د. محمود عباس
1-الاتهامات:
كثيرون يتهمون ميخائيل غورباتشوف، على أنه مهندس تفكك الإتحاد السوفيتي، وأنه عميل غربي، جندته السي أي أيه منذ مراحل شبابه الأولى، يوم كان طالبا في جامعة موسكو، والبعض يقحمونه في عالم الماسونية، وما إلى ذلك من الترهات، الصادرة معظمها إما من:
1- الذين لم يقرأوا كتابه البريسترويكا، ولا استمعوا لخطبه، أو مقابلاته الصحفية، ولا معرفة لهم بما جرى من المؤامرات في أروقة كرملين، والتي تم تغطيتها فيما بعد وبالتفصيل.
2- أصحاب العقول الجامدة الذين لم يستوعبوا التطور، أو مجموعات سذج، سخرتهم القيادات المناهضة للتطور.
3- الذين لا يعرفون ما كانت عليه المرحلة الستالينية والتي لم تكن تمر نسمة في سماء الإتحاد السوفيتي دون أن يتم تحليلها ومراقبتها، ومعاقبة من يشمها دون رأي القيادة السوفيتية، وهي المرحلة التي أرسلت فيها قرابة 20 مليون من الشعوب السوفيتية إلى المعتقلات.
4- مجموعات تنقصهم قدرة المقارنة، بين بساطة المنظمات التي يقحمونها كالسي آي أيه، أو الماسونية، ومكانة زعيم الإتحاد السوفيتي الذي كان يحكم نصف الكرة الأرضية، ودولة احتضنت المئات من المؤسسات التي كانت أقوى بكثير مما يأتون على ذكرها، ومن بينها الـ ك ج ب. ولن ندخل في التفاصيل الدقيقة، كتحليل لبعض الأقوال التي روجت على أنه جند من قبل المنظمات الرأسمالية.
5- شرائح من الأحزاب الشيوعية، كانوا يقيمون النظرية الماركسية-اللينينية كأحد الأديان السماوية، يقرؤونها كما يقرأ المسلمون القرآن، وكانت موسكو قبلتهم مثلما الكعبة بالنسبة للمسلمين، والقدس للمسيحيين، فانهيارها خلقت لديهم كارثة نفسية فكرية، ولا علم لهم بما بلغته المرحلة البرجنيفية من الركود، بل الهبوط الاقتصادي والتدهور في المشاكل الاجتماعية، المتفاقمة سنة بعد أخرى، رغم التغييرات في القيادة حتى وصوله إلى الرئاسة، وقد كتب فيها بالتفصيل في كتابه البريسترويكا، وكذلك العديد من الباحثين السوفييت في الثمانينات وما بعد.
6- المتناسون للحقائق التي كانت صادمة عندما كشف عنها مرحلة إعادة البناء، ولم يذهبوا أبعد من عرضه كمهندسها، دون إدراك لما كانت عليه الإتحاد السوفيتي اقتصاديا وإداريا مقارنة بالعالم المتطور، فالفساد لم يكن أقل من المنتشر في بدايات روسيا البوتينية، والدكتاتورية كانت هي ذاتها المستمرة منذ قرابة ثلاثة عقود. النخر الذي كان يلم بأسسها، وسرعة انحدارها نحو الضياع، لا يختلف عن التطور البطيء في الاقتصاد الروسي، مقارنة بالصين أو أوروبا، رغم ثرواتها الهائلة.
2- المذنبون:
في الواقع الشيوعيون الكلاسيكيون، كانوا أكثر الناس نخراً للتجربة الشيوعية في الإتحاد السوفيتي. من البعد النظري، ساهموا في تجميد المفاهيم، ولم يسمحوا بتطويرها لتتلاءم والمراحل الزمنية. كما وقف المفسدون والمدراء البيروقراطيون في وجه التطوير، ليستمروا في نهب الاقتصاد، وشددوا على جمود المنهجية البرجنيفية، لأنهم كانوا يشعرون بمآل مصيرهم وبالخطر القادم، مدركين أن التغيير سوف تطالهم ومراكزهم، وسيقدمون إلى المحاكمات، وسوف تتعرى فسادهم، وتم ذلك فيما بعد عن طريق الإعلام الذي أصبح حراً، في مرحلة البريسترويكا التي بدأ بها غورباتشوف، عندما سمح بالبحث والتنقيب، وفتح للإعلام كل المجالات، تحت نظرية إعادة البناء، لإدارات دولة مترامية الأطراف وذات اقتصاد هائل، كانت تعاني الويلات.
الدولة السوفيتية كانت على حافة الهاوية، كالبناء الذي كان يحتاج إلى هزة بسيطة لينهار، الشعب كان يعاني التناقضات في كل المجالات، فكانت هناك الثقافة العالية مقابل العوز، عظمة تطور صناعة الأسلحة مقابل القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية المتهالكة، والتي بعضها كانت دون سويات العالم الثالث.
دولة عظمى في بعض المجالات، كارثية بائسة في قطاعات أخرى. فما بين النظرية والواقع كانت هناك مسافات مرعبة. يقول غورباتشوف في كتابه البريسترويكا الصفحة 20 “كان هناك وضع سخيف يتطور، فالإتحاد السوفيتي وهو أكبر منتج في العالم للصلب، والمواد الخام، والوقود والطاقة، يواجه نقصا فيها بسبب الاستخدام التبديدي أو غير الكفء. ورغم أنه من أكبر منتجي الحبوب للغذاء، كان عليها أن يشتري ملايين أطنان الحبوب في العام للعلف. ومع أن لدينا أكبر عدد من الأطباء، ومن أسرة المستشفيات بالنسبة لكل ألف من السكان، نجد نقصا صارخا في خدماتنا الطبية. ويمكن لصواريخنا أن تصل إلى مذنب هالي وتطير إلى الزهرة بدقة مذهلة، ولكن إلى جانب هذه الانتصارات العلمية والتكنولوجية نجد نقصا واضحا في الكفاءة في استخدام المنجزات العلمية للحاجات الاقتصادية، كما أن كثيرا من الأجهزة المنزلية السوفيتية من نوع ردئ. ولسوء الحظ، فليس هذا كل ما في الأمر. فقد بدأ تدهور تدريجي في القيم الإيديولوجية والمعنوية لشعبنا”
أسعفني الحظ أن أعيش مراحل التغيرات المتتالية الواسعة في الإتحاد السوفيتي، من نهاية بريجينيف إلى السنوات الأولى من عهد غورباتشوف – البريسترويكا، كان يؤلمني وأنا أرى الدولة العظمى، وذات الإبعاد المتناهية الغنية بالثروات، والشعب الروسي المثقف الرائع، يعاني من واقع لم يكن يعلم أنه دون الغرب بعقود من حيث المعيشة والتطور. في الوقت الذي كان بإمكانها، كدولة أو شعوبها، أن تكون قدوة البشرية فيما لو تم تطبيق النظرية المتضمنة في ثناياها التلاؤم مع المراحل الزمنية والتطور الفكري الإنساني.
كانت البيروقراطية تنخر النظام الإداري بشكل مرعب، متفشية في كل زاوية ومغروزة ضمن كل دائرة، فكل رئيس جهاز أو مركز كان أشبه برئيس دول وأقاليم دكتاتورية لها سلطاتها المستقلة، لا شك الاستقلالية كانت جيدة؛ فيما لو تكن مليئة بالفساد من كل أنواعه وعلى رأسها البيروقراطية بأعلى سوياتها، مختفية تحت مظلة الإتحاد السوفيتي.
3- ماذا لو استمرت البريسترويكا:
بعدما فتح غورباتشوف المجال للإعلام وأعطى للصحافة حرية البحث والتقصي، تبينت كوارثها، إلى درجة ما كانت تكتبه، روسيا السوفيتية، وأنباء موسكو، والبرافدا وغيرها من الجرائد والمجلات من القصص والروايات الغريبة الدائرة ضمن أروقة النظام والسوفوخوزات الكلوخوزات وفساد مدراءها، تثير العجب، وكثيرا ما كانت تباع في الصباح الباكر قبل أن نصل لشرائها، كنا لا نلحق في قراءتها، وصلت بنا إلى حد إعارة الجرائد والمجلات من البعض، لكثرة وغرابة الفضائح.
لم يكن لأي فرد في النظام السوفيتي السابق القدرة على هدم الإتحاد السوفيتي، لا غورباتشوف ولا غيره، فقد كانت تتحكم بها مجموعة من المكتب السياسي، إلى جانب سكرتارية الحزب بسلطات لا حدود لها، وهم من عينوا غورباتشوف لصغر سنه بينهم، بعدما تتالت موت الرؤساء الكبار بالعمر. وقدراتهم تبينت يوم عزلوا خروتشوف بعدما تجاوزهم. فالإتحاد كان هشا، سياسيا واقتصاديا، تنخره البيروقراطية والدكتاتوريات، البريسترويكا أنقذته وشعوبها من الفاقة والتدهور الاقتصادي، ومن صراع عسكري عالمي مدمر، لو كانت مستمرة لما كان اليوم الناتو، ولكانت الإتحاد السوفيتي اليوم من أحد أفضل دول العالم في المعيشة والتطور الاقتصادي، ولما كان هناك القطب الواحد، ولما كانت أمريكا اليوم تحكم البشرية، وتفرض الحصارات الاقتصادية، ولربما لكانت أوروبا تميل إليها اليوم وليس العكس.
أغلبهم في البداية ساندوا الإصلاح، رغم دهشتهم على ما كان يجري، باستثناء البعض من الحرس القديم، المتأثرين بمراحل ستالين أو بريجينيف، وهم الذين ابتذلوا غورباتشوف، وحاولوا الانقلاب عليه، لكن المجموعات المؤمنة بالتغيير هي التي أعادته من منتجعه إلى الكرملين، ومن بينهم بوريس يلتسين.
لكنهم مع ذلك قتلوه فيما بعد وهو حي، مثلما قتلوا سقراط، فهدموا المفاهيم لعدم قدرتهم ليس فق على تطبيقها، بل واستيعابها، إلى جانب أن البنية التحتية السوفيتية كانت من الهشاشة بحيث لم تكن تملك إمكانيات إعادة البناء بالسرعة التي أراد بها غورباتشوف، ولا شك هذه من أحد أهم الأخطاء، وهي مسيرة التسارع التي تبناها، وأدت إلى انهيار السوفييت، وفشلت النظرية، لكنها نجحت في إنقاذ الشعب في مجالات عدة، وأخرجته من العتمة.
سيتم تقديره مستقبلا كعبقري وحكيم السياسة والاقتصاد والنظرية، حاول تطوير الاشتراكية في الواقع العملي، ووضعها على الدرب الصحيح، لكنه ربما كان سابقا لعصره، والمرحلة.
الولايات المتحدة الأمريكية
19/3/2022م