شاهين أحمد
نشرت وزارة الخزانة الأمريكية على معرفاتها الرسمية بتاريخ الـ 16 من أيار 2022 بياناً حددت فيه 12 قطاعاً يسمح للأجانب الاستثمار فيها تحت مسمى ” الرخصة السورية العامة رقم 22″ . وبحسب البيان المذكور فإن أمريكا استثنت قطاعات” الصحة والتعليم والتصنيع والتجارة والزراعة والاتصالات وخدمات الكهرباء ومياه الشرب والطاقة النظيفة ومعالجة النفايات والبناء والتمويل والنقل والتخزين …إلخ “، مضافاً إليها السماح بشراء المشتقات البترولية ذات المنشأ السوري كونها ضرورية من قائمة العقوبات المعروفة بـ قانون قيصر الذي دخل في الـ 17 من حزيران 2020 حيز التطبيق واستهدف عزل النظام اقتصادياً،
والوقوف في وجه أية مساعي لإعادة الإعمار، والحد من تدفق السلاح، ومنع النظام من الاستفادة من التقنيات الحديثة …إلخ ، للضغط عليه وإجباره على القبول بالحل السياسي وفق القرارات الأممية الخاصة بالأزمة السورية وخاصة القرار 2254 حسب ” مزاعم واشنطن “!. وذلك في بعض المناطق التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش ” والخارجة عن سيطرة النظام ،والواقعة في الشريط الشمالي والشمالي الشرقي من سوريا بهدف التعافي المبكر. ومن الأهمية بمكان التذكير هنا بأن البيان الأمريكي أكد على نقطة في غاية الأهمية والحساسية والخطورة وهي : ” أن التراخيص المطلوبة لا تسمح بأية معاملات تشارك فيها حكومة النظام والأشخاص المحسوبين عليها “. وهنا يقع المراقب في حيرة حقيقية نتيجة الغموض الذي يكتنف المشروع الأمريكي في سوريا بشكل عام و” الاستثناء ” الأخير بصورة خاصة لجهة استثناء مساحات واسعة من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتي تسمى بـ (المحرر) من هذا الاستثناء ،وإبعاد مؤسسات النظام من أية معاملات تتعلق بالتراخيص المطلوبة والناظمة للاستثمار، وكيفية شرعنة وقوننة تلك التراخيص ومسارات التمويل، وشمول الاستثناء مساحات موزعة بين منطقتين متصارعتين :الأولى تحت نفوذ المعارضة العربية السنية المسلحة الموالية لتركيا، والثانية تحت نفوذ قوات سوريا الديمقراطية ” قسد ” المتحالفة مع أمريكا وعلى علاقة جيدة مع النظام وحلفائه . وبررت أمريكا خطوتها تلك بأنها تأتي ضمن استراتيجية محاربة ومكافحة تنظيم داعش الإرهابي ومنع عودته من خلال دعم الخدمات الأساسية في المناطق المحررة من سيطرة التنظيم الإرهابي الذي تسبب في تدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية لتلك المناطق . لكن التفسيرات للخطوة الأمريكية تتباين، حيث يعتبرها البعض بأنها تأتي في إطار رؤية جدية للرئيس بايدن المتعلقة بفتح آفاق لتسوية سياسية شاملة من خلال الضغط على النظام للقبول بالحل السياسي وفق القرارات الأممية الخاصة بالأزمة السورية . بينما يرى آخرون بأنها تأتي في إطار المناورة وإرسال رسائل لأكثر من جهة. وبغض النظر عن الردود المختلفة فإن الخطة الأمريكية إذا كتب لها النجاح والتطبيق فإنها قد تساهم في التحول من الاقتصاد المعتمد على الإغاثات والمساعدات الإنسانية إلى اقتصاد إنتاجي مستقر ومستدام وتحسين الظروف المعيشية والأمنية، وسيكون لها الوقع الإيجابي لجهة صمود من تبقى من المدنيين في تلك المناطق .
التحديات التي تواجهها الخطوة الأمريكية
من الأهمية بمكان هنا التذكير بأن الخطوة الأمريكية الهادفة لتخفيف أثر العقوبات على بعض المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام أثارت ردود فعل متباينة تراوحت بين المرحبة والرافضة من جانب القوى المؤثرة والمسيطرة على أجزاء من الأراضي السورية، وجدير ذكره هنا أن الرد التركي كان الأعنف من بين تلك الردود الرافضة، حيث ذهبت القيادة التركية بعيداً في إنزعاجها من الخطوة المذكورة، وعادت لغة التهديد باجتياحات عسكرية جديدة في المناطق المشمولة بالاستثناء الأمريكي، وخاصةً أن غالبية المناطق المشمولة بالخطوة الأمريكية تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها فعلياً كوادر حزب العمال الكوردستاني التركي الذي له صراع دموي مرير مع الدولة التركية، وتصنفه الأخيرة والعديد من دول الاتحاد الأوربي وأمريكا في قائمة الإرهاب. والملفت أن الاستثناءات شملت كافة مناطق سيطرة قسد باستثناء ” الحزام الحامي ” لبلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في شمال غرب حلب . ولكن بالمقابل لم تشمل تلك الإعفاءات غالبية المناطق التي تسيطر عليها الفصائل العسكرية العربية السنية المعارضة والموالية لتركيا في ادلب وعفرين وريف حلب الغربي ،الأمر الذي زاد من غضب الجانب التركي . وعبرت القيادة التركية عن رفضها للخطوة الأمريكية حيث اعتبرت القرار الأمريكي شرعنة لوجود pkk ومسمياته السورية المختلفة، وترجمت تركيا رفضها بالتهديد بتنفيذ عملية عسكرية جديدة في المناطق الواقعة تحت سيطرة قسد. والنظام السوري هو الآخر عبر عن انزعاجه من القرار الأمريكي واعتبر الخطوة الأمريكية ” مؤامرة جديدة “على وحدة سوريا وشعبها !. ويجمع غالبية المحللين والمراقبين بأن هناك جملة تحديات سياسية وعسكرية وأمنية وميدانية وقانونية تواجه الخطوة الأمريكية ومن أهمها :
1- وجود حزب العمال الكوردستاني في المنطقة: حيث يشكل وجود كوادر قنديل في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التحدي السلبي الأبرز الذي قد يؤثر أو يعيق قدوم الشركات والاستثمارات وذلك كون وجود تلك الكوادر يعني أن المنطقة في حالة من التوتر الدائم، وأن أجواء الحرب والعمليات العسكرية تبقى مخيمة عليها نظراً لوجود تلك المناطق على طول الحدود مع تركيا وحساسية تركيا المعروفة من هذا الوجود نتيجة الصراع التاريخي – الدموي بينها وبين pkk . وبما أن الاستثمارات تتطلب بيئات آمنة لذلك فإن القلق والتوتر المشار إليهما ستحدان من تدفق الأموال وقدوم المستثمرين .
2- وجود الراديكاليين الإسلاميين : يشكل وجود المتطرفين في مراكز مهمة لغالبية الفصائل العربية السنية المعارضة والمسيطرة على بعض المناطق المشمولة بالاستثناء تحدياً سلبياً بارزاً لايقل خطورةً عن وجود كوادر pkk في مناطق قوات سوريا الديمقراطية . حيث أن العديد من قيادات داعش تم تصفيتها في مناطق سيطرة تلك الفصائل ، مما يشكل عائقاً آخر أمام قدوم الشركات وتدفق رؤوس الأموال ، وبقاء المنطقة عرضة للقصف من جانب مختلف الجهات .
3 – غياب الاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وكذلك الإدارات القائمة في مناطق المعارضة : الجميع يدرك أن الإدارة وسلطات الأمر الواقع الموجودة في المناطق المشمولة بالاستثناء الأمريكي المذكور غير معترف بها سياسياً، لامن جانب النظام ولا من جانب المجتمع الدولي، ولا حتى من جانب المجلس الوطني الكوردي وجبهة السلام والحرية . بمعنى آخر أن الجهة المسيطرة على الأرض تحتاج لإعتراف سياسي تمهيداً لقوننة وشرعنة العقود التي ستبرمها مع الجهات التي ستقوم بالاستثمار في تلك المساحات. وهذا الأمر يحتاج لخطوات تعجز عنها الإدارات المذكورة كونها مقادة فعلياً من كوادر تابعة عضوياً لمركز قنديل لحزب العمال الكوردستاني التركي. وموضوع الاعتراف السياسي بالإدارة الحالية من جانب المجتمع الدولي سوف يجابه بمنتهى العنف والشدة من جانب تركيا والنظام وإيران وروسيا، مما يتطلب إيجاد حل لوضعها وتركيبتها ومصدر قراراتها …إلخ . وكذلك الأمر مع مناطق سيطرة المعارضة نظراً لوجود الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها الفصائل المسلحة، وغياب الأمن والحوكمة الرشيدة، ووجود الراديكاليين فيها. وكذلك فإن الشركات العالمية التي ستوقع عقوداً مع الإدارة الذاتية أو الحكومة المؤقتة للمعارضة تريد أن تحمي نفسها من أية عقبات قانونية لاحقة . وهناك عامل آخر مشترك بين منطقتي الإدارة الذاتية و المعارضة المذكورة هو غياب الإدارة المدنية حيث أن كلا المنطقتين سواءً في غرب الفرات أو شرقه هي إدارات عسكرية فعلياً مجملة شكلاً بواسطة إدارات مدنية .
4- غياب البيئة الآمنة : لخلق مناخات مناسبة لتشجيع قدوم الشركات والمستثمرين لابد من توفير بيئة آمنة ومستقرة، وهذه البيئة غير متوفرة حالياً لا في غرب الفرات ولا في شرقه، لأن الطيران الروسي في سماء غرب الفرات تصول وتجول وتقصف من تشاء ومتى تريد كون تلك المنطقة هي منطقة نفوذ روسية لجهة المراقبة الجوية. وكذلك فإن مناطق شرق الفرات هي مناطق مفتوحة أمام الطيران التركي المسير، ومدفعية الفصائل العسكرية الموالية لتركيا. إذاً الأمر يحتاج إلى قرار فرض حظر جوي وبري على المناطق المشمولة بالإعفاءات المذكورة، وسحب الحجج والذرائع من خلال إخراج كافة الغرباء والراديكاليين من تلك المناطق، وتشكيل قوات حفظ سلام من بشمركة روج وأبناء تلك المناطق ومن جميع المكونات وبإشراف وقيادة أممية، أوعلى الأقل بقيادة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، وتشكيل إدارات محلية مدنية منتخبة من أبناء مكونات المنطقة، وجمع السلاح العشوائي ، ووضع حد نهائي لظاهرة الميليشيات والسلاح المنفلت.
5- المعابر التجارية : للتخلص من الحصار لابد من إيجاد آليات قانونية لفتح المعابر بين تلك المناطق والجوار محلياً واقليمياً بشكل رسمي لتسهيل الحركة من وإلى تلك المناطق، ومن خلال وثائق رسمية لتشجيع التجارة، وإدخال المواد والمعدات والآليات اللازمة للمشاريع ،والمساهمة في تحسين الظروف المعيشية للسكان ، وتشجيع العودة الطوعية للاجئين إلى مناطقهم الأصلية وإعادة الإعمار والاستقرار .
6- المعارضة السورية : يجب على المعارضة السورية التفكير بشكل جدي لنقل كافة مؤسساتها إلى هذه المناطق بعد ” إعادة هيكلتها وفلترتها وتنظيفها ” وخاصةً الفصائل العسكرية المحسوبة عليها من الراديكاليين الإسلاميين والوافدين من استخبارات البعث ، وتشميل وتوسيع وتمثيل جميع مكونات الشعب السوري فيها . تمهيداً لعقد مؤتمر وطني شامل من كل المؤمنين بالتغيير الشامل والتخلص من الاستبداد وإقامة البديل الوطني الديمقراطي .
خلاصة الحديث
بدون أدنى شك أن القفز على التحديات المذكورة يعني أن الاستثناء الأمريكي المذكور سيبقى مجرد رسالة للاستهلاك الإعلامي ليس أكثر، وبالتالي كي تجد تلك الخطوة طريقها إلى التطبيق لابد من معالجة تلك التحديات معالجة علمية وواقعية من خلال ” فلترة ” مؤسسات المعارضة السياسية والفصائل العسكرية المعتدلة المحسوبة عليها من كافة العناصر الراديكالية ، وكذلك من الوافدين من الأجهزة الأمنية لنظام البعث ، وإعادة هيكلتها ، وتمثيل مختلف مكونات الشعب السوري في مؤسساتها ، وإخراج كافة كوادر pkk الذين اصولهم من خارج كوردستان سوريا من المناطق المشمولة بالاستثناء الأمريكي بشكل كامل ونهائي ، وفك ارتباط pyd عن قنديل ،وإنجاز اتفاق شامل بين المجلس الوطني الكوردي ENKS وأحزاب الوحدة الوطنية PYNK، ومن ثم إنجاز اتفاق جامع بين محتلف مكونات المنطقة من كورد وعرب وسريان – آشوريين وتركمان …إلخ . وإعادة قوات بشمركة روج إلى أرض الوطن ، وتشكيل قوات عسكرية مشتركة من مختلف الفرقاء الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين ، ومن غير المتهمين والمتورطين بعمليات السرقة والتعفيش لممتلكات الشعب ،وبمساعدة التحالف المناهض لداعش . ومن جهة أخرى فإن معالجة تلك التحديات ستفتح آفاق حقيقية لعودة شرائح كبيرة من اللاجئين من أبناء تلك المناطق من تركيا وكوردستان العراق ولبنان وغيرها إلى مناطقها ومنازلها . ويبقى السؤال :
ما المطلوب حتى يكون لـ الاستثناء الأمريكي من قانون قيصر مفعوله العملي ؟.