أحمد مرعان
حاولت أن أرسم خريطة للحدود، فحاصرني الجنود، فتشوا حقيبتي، تناثرت أوراقي، حطموا أقلامي الملونة المعنية بالتضاريس من جبال ووديان وأنهار وسهول، تقاسموا كل المقتنيات من ممحاة ومبراة وأقلام الرصاص، صوبوا فوهات بنادقهم نحو صدري وأجبروني على الركوع، تلمسوا شعري وثنايا القميص وكل جزء من جسدي بلا حياء، كنت أعلم والآن أدركت أنهم بلا ناموس، قد باعوا معتقداتهم وقيمهم لقاء الفلوس، وبعد أن يئسوا من تحقيق غاياتهم المادية، صادروا الحقيبة ..
القضية قيد الدراسة والتحقيق والتمحيص، تشكلت لجان وأحيلت إلى محاكم الاستئناف، تدارسوا ولم يجدوا حلا، فتحولت إلى الهيئات العليا للنظر بملابسات القضية، وبعد سنوات قالوا :
يمكنك أن تغادر خارج الحدود دون جواز سفر، لكن الحقيبة متهمة ورهن الاعتقال ؟!
أقدارنا رهينة بيد الرعاع، وحدودنا مباحة للجناة، سُلبت منا حرية الآراء، وضيعت منا الأمانة، وجاب بالأوطان السفهاء، تمكنوا من فرض الإرادة، أصبحنا سلعة رخيصة يتقايض عليها الأعداء، فأي جور يستحق منا السيادة، بلادنا مرهونة، الهجرة خيانة، والبقاء فناء، وما بينهما ساحات النخاسة للمتاجرة بأرواح النبلاء، القريب فيها بعيد والغريب يتحكم بالقيادة، تبدلت شعابها، أفرغت تلالها، تخندقت شوراعها، زلزلت أركانها، شحت مياهها، جفت ينابيعها ومزارعها، افتقد خبزها، حراسها غرباء، تهجروا أهلها من ديارهم وجابوا في المخيمات وبلاد الشتات يحملون أوزارهم، سكن المرحلين بيوتهم وعاثوا بها الفساد ..
يئسنا من عدالة الأرض وشعارات بنودها، انتظرنا ولا زلنا بالانتظار لمحكمة السماء لتنصف مظلوميتنا ..
أجدادنا ضحوا، وأحفادنا يأملون استيقاظ ضمير الخيانة من أبناء جلدتنا، والمستفيدين بالمصالح لأصحاب القرار من دول وقارات ..
أية أمة كانت، ستموت بالتقادم إن لم تلتزم بوحدة الصف والمواقف، فأي بناء لم يكن ذا أساسات محكمة سينهار حتما بعد أية ريح عاتية أو زلزال وانفجار ..
متى نصحو من غفلتنا ونرمم الجدار، ونفرش الأرض زهورا ورياحين، ونسهر الليالي نغازل النجوم، ونشتم الياسمين بعقر الديار، ونسرد حكايات البطولة والفداء في المساء، وننطلق إلى حقولنا في باكرة الصباح، نفلح، نزرع، نسقي، نحصد الغلال، ونطعم الجائع، ونكرم الضيف وابن السبيل بلا رياء ..
أطفالنا بالمدارس، شبابنا بالجامعات ينهلون العلم من منابع الوعي والثقافات، أصحاب المهن يهيمون بأعمالهم بالمحلات، تستكمل الصورة من جميع الإتجاهات بأبعادها وفق المقاسات ..
هكذا تبنى الأوطان، بالتسامح والتفاعل والعلم والإنتماء، ما عدا ذلك ترهات وربما خيانات بكل المقاسات ../ ..