بالاستقامة، والتواضع، الى درجة رفع تسمية السيدة الأولى عن شريكة حياته .
خامسا – لقد انفضح امر الأحزاب التقليدية ( الدينية، والقومية، واليسارية المتطرفة والليبرالية ) في تونس قبل كل بلدان المنطقة، وظهر للشعب ونخبه الفكرية، والثقافية، ان تلك الأحزاب تتحمل المسؤولية الأولى في محاولة اجهاض الثورة، وحرفها عن الطريق السليم، وركوب موجتها، والتسلل اليها، ومن ثم نحرها، ولذلك يعتبر المراقبون ان مايجري بتونس هو نوع من إعادة البناء، وعقاب الأحزاب خصوصا حزب النهضة الاخواني، او خطوة استباقية لقطع الطريق على سيطرتها النهائية، ولكن ليس باسم ثورة جديدة،او عبر الانقلابات العسكرية، او العنف، او سلاح الميليشيات، بل بسلطة الدستور، والقوانين، والإرادة الشعبية الحرة .
سادسا – تلخص التجربة التونسية واقع الحال في مختلف بلدان ثورات الربيع، فعلى سبيل المثال تبين ان القوى والتيارات الفكرية والسياسية التي اجهضت الثورة، ووقفت ضد إصلاحات رئيس الجمهورية المنتخب بتونس، هي جبهة الخلاص ( المعارضة ! ) المشكلة من الاخوان المسلمين، والبعثيين، واليسار المتطرف الممانع، وهي صورة معبرة حيث ان ثورتنا السورية المغدورة كانت ضحية نفس تلك القوى حتى لو اختلفت الأسماء، وهي جميعها من قوى الثورة المضادة بعد عقد من ثورات الربيع .
سابعا – يظهر ان عماد حركة إعادة البناء في تونس من الشباب نساء ورجالا، ومن الوطنيين المستقلين، والمثقفين، والاكاديميين الملتزمين بقضايا شعبهم، وهم الغالبية بالمجتمع التونسي الذي يزخر بالطاقات، وبنشطاء المجتمع المدني، وناشطات نسوية حققت النجاحات منذ عهد الرئيس التونسي الراحل – الحبيب بورقيبة .
ثامنا – كما تظهر الدلائل فان شعب تونس وإزاء هذه التطورات الإيجابية يغادر مرحلة الانسداد السياسي نحو مرحلة جديدة، وفي ظل دستور جديد، وآفاق واسعة لخطوات واعدة في المجالات القانونية، والاقتصادية، ومحاسبة الفاسدين، واجراء الانتخابات التشريعية، والبلدية، وتشكيل المحكمة الدستورية، واستكمال بناء النظام السياسي كما يريده التونسييون .
تاسعا – يعتبر البعض ان مايجري هو استمرار رمزي بشكل آخر لثورة الياسمين بتونس، وتحقيق أهدافها بطرق جديدة، ويعتبر البعض الآخر انه انتقال من مرحلة الثورة بكل مالحقها من فوضى واشكاليات، وارتدادات، الى مرحلة إعادة البناء عبر الدستور، والقوانين، خاصة وان لتونس خصوصيتها في كثير من القضايا وابرزها حيادية الجيش الوطني، وعدم التدخل بالصراعات السياسية الداخلية، وهذا ما يوفر الفرص الكبيرة للمجتمع المدني، والنضالات الشعبية السياسية، والاجتماعية .
عاشرا – من المعلوم ان ( الاتحاد التونسي للشغل ) وهو من اكبر التجمعات النقابية، واقدمها كانت متوافقة مع خطوات الرئيس التونسي، وداعما لها في البدايات، ثم مالبثت وان اتخذت منحى تصاعديا في ادق الظروف والتقت عمليا مع مخططات حزب النهضة، ولكن مالبثت قيادتها ان أوقفت التصعيد، ولكنها أخطأت من جديد عندما وقفت بشكل – محايد – بشان التصويت على الدستور، وتشير الدلائل ان قواعد هذه المؤسسة صوتت بنعم للدستور، وكما أرى فان الامر يحتاج الى إعادة نظر من جانب المتنفذين في هذه المؤسسة العريقة، وممارسة نوع من المراجعة .
لاشك ان ما توصلت اليه في هذه المقالة من قراءة، وتقييم نابع من الحرص على شعب تونس الواعي المعطاء، وبنهاية المطاف فانه ادرى بشعاب بلده، وهو يقرر مصيره بنفسه .
والقضية قد تحتاج الى نقاش