صبري رسول
كانت أهمية بناء المجلس الوطني الكردي تنبع من تأطير الطّاقات الكُردية (المشتَّتة سابقاً) الضّائعة في الاتجاه الخطأ، في هيكليةٍ تنظيمية تمثّل الشّعب الكردي، ويكون وجهاً سياسياً يمثّل الصّوت الكُردي «الذي كان غائباً في كهوف البعث» إلى القوى المعارضة والنّظام، وصياغة التّفاصيل فيما يتعلّق بحقوق الشّعب الكردي راهناً.
حصل ذلك فعلاً في مؤتمرٍ جمع القوى السّياسية الكُردية من أحزاب «تسعة أحزاب» وتنسيقيات واتحادات شبابية ونسائية «وليدة حديثاً» في مدينة قامشلو 26 أكتوبر 2011 باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي الذي طالب حصةَ ثلاثة كياناتٍ، وتحجّج بها، وثمّ التحق بركب (PKK والنظام) واستخدم النفوذ العسكري لهما للسّيطرة.
المجلس بدأ مسيرته السّياسية استناداً إلى قوة جماهيرية اعتقدت بأنّها ستؤمّن حقوقَها من خلال هذه القوة التي تمثّلها، وإلى طقسٍ سياسي يوحي باقتراب سقوط النّظام.
استلم (ب ي د) ومجلسه المُشكَّل سريعاً السّلطة من النّظام، وباشر باستعراضاتٍ سياسية وعسكرية حتى في شوارع المدن، وتحالَفَ معَه سرّاً بعض القوى السّياسية الكُردية المتأرجحة بين أسوار النّظام وتخوم المعارضة، من داخل المجلس الوطني (الوحدة (شيخ آلي)، البارتي (نصرالدين إبراهيم)، اليسار الكردي (محمدي موسي وصالح كدو) وشخصيات مستقلة كانت حتى الأمس تشكّل ممراتٍ سرية للنظام إلى جسم الحركة، قاموا بجرّ حبله باتّجاه «الإدارة الذّاتية» بعد إعلانها، وانتشار رائحة المال في خزائنها المُباحَة. النَّظام كان ذكياً في زرع نقاط استنادٍ له فيها. واحتدّ الصّراع بين المجلس الوطني و(مجلس ب ي د) حتى لاحت تباشير اتفاقية هولير، ففي 11 حزيران/يونيو 2012، وقعّ المجلس الوطني الكردي اتفاقية مع مجلس شعب غربي كردستان الذي شكّله حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، المنافس الرئيس للمجلس الوطني الكردي في سورية. وقد شكّل المجلسان هيئة مشتركة في اتفاق تكميلي عقد في 1 تموز/يوليو، والتزما بإنشاء خمس لجان إدارية وأمنية وكذلك قوات دفاع مدني غير مسلّحة لحماية المناطق الكردية.
لم تصمد الاتفاقية طويلاً، انهارت بنودُها سريعاً، كأنّها من طميّ طينيّ هشّ، وبدأ المجلس يفقد بريقه الجماهيري، وأصابه ترهّل إداريّ، زاد من رخاوة خاصرته، فلم يستطع خلال مؤتمراته اللاحقة التغلّب على نقاط ضعفه، ولا تجديد أسلوبه النّضالي، فانضمّ إلى الائتلاف السّوري الذي لم ينفّذ أي بندٍ في اتفاقياته مع المجلس سوى ما يتعلّق بعدد أعضائه في القيادة، بل انغمست رجالات الائتلاف في تشويه صورة الشّعب الكُردي، وتنمّروا عليه متكئين على ثقافة النّظام وقراراته بحق الكرد، ساهموا كذلك في تحريض تركيا لاحتلال مدنٍ وبلدات كردية كثيرة. من جانبه حاول مجلس الشعب لغربي كوردستان من خلال اتصالات موسعة مع الائتلاف الانضمام إليه حيث التقى صالح مسلم مع رئيس الائتلاف أحمد الجربا في باريس وعقدا اجتماعاً مطولاً تم خلاله مناقشة هذا الوضع، إلا أنّهم لم يخرجوا من خطّ حلفائهم في قنديل، وأشعلوا جبهة إعلامية تخوّن المجلس. إلا أنّ تلك التجربة لم تعزّز مواقع المجلس وعلاقاته الدّولية كثيراً.
فإذا كان «المؤتمرُ المُرتَقب» يمثّلُ غايةً قصوى في دكاكين السّياسة، لتسجيل رقم المؤتمر، وإقناع النّاس بـ«التّغيير المُعلّب» وليس وسيلة سياسية لفكّ معضلة التفتّت الكردي، وإيجاد حلولٍ تناسب المرحلة، والقيام بترتيب البيت الكردي بما ينسجم مع الرّاهن الصّعب، فسنرى أنّ القرار الكرديّ سيقى مشوَّشاً وغائباً، وهو مخطوف أصلاً وسيبقى مسجّلاً بماركة «الانتصارات العظيمة» ومن دون ألوان.
المجلس أمام تحدياتٍ مصيرية، وقيادته لا تبالي كثيراً بالأحداث السياسية الكبرى، فقراراته مازالت ارتجالية، تُصنَعُ على مقاس آراء بعض الكهنة والقياديين ومصالحهم ورغباتهم، من دون اللجوء إلى آراء الشرائح الواسعة من المثقفين والسياسيين خارج إطار التنظيم المجلسي، وهذا سيفضي إلى أن يكون القرارُ الكرديُّ «المصيري الطَّاهر» رهْنَاً بيد طُهاة الطبخة السياسية الكردية غير الماهرين إلا في سياسة التَّكتلات والالتفاف على الآخر، تلك الصراعات ستكون، بداية منعطفٍ جديد للسياسة الكردية.
الكسيح لايختار الطريق كما يشاء، فإما أن يجابه السّير متغلّباً على ضعفه أو يواجه الانجراف تحت أحداثٍ متسارعة، والمعطيات المتوفرة حتى الآن تشير إلى رغبة قوية في إحداث تغييرات جوهرية في تنظيم المجلس وإدارته، لأنّ المرحلة السابقة أثبتت عجزه الكامل في إدارة الشّؤون الكُردية محلياً ودولياً، ناهيك عن فقدانه الجماهير الهائلة، التي لم تعد تعوّل على وجوده وعمله أيّ شيء، لأنّ الخرائب التي اتّسعت حتى شملت «البصرة» لا يتحمَّل ب ي د المسؤولية بمفرده، فالتّراخي والانغماس في الفساد «الإداري والتّكتلي» وترك الحبل على الغارب حطّمت آمال النّاس ودفعتهم إلى الهجرة، كما شجّعت الطّرف الآخر إلى التَّفرعُن، واستلاب قرار الحرب والسّلم؛ لكن الرغبة في التغيير قد لا تتوافق مع القدرات والإمكانات، وقد لا تلبّي المصالح سيما أنّ رائحة «الفساد الأسود» فاحت من معاطف وسيارات وعقارات بعضهم.
طرحتُ في مؤتمرات سابقة، من خلال مقالاتٍ كتابية قبل المؤتمرات أو مداخلاتٍ في داخل المجلس، عدداً من المقترحات التي مازالت صالحة للبناء عليه، وهذه المقالات منشورة في الصّحف والمواقع، بما فيه موقع المجلس الوطني الكردي. ومن أهمّ الخطوات التي يجب على المجلس الوطني القيام به:
– تفعيل مكاتبه إلى حدّه الأقصى، وتنشيط دورته الدموية، وعدم الاكتفاء بالبيانات المملة والضعيفة.
– إجراء تغيير جوهري في جميع مؤسسات المجلس، تنظيمياً وسياسياً.
– الانفتاح على كلّ المقترحات الممكنة، والاستماع إلى نبض الشارع وأنينه.
– إعطاء دور نشط للمستقلين من ذوي الكفاءات العالية واستغلال الطاقات الخلاقة للكُرد في الدّاخل والخارج، وتوسيع الشّراكة مع كلّ القوى الفاعلة في المجتمع المدني.
– العمل على تأسيس إعلامٍ فاعل قادرٍ على إيصال الصّوت الكُردي والصورة الحقيقية إلى العالم، وفتح المجال أمام متخصصين في هذا الشّأن.
قد تكون تلك الخطوات بداياتٍ حقيقية للخروج من الانتكاسات الباردة، وبمثابة إعادة الروح لجسم المجلس، وإلا سيبقى ينزف ما تبقى من قواه وفي كل المجالات.