د. محمود عباس
على مدى عقد كامل تتأرجح الحدود السورية ما بين العدم كواقع؛ وخطوط شكلية على طاولة المباحثات الدولية، ما بين بقائها على الخرائط المستنسخة من الماضي القريب؛ وبين التقسيم الإثني المذهبي من الماضي البعيد والجاري؛ والتي أصبحت مناطق لنفوذ القوى الإقليمية والدولية، إننا أمام دولة مقطعة الأوصال، فلولا حفاظ الدول المجاورة لجغرافياتها لما بقيت من سوريا سوى الفتات، باستثناء تركيا التي تتحكم اليوم بأجزاء منها بشكل مباشر. لهذا يتم تكرار مطالب الحفاظ على وحدتها، التي كانوا في السابق يعنون الشعب الكوردي بهذا المطلب، واليوم تطبقها قوى عربية سورية، مذهبية وطائفية، وبسند تركي وإيراني.
فرغم انعدام المراقبة على معظم أجزائها، وشبه زوال لجواز سفرها، عند الخروج أو دخول مهاجريها، أو القوى والمنظمات الرسمية وغير الرسمية، إلى المناطق المراد التعامل معها، لا تزال روسيا تصر على إعادة الشرعية الدولية للسلطة على منافذها الحدودية الرسمية، علما أنها تدرك أخطار ما تقدم عليه في الأبعاد الإنسانية والسياسة، ومدى مضار هذا التكتيك الدبلوماسي والسياسي على ذاتها وعلى الشعب السوري.
فروسيا وعلى مدى السنتين الأخيرتين، وبعد انتصارها على أغلبية المعارضة التكفيرية، تعمل على الانتقال من مرحلة النجاح العسكري إلى الهيمنة السياسية، بإعادة سلطة بشار الأسد إلى المحافل الدولية، وفرضها على الداخل والقوى الإقليمية كسلطة سياسية مطلقة، وعلى الأغلب أن مسيرة التطبيع الجارية مع بعض الدول العربية كانت بدبلوماسية روسية وتغاض أمريكي، أستخدم المعابر الحدودية كإحدى أدوات الضغط على مجلس الأمن، وخلط بين المنظمات الإرهابية التكفيرية، والمآسي الإنسانية للمخيمات ومعاناة الشعب، فعلى على هذا التكتيك، صدرت التصريحات من مسؤوليها في الأمم المتحدة ووزارتها الخارجية، على أن جميع الخدمات الدولية مرفوضة، لأنها لن تجدي نفعا ما دامت ستتحكم بها المنظمات الإرهابية، وبالتالي المنافذ الحدودية التي تم النقاش عليه في مجلس الأمن، باب الهوى وباب السلام تخدم تلك القوى، قبل الشعب، لذا يجب إغلاقها، كما ورافقها رفض على فتح معبر تل كوجر- اليعربية في شرق المنطقة الكوردية. استخدمت روسيا والصين الفيتو من أجل ذلك أربع مرات، وفي كل مرة عرضت مقابلها دمشق كمنفذ وحيد لإيصال المساعدات الإنسانية، والسلطة كراعية لتوزيعها.
بخلاف كل ذلك، تم اتفاق غير رسمي بين تركيا وروسيا، في مؤتمر سوتشي قبل الأخير، على ألا يتم الاعتراض على تمديد فترة فتح معبر باب الهوى لمدة ستة أشهر أخرى، بدأ من بداية السنة، شرط أن تقوم تركيا بتعجيل التخلص من بعض المنظمات الموجودة في إدلب، ومن بينها منظمة (جنود الإسلام) وهي منظمة شيشانية، أعضاؤها كانوا يحاربون روسيا في منطقة غروزني، وهو ما تم من قبل هيئة تحرير الشام، لكن هذه المنظمة بذاتها في مقدمة القائمة الإرهابية لدى روسيا، تلكأت تركيا في إيجاد حل لها، رغم تجنيدهم كمرتزقة وإرسالهم إلى خارج سوريا، لكنها لم تتمكن من وضع نهاية لهم، وظلت إدلب على ما هي عليه قبل الاتفاقية، وعلى أثرها قال السفير الروسي الدائم في مجلس الأمن (فاسيلي نيبينزيا) “إنه ليس سراً إن إدلب تخضع لسيطرة منظمة يدرجها مجلس الأمن كمنظمة إرهابية” وأتبعه وزير خارجيتها(سيرغي لافروف) بتصريح في نهاية شهر تموز الماضي، على أن روسيا لن تجدد موافقتها على فتح معبر باب الهوى.
رافقت هذه، اتفاقية سياسية شبه رسمية مع الإدارة الذاتية، لأنها تدرك أنها لن تتمكن من استخدام القوة معها وهي في الحصانة الأمريكية، نتذكر أنها حاولت قبل سنوات عن طريق مرتزقة روس، لكن الجواب الأمريكي كان صارما صادما، أدى إلى قتل ما يقارب الـ 700 مرتزقة روس في شمال دير الزور، لذا فهي تستخدم اليوم الأساليب السياسية والدبلوماسية مع الإدارة الذاتية، لإعادة نظام بشار الأسد إلى المنطقة كسلطة معترفة بها سياسيا، وبعدها لتسود عسكريا، ولا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية تراقب مجريات الأحداث، وتصدر بين حين وأخر موقفا سلبيا صارما من سلطة بشار الأسد، وهي رسائل للإدارة الذاتية قبل أن تكون لروسيا.
وعلى الأرجح أنها دفعت بمنظمة العفو الدولية على نشر التالي على صفحتها، خاصة بعدما أرسلت ممثلتها الدائمة لدى الأمم المتحدة (ليندا توماس غرينفيلد) قبل شهور إلى الحدود السورية للاطلاع على مجريات الواقع للمعابر، وقدمت تقريرها والتي ساعدت المنظمة على ما نشرته ” إن العديد من بواعث القلق هذه موجودة أصلاً في منطقة شمال شرق سوريا… إذ أن نحو قرابة 1,8 مليون شخص هناك يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على الحياة… وكان من المفترض أن تتم الاستعاضة عن عمليات الأمم المتحدة الخاصة بتوصيل المساعدات عن طريق مركز اليعربية بتوصيلها عن طريق دمشق تحت سيطرة الحكومة السورية” لكن وبعد مراقبة تلك المنظمة، تبينت أن حجم المساعدات التي تصل، وخاصة الطبية، تنخفض بشكل حاد، بعد مرورها من دمشق، بسبب الفساد والقيود البيروقراطية التي تفرضها السلطة، وهو ما أدى إلى تراجع معظم المنظمات الإنسانية من تقديم المساعدات عن طريق النظام، وبعضها الأخر توقفت كليا بسبب إغلاق معبر اليعربية. لذا فإن روسيا وكما ذكرنا سابقاً، تتعامل مع الإدارة الذاتية بأسلوب أكثر مرونة، لبلوغ الغاية ذاتها، أي إعادة النظام سياسيا إلى المنطقة، ولا يستبعد أنها كانت بشكل ما وراء ما جرى في سيمالكا، ليتم إغلاقها ويتفاقم الوضع الداخلي لأبناء منطقة الإدارة الذاتية، وبالتالي مع قرار مجلس الأمن بإغلاق معبر اليعربية، تعود إلى قبول شروط النظام في استلام المساعدات الدولية، وربما التطبيع معها.
لا شك تلك المساعدات كانت من ضمن ما دعي إليه رئيس هيئة الأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريش) في حزيران الماضي، بجمع قرابة 4,2 مليار دولار لمساعدة من هم في الداخل، و5,8 للاجئين في الخارج، لكن المحصلة تجاوزت المليار دولار قليلاً، على خلفية الفيتو الروسي.
فعلى خلفية مصالح الدول المعنية بالقضية السورية، وعلاقاتها مع روسيا، مأساة المجتمع السوري سيستمر، والمخيمات ستظل تعني الويلات، وسيطول الصراع إلى أن يخمد من ذاته، وحينها ستتفق روسيا وأمريكا مع حضور بعض الدول الإقليمية لوضع اللبنات الأخيرة لقادمها غير الواضح سياسيا وجغرافية، ومن المرجح في هذه المرحلة، ستستمر تركيا في رفض الشروط الروسية بإعادة النظام إلى منطقة إدلب وعفرين، وعليه ستظل المعابر مغلقة، وهو ما لا يؤثر على الدعم العسكري التركي لأدواتها، إلا إذا قبلت روسيا بالمقابل شروطها، ومنها كتابة الدستور، مناطق ذاتية أو أوسع للمكون السني، العمل معا على تقويض الإدارة الذاتية للمناطق الكوردية، إي عدم عرض قضيتهم ضمن الدستور وفي قادم سوريا. أما بالنسبة لأمريكا فهي حالة تندرج مع الزمن كبعد استراتيجي لحضورها في منطقة الشرق الأوسط، والمعابر بالنسبة لها ليست بذات الأهمية، فهي لا تركز كثيرا على الحالة الإنسانية بقدر ما تهمها الواقع العسكري، وما تثيره حولها ليست سوى رسائل ضغط على روسيا، فدعمها لأدواتها ضمن سوريا لا تمر من خلال المعابر الرسمية، وبالتالي، فلن يكون للرسائل الروسية ذات أهمية، وعلى الأغلب قد تفرض منطق النظام الفيدرالي على روسيا لسوريا القادمة، وهو ما تبوح به بشكل غير مباشر عندما تكرر رفضها التطبيع مع نظام بشار الأسد، وبالتالي ففيما لو أستطاع الحراك الكوردي وفي مقدمتهم أحزاب الإدارة الذاتية إدراك هذه المعادلة لتمكنوا من التعامل معها بالبعدين الدبلوماسي والسياسي، ومن الأهمية هنا تشكيل هيئات دبلوماسية مشتركة مع الأطراف الكوردية الأخرى، حينها قد يكسبوا المعادلة، وهي في الواقع من ضمن المصالح الأمريكية في المنطقة.
الولايات المتحدة الأمريكية
16/12/2021م