نزار بعريني
إنّ افضل ما يمكن أّن تقدمه النخب السياسيّة الوطنية الديمقراطية، في الذكرى الحادية عشر للثورة السورية، هو إعطاء قراءة واقعية لصيرورة الصراع، بعيدا عن الأوهام والتضليل، التي تمنع السوريين من معرفة واقعهم، وكيفيّة تغييره !
في ربيع ٢٠١١،و”في مثلِ هذا اليوم.. قبل أحدَ عشرَ عاماً.. خرجَت كوكبةٌ من أنبل شباب سوريا عن حدود المُمكن والمُستحيل؛ لتهتفَ في قلبِ دمشق: الله.. سوريا.. حرية وبس!”( خالد حاج بكري)!
من البديهي أنّ لايكون ذاك النهوض الشعبي والنخبوي الغير مسبوق منفصلا عن السياق السوري المستمر منذ ١٩٦٣، سواء فبما يتعلّق بطبيعة السلطة ونهج سيطرتها، او محطّات نضالية، خاضها السوريون بالكلمة والموقف ، ودفعوا الأثمان الغالية طيلة عقود !
لقد تفجّر الغضب السوري في سياق نضال السورين التاريخي لإنتزاع اصلاحات سياسية، في مواجهة سلطة معنّدة، تستقوي على أمال وطموحات السوريين المشروعة بالتحرر والدمقرطة، بجميع وسائل السيطرة السياسية والطبقيّة، وبشبكة واسعة، معقّدة، من المصالح التشاركية مع انظمة المنطقة، ومراكز النظام الرأسمالي العالمي ، خاصّة الأمريكية .
مع إطلالة آذار ٢٠١١،يتفجّر صراع سياسي غير مسبوق، (في اعقاب ثورة شعبية، سلمية، تزداد قوّة وامتداد، شعبيّا وجغرافيا، في ظل أمال كبيرة بالتغيير، حفّزها ما حققته ثورات تونس ومصر من تحوّلات في قمّة هرم السلطة، وما أظهره السوريون من تضامن وطني، وتكاتف اجتماعي وإنساني)، واضعا مستقبل سوريا؛ بجميع مقوّمات الدولة، على صعيد مصير الثورة وجمهورها وقواها، وعلى صعيد سلطة النظام، والنظام ومؤسسات الدولة والسيادة الوطنية ؛ بين خيارين، لا ثالث لهما :
حل، وانتقال سياسي، عبر خارطة طريق، يشارك فيها جميع السوريين، وتحت قيادة مؤسسات الدولة، ( او ” صفقة سياسية “، قد تتضمّن تغيير ما في هرم السلطة، يوقف مسار تصاعد الصراع، ويمتصّ غضب السوريين، ويعطيهم بعض الأمل… )، او خيار “أمني -عسكري “، يقطع مسار الحل السياسي “، ويعمل على حسم الصراع لصالح السلطة، وعلى حساب الثورة، وبما يؤدّي إلى هزيمتها .
ثمّة عاملين بارزين، يساعدان على تفسير عجز الوعي السياسي المعارض عن ادراك صيرورة الخيار العسكري، من جهة ، وطبيعة اهداف ” مسار جنيف”، المكمّل له، من جهة ثانية، كتنوّع في ادوات قوى الثورة المضادة!
١- نهج قوى الثورة المضادة، لإنجاح اهداف الخيار العسكري، التي تمحورت حول منع حدوث انتقال سياسي، والحفاظ على سلطة النظام:
لقد شارك جميع أطراف قوى الثورة المضادة (سوريّا وإقليميّا وعالميّا، بقيادة الولايات المتحدّة وروسيا) في جهود منع حدوث حل سياسي، ودفع الحراك السلمي على مسارات العنف الطائفي والميلشة، وبما يجعل من بعض جمهور الثورة، في قواعد ميليشيات الثورة المضادة، بندقية مقاتلة، إرهابية،بما يحوّل طبيعة الصراع؛ بما هو صراع سياسي إصلاحي، في مواجهة نهج وادوات سلطة استبداد، إلى صراع طائفي، بين ميليشيات طائفية، وبما يؤدّي إلى وأد الحل السياسي؛ ويدفن معه الثورة، وقواها، وجمهورها !
٢- مسار” جنيف للحل السياسي “!
من بداهة القول انّه يستحيل في الممارسة العسكرية والسياسية في اي صراع، أن يترافق مساري حل متناقضين، سياسي ( يهدف الى فرض انتقال سياسي ) وعسكري ( يستخدم جميع وسائل العنف لمنعه )، ويسيران معا، على خطين متوازيين .
سياق وأهداف وقوى “الحل السياسي “، تتناقض مع تلك المرتبطة ب” صفقة سياسية “، عادة تأتي نتيجة لوصول موازين القوى المتصارعة في الثورة المضادة الى حالة ” العجز عن الحسم، و يُصبح من مصلحة للجميع الوصول إلى صفقة سياسية، لوقف صراعاتها على تقاسم الحصص، وشرعنة ما حصلت عليه. الصفقة السياسية تأتي في نهايات الحلول العسكرية كما حدث مثلا في اتفاق الطائف، ١٩٨٩، وكما يحدث في سياق علاقات ” الدول الضامنة “، تركيا وروسيا وإيران، منذ ٢٠١٧، بأشراف الولايات المتحدّة، وبالتنسيق مع إسرائيل !
بناء عليه، يستحيل ان يكون مسار جنيف، بعد مضٍي كلّ تلك السنوات على إطلاق الخيار العسكري، ونجاح قواه في تحقيق هدفه المركزي- هزيمة الثورة، ومنع حدوث انتقال سياسي، والحفاظ على سلطة النظام- العمل على تحقيق حل سياسي، وفقا لما يدعو اليه القرار ٢٢٥٤ – ولا حتّى الوصول الى ” صفقة سياسية “، وفقا لمفاوضات ” اللجنة الدستورية “،بسبب عدم امتلاك “المعارضة السلطوية “( التي لاتعبّر عن الثورة، ولا تعمل على تحقيق اهدافها، بل تعوّل على قوى الثورة المضادة، للحصول على بعض الفتات !)، ايّة اوراق خاصّة، تمكّنها من فرض شروطها على النظام، وعجزها عن تشكيل جسم سياسي معارضة، موحّد، لارتهانها لأجندات مختلفة !
ليس خارج السياق، نقطاط عديدة تستحق التوضيح :
١- بخلاف دعاية” تناقض سياسات واشنطن وموسكو (وهي اهم افكار ” نظريّة المؤامرة “، وترويجها للعلاقة القطبية المتصارعة بين البلدين )، وما نتج عنها من عدم تطبيق القرار ٢٢٥٤، اعتقد انّ حصول توافق مصالح وسياسات الولايات المتحدّة وروسيا على منع حدوث انتقال سياسي، وبقاء السلطة، هو أهمّ العوامل الموضوعية التي تفسّر نجاح سلطة النظام “، بالتكامل مع جهود خصومه وحلفائه على ضفتي الخليج، في دفع الحراك السلمي للشعب السوري ٢٠١١- ٢٠١٢ على مسارات العنف الطائفي والميلشة، بعد ” عجز ” الولايات المتحدة ” عن انجاح جهود الحل السياسي الذي دعمته الجامعة العربية وتركيا؛و تقاطع سياسات واشنطن وموسكو في مرحلة التدخّل العسكري المباشر، الأمريكي في أواسط ٢٠١٤، ثمّ الروسي تاليا، في ٢٠١٥، في جهود ” اعادة بسط سلطة النظام على الجغرافيا السوريّة التي خرجت عنها في سياق تحقيق اهداف الخيار العسكري؛ حين تكامل جهد عسكري وسياسي، أمريكي روسي، لتحقيق اهم اهداف مشروع ” إعادة تأهيل ” السلطة، المتمثّل في إعادة بسط سلطة النظام على الجغرافيا التي خرجت عنها ، وعبر جهد مشترك “لتفكيك” سلطات الأمر الواقع، التي بنتها أذرع الثورة المضادة الميليشياويّة؛ فأخذت الولايات المتحدة مهمة ” تحييد ” داعش، بينما عملت روسيا على “هزيمة ” وطرد فصائل وميليشيات قوى المعارضة التي قاتلت النظام !!
٢-إذا نظر الى خارطة المشهد السوري، بجميع أبعاده وزواياه، يبدو جليّا اليوم أنّ الهدف الحقيقي للجهود التي قادتها الدولتين، وعبر استخدام ” مسار جنيف”، منذ ٢٠١٢، بإضافة الى تفتيت المعارضة السورية، ودفعها للإرتهان، والذي لم يكن سوى غطاء، ووسيلة لشراء الوقت، إفساحا في المجال لتحقيق هدفي الخيار العسكري الرئيسيين، في مرحلتين مترابطتين :
” الحفاظ على سلطة النظام،في المرحلة الأولى،
٢٠١١- ٢٠١٥، وإعادة تأهيلها ، في المرحلة الثانية، المتواصلة منذ تدخّل جيوش الولايات المتحدة وروسيا المباشر، والتي وصلت اليوم إلى مرحلة متقدّمة، وتسير بخطى متسارعة، رغم اعاقتها، بسبب تناقضها مع مصالح تركيا، وهو ما يمكن تفسيره في نفس السياق!
على صعيد” قوى المعارضة والثورة “، عامل توافق المصالح، وتنسيق السياسيات بين القوتين الأعظم، هو الوحيد القادر على تفسير ما لحق بقوى واحزاب وشخصيات ونشطاء ” الثورة “، و “المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية” من تهميش، وتشظّي، وتحييد، وما وصلت اليه أطياف المعارضات الأخرى من إرتهان لهذا الطرف او ذاك، من القوى الإقليمية والدولية، المعادية للتغيير الديمقراطي؛ وقد تحقق ذلك عمليا عبر مراحل ومحطّات ” مسار جنيف “، وهي اهمّ إنجازاتها؛ وهذا لاينفي بالطبع مسؤولية العامل الذاتي، لكنّه يحدد العامل الحاسم، بل يؤكّد على سعي قوى الثورة المضادة لضبط ايقاع حركة المعارضة، على الصعد السياسية والثقافية، احزاب ونخب، وبما يصبّ، في المآل الأخير، في خدمة اهداف مشروعهم المشترك، ويؤدّي إلى اجهاض اهداف التغيير، ومساراته، وتفشيل قواه !!
ضمن هذا الإطار، أعتقد أنّ التناقض الرئيسي في الوعي السياسي النخبوي المعارض هو استمرار الترويج والتعويل لحل سياسي، عبر توافق الولايات المتحدّة وروسيا!
اذا كان لدينا الف سبب وسبب لكي لانصدّق الروس، مالذي يجعلنا نصدّق الأمريكان ؟
ثمّ، هل ستجبر الولايات المتحدّة النظام على التنازل عن ما انجزه في الخيار العسكري، وعبر حلّ سياسي، كمهزلة اللجنة الدستورية؟ لو كان لديها مصلحة في ذلك، لماذا لم تفعله في ٢٠١١، ولم يكن يحتاج اكثر من ” اتصال “، كما حدث في مصر !!
اذا كنّا حقّا نبحث عن بديل، فلتكن الخطوة الأولى توقّف الوعي السياسي النخبوي عن ترويج وعي منفصل عن الواقع؛ كدعاية تعارض سياسات الولايات المتحدة وروسيا في الصراع على سوريا، خاصّة بما يتعلّق بقضية نضال السوريين المركزية، الانتقال السياسي؛ ولنكفّ عن التعويل على “مسار جنيف”؛ وقد انجز اهدافه بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا، وخدع السورين، وجعلهم يعيشون على وهم حل دولي، ريثما ينهي الخيار العسكري اهدافه، ولا يغيّر من ذلك ما يحصل من تعثّر لخطوات ” إعادة التأهيل “، بسبب تعارض ادواته واهدافه مع مصالح تركيا، الدولة التي ما تزال تشكّل العقبة الكبرى في وجه وصول قطاره إلى محطّته النهائية ..!
السلام والعدالة لجميع السوريين !
١٥/٣/٢٠٢٢