ماجد ع محمد
كان المأخذ على الفئات المؤدلجة من أبناء المجتمع أنها تخلو من العفوية والتصرف الطبيعي في التعاطي مع معظم مجريات الحياة، بكونها على الدوام تنطلق من قاعدة ثابتة واحدة في مقاربة أية قضية أو إشكالية أو حتى أي حدث عابر، وحيث أن الشخص المسلَّح بأيديولوجيا معينة لا ينظر إلى الواقعة أو الأمر المطروح إلاَّ من خلال منخله ومقارنة الموضوع المطروح بالمعجم الماكث في عقله، وذلك باعتبار أن الأيديولوجيا وفق المتعارف عليه هي مجموعة من الأفكار والتصورات والمفاهيم الحاضرة في الذهن والتي تشكل رؤية متماسكة لدى الفرد الواحد أو لدى التنظيم الديني أو السياسي برمته،
وكانت الأيديولوجيا تعرف بأنها اسلوب أو طريقة للنظر بها إلى القضايا والأمور التي تتعلق بالشؤون الحياتية اليومية أو التي لها صلة بمناحي فلسفية أو سياسية على وجه الخصوص، أو هي تلك الأفكار التي تفرضها الطبقة الحاكمة أو المتسلطة على باقي أفراد المجتمع؛ وحيث كان مدار عمل الأيديولوجيات في الرأس ومعاركها تدور في ميادين لاعبوها هم الرؤوس وعدتهم وذخيرتهم موجودة في الرؤوس ذاتها، إلاّ أن الاستخفاف بالجمهور إلى درجة محوِ كينونتهم وإلغاء آرائهم دفع ببعض المنظّرين المتسلطين على الرقاب إلى التفكير الجدي بحرمان الفرد التابع من فضيلة البقاء في العلالي في تصوراته للأشياء ومحاكماته العقلية، وبدلاً من البقاء في منطقة الهامة واللجوء إلى ما في الرأسِ من حجج عند السجال، فكروا بجعلِ ميدان انشغال الفرد أو مجموعة من البشر الملغى كينونتهم في النواحي السفلية من أبدانهم، وذلك من خلال رميهم من المنطقة العليا نحو الأطراف الدنيا، والنزول بهم من محتوى الهرم إلى إطار القدم.
وعلى اعتبار أن التلميذ في مرات كثيرة يسبق معلمه وخاصة في المجالات التي يجد التلميذ نفسه فالحاً فيه أو قادر على أن ينافس اُستاذه، فربما من أجل أن يحتل التلميذ موقع المعلم من باب لفت الأنظار إلى ما صنع، قد يبالغ في المحاكاة ويأتي بما لم يقم به المعلّم الأوّل، وفي هذا الإطار يتذكر من تابع الإعلام في البلد بأن النظام السوري قام في الرابع من شهر آب عام 2013 بمناسبة الذكرى 68 لتأسيس الجيش العربي السوري بإزاحة الستار عن نصب تذكاري يمثل الزي العسكري للجندي العربي على شكل البسطار/ البوط العسكري ومجسم على هيئة الرصاصة، وذلك في مدخل مدينة اللاذقية، هذا قبل أن يقوم بالعمل ذاته مع التضخيمِ الممجوج أنصار حزب العمال الكردستاني بسنوات عدة، ولكن وللأمانة فالنظام لم يكن وقحاً في تمجيد الحذاء كما فعل أنصار أوجلان من خلال الأغنية التي أُلفت حول تعظيم أمر البسطار/ البوط وتفضيله على مدنٍ بأكملها.
وفي سياقٍ متصل يُقال إن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء من الأشياء الموجودة في الطبيعة، حتى أن بعضهم عمل صنمه الذي يبجله وينحني أمامه أثناء العبادة من التمور ولكنه إذا ما جاع هم بالتهام صنمه القابل للأكل، ويبدو أن هذا التداخل بين التبجيل والانقضاض على المبجل انتقل بشكل منحرف إلى ميدان بعض الجهات السياسية التي راحت تحقن الرؤوس بتصورات قابلة على تفضيل المداس على الناس.
كما أن العقائد السياسية في العصر الراهن غدت طقوسها أشبه بمعتقدات أهل الجاهلية، والدليل المنظور هو أنها لم تتطور عنها كثيراً رغم الفارق الزمني الكبير بيننا وبين أبناء مرحلة الجاهلية، وذلك عندما فشل تنظيم عقائدي كبير في استبدال رموزه وإخفاقه في اختيار بديلٍ مناسب لأتباعه بدلاً من أيقونة خاقان التنظيم.
ولعل بعضهم بعد أن تورط مع الحشدِ في كرنفال استبدال الرموز المقدسة تذكّر العبارة القرآنية “أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير” وذلك عندما نحوا صورة الخاقان الأعظم جانباً ورفعوا عوضاً عنه بوطاً تركي الصنع؛ إذ حيال تقديس الصنم التنظيمي الكبير لمدة تزيد عن أربعين سنة كان التوقع لدى أهل البصيرة بأن يلجأ التنظيم إلى تقديس العقل وتبجيل الفكر أو الشهادات العلمية أو الاختراعات التي تفيد البشرية أو الوطن أو الإنسان الذي يشغل تلك الجغرافية المسماة بالوطن أو تقديس الحياة لدى أبناء الوطن بدلاً من التشجيع المستمر على الموت والتضحية من أجل قضيةٍ ما تزال غير واضحة المعالم لا في ذهن الخاقان ولا في قحف قادة التنظيم أجمعين.
وحيال قرار تنحية لوحات وصور الزعيم يبدو أن أنصار التنظيم لم يفهموا إشارات القيادي مراد قره يلان الذي طالب بعدم رفع صورة القائد وبالتالي التخلي عن ظاهرة الاعتصام الهيستيري بصور الزعيم واستبداله بما هو خير للتنظيم والمجتمع، كرفع صور الزعماء الكرد الراحلين أو صور مدينة عفرين أو رأس العين أو تل أبيض أو غصنَ زيتون أو سنبله قمح أو ضفيرة نسائية، ولكن يظهر أن المتنفذين في التنظيم كان لهم رأي آخر بخلاف ما توقعه الخيرون والمتنورون، إذ بخصوص اختيار مجسم البوط التركي والاحتفاء به في كرنفالٍ جماهيري بألمانيا ثمة رأيان:
أحدهما هو التأكيد على أن الأوامر والقرارات في ذلك التنظيم ما تزال عمودية أي قادمة من الأعلى المجهول إلى أسفلٍ معلوم، وما على الحشد أو الرعية إلاَّ الانصياع للأوامر وتقبلها بالبوط أي بالعنف والإكراه؛ وفريق آخر يرى بأن ثمة أناس في التنظيم لهم صلة بمعمل الأحذية المروج له أيديولوجياً، لذا فهم مع الترويج للبوط قلباً وقالبا من أجل تحقيق أهداف اقتصادية صرفة، هذا ولو كان ذلك الاختيار يحمل في طياته الإهانة للإنسان وفكره وعقله وقيمه.
على كل حال لو أن هذا التنظيم لم يتدخل في صناعة البؤس الفكري واكتفى بالتراث الديني السابق لدى الكرد وما جاء قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة لغدا المجتمع أكثر تطوراً من خزعبلات التنظيم في الوقت الحاضر، وعلى سبيل المثال لو أن التنظيم قام باحترام وتقدير نار نوروز يوماً لصعد بأتباعه للعُلا ولم يُخفض بجماهيره للأسفل، باعتبار أن وجهة النيران دائماً ما تكون للأعلى، وحيث كان للنار على الدوام شأن عظيم في الديانة الزردشتية.
وبخصوص الحط من قيمة الإنسان عبر كرنفال الأبواط، ذكر المهندس علي أكرم في صفحته الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) بأن عضو قيادي في حزب البعث العربي الاشتركي في سورية صرح يوماً بأنه “كان صاحبَ اقتراح انتعال نوع معين من الأحذية من قِبل كوادر حزب العمال الكردستاني”، وذلك لكي يعرفوا بعضهم بعضا ليس من خلال الأفكار والرؤى والتصورات، إنما من خلال الحذاء أو البوط!
وفي المجال ذاته كان الفنان الفلكلوري الراحل عبدالرحمن عمر (بافى صلاح) يقول بأن “الأنصار الذين يتعرفون على بعضهم من خلال الحذاء أو البوط لن يكون الارتقاء في بالهم قط، وذلك لأن وجهتهم الرئيسية صوب الانحدار، وذلك حتى يكون من السهل التحكم بهم وسوقهم كالأنعام” ونزيد بأنه يمكن إضافةً إلى آلية التحكم بهم، كذلك الأمر الدخول بينهم بكل يسر وزرع كل المخططات الفاسدة في أذهان المريدين، وبث ما يريدونه بين الحشد الذي يحفظ الشعارات والهتافات والأقوال من دون إدراك، طالما أن الانتماء لذلك الحشد لا يحتاج أكثر من بوط، ومجموعة من الصور وبضعة هتافات يحفظها المؤمن أو المندس عن ظهر قلب، وخير مثال على ذلك: مجزرة عين العرب/ كوباني التي وقعت في الخامس والعشرين من شهر حزيران عام 2015، والتي قُتل فيها حسب بعض التقارير الحقوقية 253 شخصاً، وأصيب 273 آخرين معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، إثر دخول داعش لمدينة كوباني؛ وحيث أن الدواعش استطاعوا الدخول إلى المدينة والمرور من كل الحواجز بكل يسر لمجرد أنهم التحفوا بأسمال أتباع حزب العمال الكردساتي، ورفعوا فوق سياراتهم صور الخاقان، وعند وصولهم للحواجز اكتفوا بإطلاق بضعة شعارات سطحية تمجد الزعيم أو التنظيم أو الشهيد، وهكذا دخلوا المدينة بكامل أسلحتهم وعتادهم وارتكبوا مجزرة مروعة بسبب بلاهة قادة التنظيم وكوادرهم الذين يركزون على الشكل والهندام وليس على الإنسان الذي يرتدي تلك الملابس.
عموماً بما أن التنظيم المذكور فلح إلى الآن في تجهيل المجتمع بالشكل المطلوب بالنسبة له وكذلك الأمر بالنسبة لمن يعوّل على ذلك التنظيم في ضرب وإنهاك المجتمع الكردي، مرةً من خلاله، ومرةً من خلال إعلان الحرب عليه؛ فهذا الأمر يذكرنا باستراتيجيات المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي كدليل للسيطرة على العقول وبالتالي توجيه سُلوكهم والتحكم بأفعالهم، ومنها: “لكي تسيطر الحكومات على الشعوب بقبضة من حديد، تقوم على نشر الجهل والسعي على إِضْعاف التعليم وتوسيع الفجوة بين النُّخْبة وبين المَسْتَوَيات الدُّنيا، بحيث يتم تَغْييب الشعوب عن كيفية هذا الاختلاف بين الطبقتين” والاستراتيجية الأخرى “هي عندما يكون هناك تَوجيه وتَذْكير وإِمْلاءات من شخص ما إلى آخر، يشعر الآخر أنه قليل المعرفة وفي مستوى أَدْنى من مستوى الأول، كأن الآخر يُشْعره بِضُعْفِه وقِلَّة حِيلَته، هكذا تبث الحكومات بإعلاناتها الموجهة للجمهور على أنها تريد مصلحة الجمهور الذي لا يعرف مصلحته وهم عنه جاهلون، فتُمَرِّر مخطَّطاتها الفاسدة على شعوبها”، ويمكننا هنا حيال فحوى الاستراتيجيتين المذكورتين والمعمول بهما من قِبل هذا التنظيم منذ أن تغول في المجتمع الكردي وفرضَ نفسه عليه في كل من تركيا وسورية بالغصب والإكراه، القيام بعملية تبديل بسيطة أي أن نحذف كلمة الحكومات ونضع مكانها التنظيمات السياسية، وذلك حتى يكون المكتوب مناسب تماماً لمقام التنظيم الذي بعد تاريخٍ طويلٍ من الكفاحِ المسلح يزيد عن أربعين سنة قام بإعلاء شأن الحذاء وخفض رؤوس مريديه.