د. محمود عباس
في كوكب آخر، يتم البحث عن نظام كوني بديل عن الأنظمة الكلاسيكية، لا يتأثر بنظام المجرات، ولا تؤثر فيها الكوارث. صراعاته مع الأخرين لا تشبه حروب الأرض، قادته لا يدرسون تطورات الأحداث إلا ما يمس نظامهم.
وعلى الأرض، الوطنية تغيب مع ترجيح المصالح، والمطالب القومية ترسل إلى المتاهات. النظرية القومية تقزم أمام الإيديولوجية الأممية، وما أجملها لو طبقت بعدالة مع الشعب الكوردي وقضيته، كما وردت كنظرية اقتصادية-سياسية للشعوب، لكن مفاهيمها تلقن وتدرس نظريا، وعمليا تسود ما يشبه الدكتاتورية بحق الحراك الكوردي حصراً، هذا ما فعلته الأحزاب الشيوعية في المنطقة سابقاً.
وضمن جغرافية كوردستان، الديمغرافية الكوردية في ذوبان مستمر، العشيرة والحزب الواحد يسود، ومستويات المعيشة بلغت أدنى درجاتها، والمشاريع القومية تطبق لخدمة المصالح الذاتية، فتنتج السلبيات، والوطنية تبحر في الطوباويات، ولا مكان للمعارضة ولمن يخالف النظام.
وفي منطقة قوى الإدارة الذاتية، خلقت منظمات لا علاقة لها بالسياسة، تنسخ تجارب الأحزاب الشمولية، من الشيوعية إلى النازية، والحالتين رغم تناقضهما، وجهي نقيض لإشكالية واحدة، فكلاهما كان لهم الشباب الثوري، الذين كانوا وراء الكثير من المصائب في دولهم. قصر التجربة، وقلة الخبرة لا تنتسى وتؤخذ بعين الاعتبار، لكن التفرد بالرأي خطأ، يضر الذات قبل الأخرين، قد يؤدي إلى الفشل.
ووجوانن شورشگر تجربة منسوخة من سابقات أثبت التاريخ عدم جدواها بالمنهجيات التي طبقت. ربما الإشكالية المتناولة هنا ليست بذات الأهمية في البعدين القومي والوطني، لكن وكنصيحة للإخوة قادة الإدارة الذاتية ومنظماتها، نذكر أنها توسع شرخ الخلافات الداخلية، وقد تفتح أبواب لا يحمد عقباه للمنطقة وللإدارة الذاتية بشكل خاص، وتضعف إمكانيات مواجهة الأعداء المتربصين، وفي مقدمتهم تركيا والنظام.
منظمة تحتضن طاقة خام لا تستهان بها، بإمكانها أن تحمل وجهي التناقض، إما الانحدار بالمسيرة والقضية، أو النهوض بالمجتمع والنظام، فهم من جيل العصر، قد يكونوا أمل الأمة، ويصبحوا القدوة للشباب المهاجر ولپيشمرگة روژ آڤا للعودة إلى الوطن، على أكتافهم يجب أن تنجح القضية وينهض المجتمع، ويجلبوا المفاهيم الحضارية ويرسخوها بين الشعب. أو يكونوا حطب الكوارث الجارية ونواة لغيرها من المصائب.
في معظم التجارب الدولية السابقة، سميت المنظمات الشبابية بمسميات عدة، لم تطال أغلبهم التطور الحضاري، وضعوا خارج المفاهيم الديمقراطية، لقنوا من الاستبداد مفاهيمها. لذا ففي تجربة المنطقة الكوردية، يجب دراسة تجارب الماضي، بنجاحها وفشلها، ليخدموا الأمة لا يطعنوا فيها، يحمون المجتمع لا يرهبونهم، يكونوا من دعائم الديمقراطية، لا الاستبداد، يعملوا على تطوير المجتمع والعائلة، وتثقيف الأجيال الشابة. لكن وللأسف فإن أغلبية نتائج أعمالهم حتى اللحظة تعكس خلافها، وما ينشر على الإعلام ينبئ لبدايات كارثية قادمة. وعليه لا بد من التصحيح وإعادة النظر فيما يجري.
بإمكان المنظمات العديدة التي تم تشكيلها التابعة للإدارة الذاتية أو خارجها، أن تخلق مجتمعا متطورا، تبدأ من نظافة الشارع الكوردي، من الرصيف، إلى الفكر والسياسة، إلى تحسين العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، تقوم بخدمة البلديات في المدن، والفلاحين في المزارع، وبناء الأماكن العامة في القرى كالمدارس والمراكز الثقافية، وتقوم بحماية البيئة، وغيرها.
ليس دفاعا عن المجلس الوطني الكوردي، ولا أي من الأحزاب المنضوية تحته، لديهم أقلامهم، والتي بعضها لا تقل عبثية عما نحن بصدده. وليس تماهيا مع سياسته، فهو يغرق في مستنقع الأخطاء، من التبعية للائتلاف الوطني السوري، ربيبة تركيا، للحفاظ على الذات من الضياع، قبل أن يكون تحالف للمعارضة في وجه النظام، ولا ننسى المصالح الذاتية للبعض من قادته، والتي على أثرها لم تبين موقفها من الانشقاق الحاصل، أو التصفية، في الائتلاف المتجه نحو الضمور. إلى الاعتماد على دعم الإقليم الكوردستاني، لعرضه ممثلا عن الحراك الكوردي، والحصول على الشرعية كمتحدث باسم الشعب. لكن مع ذلك، ومن البعد الديمقراطي، وحفاظا على منطق الحوارات، فما أقدم عليه جوانن شورشگر، سابقا، وقبل أيام من حرق لمكاتبه (كل الأصابع تتجه نحوهم وتتهمهم بما حصل، ولم نسمع دحضا من قيادتهم) عمليات مدانة، من المجتمع وشريحة واسعة من الإدارة الذاتية نفسها. لا شك في أن هناك قوة سياسية آمرة تدفعهم للقيام بما أقدموا عليه، إن كانت القيادة من الكوادر المتحكمة بتسيير أمور الإدارة الذاتية، أو مباشرة من قيادة قنديل. وليعلموا جيدا أن مثل هذه الهجمات العبثية ليس فقط لن تحد من الاعتداءات التركية بل تسعدها، لأنها أكثر القوى المستفيدة من خلافاتنا الداخلية.
أي كان مصدر الأوامر، فهي تغرق المنظمة الشبابية هذه، ومعهم الإدارة الذاتية في السلبيات، نتائج الأعمال التخريبية، كحرق مكاتب المجلس الوطني وغيرها، ستكون وخيمة في قادم الأيام، ولن تكون أقل مضارا من محاولات السيادة على أطراف الحراك الكوردي والكوردستاني، والإيمان بسيادة الحزب الواحد والتبعية. الخاسر الأكبر هنا المخططون للعملية، فالمجلس الوطني الكوردي والقوى الكوردية المعارضة، لم يعد هناك ما تخسره، جلهم يعيشون الهجرة القسرية، بل بالعكس مثل هذه الأعمال تعيد لها الشعبية التي كانت قد خسرته، على خلفية مواقفها الهشة من عفرين، وعلاقاتها مع الإتلاف، وتماهيها مع سياسة تركيا، لهذا فالأولى للقوى المعارضة أعادة فتح مكاتبها، وتوسيعها وتحضيرها للحرق.
التغاضي عن تصاعد نسبة المعارضين لمنهجية القوى السياسية التي تدير الإدارة الذاتية، لن يخلق سوى شرخا واسعا بينها والمجتمع، أي بين الشعب والسلطة، ولن يجدي نفعا منطق الاستبداد المقال (أريد لسانهم لا قلوبهم) فمن المعروف أن جميع من سادوا على هذا المنطق لم يدوموا طويلا، وكانت النهايات كارثية.
نصيحتي لقادة الإدارة الذاتية، وللكوادر المسيرة لجوانن شورشگر، ولكل منظمات المجتمع المدني، العمل على تحسين واقع الشعب المعيشي، وتضييق شرخ الخلافات بين الأطراف الكوردية والكوردستانية بالأساليب السلمية، فكل خطوة نحو تطوير المنطقة طعنة مباشرة للأعداء الخارجيين والداخل، وكل نجاح في المنطقة خسارة للأعداء. فكونوا إدارة ومنظمات يحتذى بهم، لا مجموعات ترهب المجتمع الكوردي وحراكه حصراً.
الولايات المتحدة الأمريكية
22/4/2022م