د. يحيى العريضي
عندما وصل بوتين إلى السلطة كان مشبَّعاً بفكرة استعادة “العظمة” التي تهاوت على غير المتوقع لإمبراطورية سوفييتية، لم يخطر على بال أحد أن مُلكها يمكن أن يزول؛ ولكن النخر كان قد وصل إلى خلاياها الداخلية، بسبب انصراف أرباب السفينة إلى مقاتلة الإمبريالية بسيوف من خشب؛ في حين كان الشعب السوفييتي يخسر قُوته اليومي تباعاً، لأن “الأخ الأكبر” وحاشيته كانوا يوزعون هِبات بلادهم على أنفسهم وعلى الرفاق الأمميين المنتشرين في أصقاع الأرض كدرع ضد الرأسمالية؛ التي ساورتهم أوهام زوالها بحسب حتمية التاريخ حسب الشيوعية. ولكن خداع الذات لم يُؤْتِ أُكُله ضد الأعداء، بل ارتدّ على نحر البلاد والعباد؛ حيث تداعت بلاد السوفييت وتوابعها مثل أحجار الدومينو؛ فما كان من سليل جهاز الـ”كي جي بي”، الذي وصل إلى رأس الهرم في الكرملين في غفلة من التاريخ، في عهد الرئيس بوريس يلتسين، الذي أمضى الهزيع الأخير من حياته مخموراً، وأودع قيادة البلاد بيد الشاب الصاعد بوتين؛ الذي وجد لزاماً عليه أن يغيّر تقنيات العمل للتعامل مع الشعب في الداخل، ومع الآخرين في الخارج دون المساس بجوهر فكرة المحافظة على قهر العباد.
في الواقع إن بوتين، الذي لا تنقصه الحصافة قد استفاد حقاً من خدمته كضابط استخبارات سوفييتي في مدينة “لايبزغ” الألمانية لمدة خمسة عشر عاماً، حيث اختبر وفهم بعمق العقلية الجمعية الغربية وطريقة التفكير في البلاد الديمقراطية الحقيقية؛ وبالتالي عرف الثغرات التي يمكنه استغلالها للنفاذ والتغلغل لتسويق أفكاره التوسعية. وبناء على هذا الفهم استطاع بطريقة انتهازية مد الجسور مع اليمين الشعبوي الأوروبي أملاً بخلق شروخ مجتمعية في أوروبا؛ واستثمر رهاب الأجانب عند هذا اليمين الأوروبي، من خلال دفعات اللاجئين السوريين التي أجبرتها طائراته أن تهيم على وجهها طالبة الأمان في أوروبا وغيرها. ولا يخفى على أحد أن غاية بوتين هي تفتيت الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كي يستفرد بالدول الأوروبية الشرقية التي خرجت عن الطاعة السوفييتية؛ كما استغل فترة الانكفاء الأمريكي المتَعَمَّد ليتمدد في أوكرانيا، فقضم القرم وبطريقه إلى غيرها. واستغل حالة الغضب التركي من برودة حلف الناتو تجاه تركيا أثناء حادثة إسقاط الطائرة الروسية، ليقنع أردوغان بأن الصداقة مع روسيا هي أكثر مصداقية وديمومة من مثيلتها مع أمريكا، مستغلاً اكتشاف أردوغان أن يداً أمريكية غير نظيفة متورِّطة بحياكة الانقلاب ضده عام 2015.
هذا، وابتدع بوتين أيضاً تقنية مد الجسور مع الأطراف الدولية المتناقضة: فهو يبدي الصداقة مع إيران في سورية، ولكنه في الوقت ذاته صديق حميم لإسرائيل، رغم تناقضها الظاهر مع ملالي طهران. وكذلك استغل حالة التوتر المتفاقمة بين الصين وأمريكا ليدعم أوراقه التوسعية؛ رغم أنه لن يستطيع تجاهُل حقيقة النوايا التوسعية الصينية على حدودها الشمالية مع روسيا؛ حيث إن العيون الصينية ترنو إلى ملء السهوب الروسية الشرقية الفارغة بالفائض السكاني الصيني.
ولكن هل يعتقد بوتين أن الأمريكيين غافلون عما يفعله، أو عما يخطط له؟ لم تكن أمريكا العميقة غافلة عن عبثه بالانتخابات الأمريكية على مختلف مستوياتها، ولا عن لعبه في فضاءات التدخل الأمريكي التقليدية، ولا عن زواجه المصلحي مع تركيا، ولا عن زواج المتعة مع إيران. وهكذا تلتقط آلة السلطة العميقة الأمريكية نزعة الغرور لديه، وتراقبه يبتلع طُعم الانتصار الواهي والوهمي في البلدان التي غزاها؛ تاركة له الحبل على الغارب، كي يغرق في المخاضات التي وقع فيها كمصيدة الدببة، ومنها الحالة السورية؛ وختام “المسك” المسموم في أوكرانيا.
بناءً على كل ما تقدّم، يتضح أن الأمريكيين قد وضعوا رزمة من الألغام أمام بوتين، وأحد أخطرها يتمثل بالتمسك الفعلي بأنظمة مجرمة -وعلى رأسها نظام دمشق- الذي لا يستطيع الاستمرار بالتشبث به، ولا هو قادر على رميه. والأمريكيون من جانبهم يستمرئون حاله هذا، ويستمرون بتسجيل ارتكاباته. ومن هنا كانت غزوته الخائبة لأوكرانيا الضربة القاتلة والنهائية لحلم واهم عابث. ومن هنا هذا الإجماع العالمي على تجريم فعلته الأوكرانية. ومن هنا ورغم كل ما ورد أعلاه؛ وفي القضية المفصلية في كل تلك الصراعات تحديداً “سورية”، كان طريق نجاته شِبه آمِن إذا ما أعاد كل حساباته في الارتباط مع نظام قتل شعبه؛ ولكنه فاقم وعقّد عبئه الآن، وما عاد خروجه وانكفاؤه، ووضع نفسه في جحر كافياً لخلاصه،؛ بل زاد غرقه في الغوص بالمستنقع الأوكراني، لتضحى حتى إمبراطوريته الموهومة بالميزان.
ومع ذلك يبقى أحد سُبل نجاته البَدء بالابتعاد عن منظومة استبدادية؛ فهذه المنظومة ليست أقل منه غباءً؛ فهي اعتقدت أنها استخدمته كأداة أنقذتها، ولكنها في حقيقة الأمر لا تدين له بالولاء، بل لمن- باعتقادها- سخّره لتلك المهمة القذرة. لقد تكشف ذلك ولم ينتبه له بوتين عندما نقل أحد أبواق سلطة الاستبداد في دمشق رسالة المخابرات السورية، بأن “النظام” هو من يسّر له هذا الحضور العالمي؛ وعليه أن يتيقن أن كلّ ما وهبته له هذا العصابة ليس إلا “عطاء مَن لا يَملِك، لمَن لا يَستحِقّ”؛ فهذا مِلْك سوري شرعي سيعود للسوريين أمام أعين بوتين طال الزمان أم قصر. وربما يكون ذلك بداية خروجه من الورطة.
لقد أغرى بوتين بل توهّم أن هذا الحق السوري لا يجد مَن يَتمَتْرَس عنده بقوة وصلابة وانتظام عالمياً، مستغلاً بخبثه التناقضات والمصالح الدولية المتضاربة، وكَبُر رأسه بحكم امتلاكه لقوة عسكرية -طالما تفاخر بفاعليتها في الساحة السورية- وقد يتوهم أن المسألة السورية لا تحتلّ أولوية في السياسات الدولية؛ وها هو يكتشف أن هناك مَن يَتَمتْرَس عند جمر القضية السورية، وأن الدول تسجّل عليه سقطاته، وخاصة حمايته للإجرام عَبْر “فيتو” مجلس الأمن، وعَبْر إجرامه في سورية. فهو لمجرد رؤيته تجدُّد صرخة الحرية في سورية، وبعد 11 عاماً، مستمرة، والتي لا تزال عن الصمود الأوكراني في وجهه -على غير ما كان يعتقد أو يتوهم- سيعيد حساباته، ويوقف أوهامه؛ وأفضل ما يمكن أن يفعله أن يعود إلى جحره، قبل أن يخسر كل شيء، بما في ذلك حصنه المافيوي.
———–
نداء بوست