سعيد يوسف
“يقال إذا أردت أن تعرف الروح السائدة في روسيا المعاصرة، فعليك التعرّف على فلسفة دوغين”.( نقلاً عن زينب الصفار)
ويقال أيضاً أنّ في روسيا اليوم ثلاث أطرافٍ رئيسة :
١-بوتين.
٢- دوغين.
٣-الشعب.
والطرف الأقوى الآن في المعادلة والذي فرض ويفرض هيمنته، هو الرّئيس بوتين الذي يحكم بقبضةٍ فولاذية. أمّا الطرف الثالث فيبقى الأقوى تاريخياً، لأنه الديمومة.
فمن هو الطّرف الثاني دوغين…؟.
أوّلاً – ألكسندر دوغين : الپروفيسور، والأستاذ في جامعة موسكو، من مواليد /١٩٦٢/. مفكّر ومنظّر، وعالم اجتماع ومؤرّخ روسي.
صاحب النظرية الأوراسية، أو النظرية الرابعة، من بين الليبرالية، الماركسية، الفاشية.
يؤمن بوجوب اتحاد تحالف الشرق، بقيادة روسيا والصين. وهو من منظّري الفلسفة القوموية الروسية حاليّاً، ويوصف ب”عقل بوتين”. لما له من تأثير قوي على فكر بوتين حسب ما يقال. كما ويعتبر المحرّك الرئيسي وراء غزو أوكرانيا وقبلها شبه جزيرة القرم .
وينادي دوغين بضرورة سيطرة روسيا على المناطق التي يسكن فيها ناطقو اللّغة الرّوسية : في جورجيا، وشرق أوكرانيا، والقرم، ودول البلطيق. بكل الأحوال هو يضع فلسفته في خدمة البوتينيزم.
ثانياً – فلسفة دوغين “النوماخيا”:
في الجانب النظري :
“النوماخيا” هي دراسة معمّقة لمختلف النظم الثقافية والفلسفية، والفنون والأديان، ولدى جميع الشعوب : قديمها وحديثها، البدائية منها والفائقة التّطور.
أما عبارة “نوماخيا”. فتعني حرفياً “حرب العقل”. أو حرباً “ضمن العقل”. أو حرب العقول، أو حتى “ضدّ العقل”.(زينب الصفار).
ويظهر مبدئياً من خلال الاستعمال المتكرر لعبارة “الحرب”. الطابع العدائي، لهذه الفلسفة، ونزعتها الامبريالية، فهي تعلن الحرب على العقل الآخر، وإن كانت تعلن أنّ لكل ثقافة خصوصيتها التي ينبغي تقديرها…ولكنّ العدو الأوحد والخصم اللدود لها في المعادلة هو الغرب الليبرالي.
الفكرة الرئيسية في مشروع “النوماخيا”. هي : عالم الأفكار، فكل شيء يحال في النهاية إلى فكرة : الأشياء، الظواهر، وكل ما في العالم المحيط، وكل المواجهات، والمشكلات، والتحالفات والمصادقات، واللقاءات…يمكن تحويلها إلى أفكار. وبالتالي كلّ شيء موجود في عالم العقل…والعالم في النهاية هو مجرّد فكر أو أفكار، ونحن نعيش في الأفكار وفي داخل الأفكار، لا بل ونحن أنفسنا عبارة عن أفكار.(المرجع السابق).
يشبه بعضهم هذه الفلسفة بنظرية المثل وعالم الأفكار عند أفلاطون، وبالرغم من التشابه الشكلي بينهما، إلا أنّ الفرق بينهما كبير، فهي ذات طابع سياسي بحت.
وبحسب أ. د. وليد عبدالحيّ فإنّ دوغين “أقرب إلى صموئيل هنتنغتون في” صدام الحضارات”… منه إلى فرنسيس فوكو ياما…في” نهاية التاريخ”.
من جهة أخرى تغلب على هذه الفلسفة حالة الصراع التناحرية وبالأخص مع الليبرالية، ولذلك عندما نقول : أننا سنحارب أحدهم، فإنّ هذا يعني أننا سنحارب فكرهم”. ولكن الواقع يكشف عن حروب حقيقية قتالية تخوضها روسيا هنا وهناك وليست حرباً فكرية كما يدّعي دوغين ففي برنامج المسائية وعلى قناة الجزيرة مباشر وفي سياق ردّه على سؤال المذيع المحاور بخصوص الحرب الأوكرانية قال دوغين : إمّا أن تنتصر روسيا أو يزول العالم بالسلاح النووي. وبهذا ليس كثيراً أن يصنّف دوغين في حزب : “الحرب”.
وفي سياقٍ آخر يقول دوغين أنه ما من فكرة واحدة أو روح واحدة مقدسة لوحدها – في إشارة منه إلى فكر الحداثة الذي يقدم ذاته كنموذج عالمي – بل كل ثقافة لديها كوكبة من الأفكار القيّمة، لذلك ينبغي أن يأخذ الحوار بين الحضارات المختلفة، هذا الثراء بعين الاعتبار، وهنا نجد دعوة للحوار بخلاف ما قيل أنه حالة حرب بين الأفكار والثقافات، هذا عدا عن إعلانه الحرب الشرسة على الليبرالية، مما يؤكد تناقض فلسفته، وتناقضه مع ذاته، فتارة يعلن الحرب على الحداثة، وتارة أخرى يدعو للحوار، لكنّه يبالغ في تبجيل قيم مجتمعه التقليدي.
هذا عدا عن مبدئه الفكريّ بتحويل كلّ شيء إلى فكرة، ضارباً بعرض الحائط جمالية الواقع وثرائه، والذي لا يمكن الاستغناء عنه بأيّ شكل من الأشكال، فنحن في النهاية لا نستطيع العيش في نسيجٍ فكريّ باهت من الأفكار دون الواقع، فكلاهما ضروريان فالعلاقة بينهما جدلية.
ثالثاً -الموقف من الغرب :
لعلّ أبرز ما في فلسفة دوغين، وأقصد هنا الجانب السياسي منها فحسب – وبقناعتي فإنّ فلسفته سياسية بحتة- فهي موجودة بشكل واسع في مجلداته “الجيوبوليتيكا”. والحقيقة أن الكتاب ليس في متناول اليد، وما أقوله يستند إلى أقوال الآخرين.
حيث يشرح فيه أسس السياسة العالمية، وما يجب على روسيا القيام به من أجل مناهضة الغرب والهيمنة الأمريكية بشكل خاص.
وأهم ما يميّز فلسفة دوغين / بوتين العملية هو حالة العداء والخصومة الشديدتين للحداثة ، والكراهية والنبذ للفكر الغربي
“الليبرالي”. فالليبرالية برأي دوغين هي نوعٌ من البلاء ابتلي به العالم برمّته، إنّه بلاءٌ مدمّر لكل أنواع الحضارات… لأنها تقدّم كينونتها بصفتها النموذج الأوحد، والمتعالي على كلّ حضارة أو ثقافة أخرى مغايرة.
“إنّ الغرب الليبرالي الحديث خاطئ لأنه سام ومؤذٍ” …لقد قطعت أوروبا الغربية جذورها مع ماضيها عند ابتلائها بفكر الحداثة والأنوار…وهي الآن تريد لبقية العالم الابتلاء بهذا الوباء المدمّر لكل أنواع الحضارات وتعدد الثقافات، فهي “تدنيس غير إنساني، بل وفعلٌ شيطانيٌّ تماماً”.
يدّعي دوغين أنه يتقبل كل شيء: مجتمع قديم بدائي، متديّن، لاهوتي، بوذي…إلّا الغرب الحديث…وحجته في ذلك هو ادّعاء الغرب بفرادة نموذجهم الحضاري، وعالميته.
إلا أنّ دوغين يقع في مأزقٍ وموقفٍ حرجين، فهو الذي يقول بأن” كل ثقافة ثرية، ولديها كوكبة من الأفكار” . لذلك يجب أن يراعي الحوار بينها حالة الثراء هذه…فهل من المعقول، ألّا توجد ولو بعض الأفكار الثرية في الحداثة والليبرالية، أليس من المبالغة والتطرف تقزيم الليبرالية، واعتبارها سُمّاً لمجرّد ادّعائها العالمية…علماً أنّ هناك ثقافات كثيرة تطرح ذاتها كمذهب عالمي…الإسلام مثلاً، والمسيحية، والماركسية…
إنّ مجرّد ادّعاء العالمية من جانب ثقافة معينة، لا يستلزم كل هذا التشنّج والتطرف، فالمفكّر والفيلسوف يجب أن يكون سلاحه المنطق، ويدحض نظريات الآخرين بالحجّة والبرهان، وليس بالكراهية، والعدوان. من جهة أخرى لا توجد حضارة، أو ثقافة نقية…ألا وقد تأثّرت بغيرها من الثقافات، إنّ ادعاء النقاء الثقافي ما هو إلّا ضربٌ من الوهم، لا بل والعنصرية، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال إلا التفاعل مع الثقافات الأخرى واستيعابها وتمثلها وهضمها.
٤ – أيديولوجيا دوغين/ بوتين:
إنّ رسالة الكرملين للروس هي نفاذ “الليبرالية” وأفولها، وتدهورها، وسقوطها الحتميّ. لذا على الروس قبول البديل الوحيد ألا وهو العودة “للقيم الروسية التقليدية المحافظة، وتقاليدها الدينية الأرثوذوكسية المقدسة، وقيم العائلة التقليدية” . التي تستند إلى الأبدية…والأبدية هي “وحدة التحليل المركزية في نظرية دوغين”. مثلما هو موقع الطبقة في الماركسية، أو موقع الفرد في الليبرالية.
والأبدية المعنية هنا ليست أبدية الماضي فحسب، بل أبدية الآن، وأبدية* المستقبل، ومن أجل ذلك يتوجب على الشعب الروسي قبول السلطة…من أجل استقرار البلد وحمايته من الهزّات والانحراف.
لقد كان السوفييت بحسب دوغين قويّاً وموحّداً، ولكن بعد انهياره، انزلقت روسيا منذ العام /١٩٩١/. نحو ثقافة الغرب وكادت أن تصبح جزءاً منه بسبب سياسة غورباتشوف وخلفه يلتسين الضعيفين…إلّا أنّ بوتين بصلابة شخصيته، أعاد لروسيا مجدها وهويّتها مرةً أخرى، وجعلها دولةً قويةً محافظة مرهوبة الجانب.
٥ – مقارنة أخيرة وسريعة :
أترك للقارئ حرية المقارنة بين النموذجين : الأوروبي الغربي الليبرالي، والنموذج الروسي التقليدي…ومع ذلك أقارن فقط بين النموذجين من جهة تداول السلطة، وحرية النقد والتعبير.
فالغرب كما نرى دستوريٌّ، ديمقراطيٌّ، لا احتكار فيه للسلطة …بل السلطة تداولية انتقالية سلسة… ولا أدّعي هنا القول أنّه النموذج الأمثل الصالح لكل زمان ومكان، لكنه الأفضل والأصلح على الأقل الآن، وهو يمتلك إمكانية قبول التغيير والتحوّل نحو الأفضل باستمرار.
أما النموذج الروسي، فهو نموذج سلطوي احتكاري لا دستوري، حيث لا تداول للسلطة فيه، بل نموذج استبدادي فردي وإلّا لماذا يتحكّم بوتين بهرم السلطة منذ أكثر من عقدين من الزمن.
خاتمة :
ربما أسطعُ دليل على سقوط النموذج الروسيّ، هو عدوانيّته وانكماشه تجاه شعبه، وتجاه الآخر وما حرب بوتين ضدّ أوكرانيا وقبلها غزوه لجزيرة القرم…إلّا أمثلة جلية عن نموذجِ سلوكِ سلفه إيڤان الرابع الملقّب بالرّهيب.( ١٥٣٠- ١٥٨٤).
الذي خاض حروباً توسعية، ارتكب فيها المجازر، ضدّ مسلمي قازان، وبلدان أوروبا، وخاصةً ليتوانيا وبولندا…وكان من جملة أساليبه في التعذيب : شوي الضحايا وهم أحياء…كما أنه قاتل أبيه… وبسبب أعماله الوحشية تلك لقّب بالرّهيب، فهل يسير بوتين على خُطى سلفه إيفان..؟ وهل اقترب من وراثة اللقب عنه…؟
المراجع :
١-ألكسندر دوغين، ضمن برنامج المقابلة، قناة الجزيرة، ١٤/١١/٢٠٢١/.
٢-ألكسندر دوغين، على شاشة الجزيرة مباشر، ٢٠/٣/٢٠٢٢/.
٣-أ.د. وليد عبدالحي، اسرائيل في أدبيات المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
٤-زينب الصّفّار، “النوماخيا”. مشروع المفكّر الروسي، ألكسندر دوغين، برنامج من الداخل، موقع الميادين،
٥/١١/٢٠١٩/.
وكذلك “النوماخيا” ماهي.. لمعدّة البرنامج المذكور
٥-يعرف ب “عقل بوتين”. تعرّف على الفيلسوف الرّوسي ألكسندر دوغين.
Trtarabi. Com.
٨/٣/٢٠٢٢/.
*أعتقد أن مفهوم الأبدية يشير إلى الزمن المستقبلي اللامتناهي، بعكس الأزلي الذي يشير إلى الماضي اللامتناهي.
من هنا أرى أنّ الترجمة غير موفقة بخصوص استعمال لفظة الأبدية، ربما كلمة “الكينونة” تعطي معنىً أدق، أو حتى كلمة “الوجود”.( Dasein ). الألمانية.