وعملت أنقرة ودمشق على تطوير العلاقات الثنائية بينهما ليس في المجال الأمني فحسب بل كذلك في المجال الاقتصادي والعسكري وتبادل الجانبان الزيارات، وكانت لمشاركة الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار في تشييع جنازة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي رحل في 10 يونيو /2000/ دلالات رمزية هامة ودوراً في الدفع بهذه العلاقات نحو الأمام.
الزيارة كانت بمثابة طي صفحة ماضية من الخلافات التي تجسدت في قضايا ثلاث هي:
مشكلة لواء اسكندرون حيث لم تعترف سوريا قط بالسيادة التركية عليه منذ تنازل الانتداب الفرنسي عنه لتركيا في عام /1939/.
والثاني مشكلة تقاسم مياه نهري الفرات ودجلة حيث تعتبر تركيا النهران تركيان كونهما ينبعان من داخل الأراضي التركية بينما تعدهما سوريا والعراق نهران دوليان ينبغي أن يطبق عليهما القانون الدولي، حيث تطالب سوريا بـ” قسمة عادلة ” لمياه الفرات وبعقد اجتماع للجنة الثلاثية السورية – التركية – العراقية.
أما السبب الثالث فهو أمني ويتعلق بالتحالف التركي – الإسرائيلي الذي وصل إلى مرتبة التحالف الاستراتيجي في عام /1996/ عندما وقعت تل أبيب وأنقرة على اتفاق عسكري له دلالات إقليمية.
وعليه فإن التحسن الجاري في العلاقات السورية – التركية يكتسب أهمية خاصة بعد مرحلة إسقاط نظام صدام حسين وتأثيره على أمن البلدين وفي الأساس فإن هذا التحسن لم يكن ممكناً لولا مجموعة من المقدمات والعوامل الموضوعية التي دفعت بالبلدين إلى امتلاك الإرادة السياسية وعلى أعلى المستويات لتطوير العلاقات بينهما.
كما أن تردي علاقات تركيا مع الولايات المتحدة بعد الوقوف الأمريكي العلني إلى جانب الأرمن في تأكيد مسؤولية تركيا في المجزرة الأرمينية وإظهار هذه القضية من جديد، إلى حد دفع مسؤولين أتراك إلى التهديد بإغلاق قاعدة “إنجرليك” الأمريكية في تركيا.
ساهمت إلى تغيير السياسية الخارجية لتركيا، ويترافق هذا مع تحسن ملحوظ في علاقات تركيا الأوربية في إطار مساعي تركيا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي.
وقد تحسنت على نحو واضح علاقات تركيا مع اليونان، وخفت لهجة تركيا حيال قبرص، فيما كانت أنقرة تقوم بتحسين علاقاتها مع جوارها في الشرق إيران خاصة بخلاف التوجهات الأمريكية.
وكان العامل الجوهري في تبدلات السياسة الخارجية التركية، ومنها سياسة تركيا إزاء سوريا، يكمن في محاولة تركيا الخروج من واقع الحصار الإقليمي الذي صارت إليه في ظل ارتباط سياستها بالولايات المتحدة وعلاقاتها القوية مع إسرائيل، ورفض الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب تقديم مساعدات طلبتها رئيسة وزراء تركيا السابقة “تانسو تشيلر”، عندما قابلته بعد حرب الخليج عام /1991/، وطلبت مساعدات أمريكية لتعويض تركيا عما خسرته من المليارات العراقية في ضوء وقوفها إلى جانب واشنطن والتحالف الدولي.
أثمرت هذه الزيارات عن التوقيع على مجموعة كبيرة من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والمالية أدت إلى ارتفاع حجم التبادل التجاري بينهما من /600/ مليون دولار عام /2000/ إلى أكثر من مليار دولار عام /2003/ وسط مطالبة من الجانبين بضرورة رفع هذه النسبة إلى مليار ونصف مليار دولار في ظل التطور الكبير الذي تشهده العلاقات الاقتصادية بين البلدين والقيام بمشاريع مشتركة.
واللافت أن التعاون الأمني بين البلدين شكل أساس تطور التعاون فيما بينهما في المجالات الأخرى.
وقد تجسدت مظاهر التعاون الأمني بين الجانبين في قضية تسليم سوريا /22/ مشتبها به بتفجيرات استانبول وتسليم عدد لا بأس به من قيادات حزب العمال الكردستاني وأبرزها تسليم القيادي في الـ/PKK/ (رحمي أونر) إلى السلطات التركية وهو الأمر الذي لاقى ارتياحاً كبيراً في أنقرة التي بادرت إلى إرسال عدد من أعضاء برلمانها لشكر الحكومة السورية على تعاونها.
ووفقاً لمصادر حقوقية كردية فإن السلطات السورية سلمت خلال السنتين الأخيرتين نحو /90/ عضواً في حزب العمال الكردستاني إلى تركيا في إطار تنفيذ الاتفاقات الأمنية بين البلدين، وسعياً لتحسين العلاقة بينهما.
واعتبرتهم المصادر الكردية “ضحايا لعبة سياسية إقليمية بين سوريا وتركيا وأطراف أخرى”، كما يتواجد العشرات من أعضاء الحزب في السجون السورية، ويقدمون للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة بشكل منتظم.
كما قام القائد العام لسلاح الدرك التركي بزيارة إلى سوريا بحث فيها عدداً من الموضوعات المتعلقة بالتعاون بين البلدين.
وفي الأساس شكلت الزيارة التي قام بها الدكتور محمد مصطفى ميرو رئيس مجلس الوزراء السوري الأسبق إلى تركيا على رأس وفد كبير في حزيران /2004/ أهمية بالغة الأثر على مسيرة العلاقات السورية التركية حيث أثمرت هذه الزيارة عن توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية الهامة .
ثم جاءت الزيارة التي قام بها وزير الداخلية السوري الأسبق علي حمود إلى تركيا وتوقيعه مذكرة أمنية جديدة بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات وتسليم المجرمين والهجرة غير الشرعية جاءت لتؤكد أهمية الوضع الأمني في تركيا بالنسبة لسورية والعكس.
وينطلق التفاهم السوري التركي من محددات عديدة في مقدمتها التلاقي في المواقف ووجهات النظر حول قضايا المنطقة واحترام خيارات شعوبها في اختيار طرق تقدمها وتطورها وبناء مستقبلها واتفاق وجهتي نظر البلدين على ضرورة مواصلة الجهود لاستئناف عملية السلام وشموليتها لجميع المسارات وفق مرجعية مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام وقرارات مجلس الأمن والتأكيد على ضرورة وحدة العمل الفلسطيني واستئناف الحوار بين الفصائل الفلسطينية لضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إضافة إلى ضمان وحدة العراق أرضاً وشعباً وتحقيق أمنه واستقراره واستقلاله.
والأبرز من كل ذلك الرؤية المشتركة للقضية الكردية التي تتقاسم سوريا وتركيا وإيران كردستان التاريخية بحسب الرؤية الكردية.
وجاءت الزيارات المتبادلة العديدة بين مسؤولي البلدين وبخاصة زيارة الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار عام /2005/ وزيارتي رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلى دمشق عامي /2005/ و/2006/ إضافة إلى الزيارات المتواصلة لمسؤولي البلدين ورجال الأعمال لتساهم في ترسيخ هذه العلاقات ودفعها إلى الأمام، وأبدى حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى السلطة في تركيا نهاية عام /2002/ وجددها في هذه السنة اهتمامه البالغ في تطوير العلاقات مع سوريا وتعزيزها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في زيارته الأخيرة لسوريا في الثالث من نيسان الماضي.
وبدوره أكد عبد الله غول وزير الخارجية التركي في حينه والرئيس الحالي للجمهورية التركية أن العلاقات السورية التركية تتطور يوما بعد يوم مستشهدا بتوقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين ودخولها حيز التنفيذ مطلع عام /2007/.
وأثمر سعى قيادتي البلدين للارتقاء بالعلاقات الاقتصادية إلى مستوى متميز إلى تحقيق نمو مطرد في حجم التبادل التجاري والاستثمارت المشتركة والمتبادلة بين البلدين في زمن قياسي واتخذت العلاقات الاقتصادية مسارات جديدة ومختلفة وخاصة بعد دخول منطقة التجارة الحرة السورية التركية حيز التنفيذ مطلع العام الجاري وصدور المرسوم /9/ المتضمن إعفاء شهادات المنشأ والفواتير التجارية العائدة للبضائع الوطنية المنشأ في تركيا والمصدرة إلى سوريا من رسوم التصديق القنصلي والتي يتوقع أن ترفع حجم التبادل التجاري من حوالي /850/ مليون دولار في العام الماضي إلى ما بين /3-5/ مليارات دولار في الحد الأدنى نهاية العام الجاري.
وأكد رجال الأعمال السوريون والأتراك خلال لقاءاتهما العديدة في دمشق وأنقرة رغبتهما المشتركة في تطوير وتعزيز العلاقات الاقتصادية وتحقيق نمو مطرد بين البلدين في حجم التبادل التجاري وإقامة المشاريع المشتركة وخاصة الكبرى منها لتحقيق فوائض للبلدين كما ساهمت مشاركة الجانبين في المعارض التي أقيمت في كل منهما في التعريف والترويج لمنتجاتهما وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين.
وتم الاتفاق على مضاعفة حجم التبادل التجاري وزيادة الاستثمارات وتوسيع مجالات التعاون وخاصة في مجال الطاقة.
وأكد الجانبان دعمهما لوحدة العراق أرضاً وشعباً وللعملية السياسية الجارية فيه لتحقيق المصالحة الوطنية كما أكدا حق العراقيين وحدهم في تقرير مستقبل بلدهم.
وعلق الأسد على التطورات الأخيرة ووصفها بالأعمال الإرهابية التي يقوم بها حزب العمال الكردستاني ضد الشعب التركي والجيش التركي وأيد الاجتياح العسكري التركي ضد عناصر حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق، وتخللت مباحثاته الحديث حول الشأن الفلسطيني واللبناني والملف النووي الإيراني.
وفى ختام الاجتماع وقع وزيرا خارجية سوريا وتركيا مذكرة تفاهم حول التعاون بين البلدين شملت تعزيز علاقات التعاون ودفعها إلى الأمام في المجالات السياسية والأمنية ذات الصلة والاقتصادية إضافة إلى مسائل الطاقة والمياه.
بعد أن وافق البرلمان التركي على عملية اجتياح عسكري لكردستان العراق وبناءً على ما تنص عليه المادة /92/ من دستور الجمهورية التركية، قرر مجلس الوزراء التركي وبتاريخ 15/10/ 2007 الموافقة على المذكرة وإرسالها إلى المجلس الوطني الكبير لتركيا للمصادقة عليها لمدة سنة واحدة، حيث تنص على منح الصلاحيات التامة للقوات المسلحة التركية لاجتياح الحدود والتوغل في منطقة شمال العراق والمناطق المجاورة لها من العراق التي تتمركز فيها عناصر الـ PKK، وإن الحكومة مكلفة بتحديد حجم وزمن ونطاق وعدد القوات المسلحة المشاركة في العملية.
احتجت رئاسة حكومة إقليم كردستان على هذا القرار وأصدرت بياناً حول موافقة البرلمان التركي للجيش باجتياح إقليم كوردستان بذريعة ضرب معاقل حزب العمال الكوردستاني، أكدت فيه أن إقليم كوردستان ليس طرفا في الحرب الدائرة بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني.
وجاء في البيان: نحن لسنا مع استخدام الأراضي العراقية لتهديد أمن تركيا أو أي دولة مجاورة، وإن كانت هناك مشاكل فالحل السلمي هو أحسن الحلول وأنجحها وليس عن طريق استخدام لغة التهديد والابتزاز.
ونفت حكومة إقليم كوردستان بقوة التهم الموجهة إليها بدعم ومساعدة عناصر حزب العمال الكردستاني وإن قرر الطرفان انتهاج الحل الدبلوماسي لحل المشكلة فهم على استعداد لتقديم كافة المساعدات وإن انتهجا سبيل الحرب هم ليسوا طرفاً في هذه الحرب ولن يقبلوا أن يجروهم إليها.
وطالب مرة أخرى بانتهاج سبيل الحل الدبلوماسي وهم مستعدون لبذل الجهود كافة بالتعاون مع الحكومة الفدرالية لحل جميع المشاكل بحيث يوفر الأمن والاستقرار في المنطقة.
وطالبوا من القوات المتعددة الجنسيات والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للعب دورهم للحد من تزايد العنف والعودة إلى الحوار والحل السلمي للمشاكل كافة.
ونقلت صحيفة “ميلييت” عن مصادر في الأمن والاستخبارات، أن العملية نفذت سراً في جبال أمانوس بمحافظة هتاي الحدودية بين تركيا وسوريا بالتنسيق بين مديريتي الأمن في هتاي وشانلي أورفا وإدارة الاستخبارات بمديرية الأمن العام، وتم خلالها القبض على مصطفى طاش الملقب “يوسف أحمد”، الذي كان يعمل مساعداً للقيادي في “حزب العمال الكردستاني” الملقب “أصلان” في سوريا.
حزب العمال الكردستاني تحول من حليف استراتيجي لسوريا إلى عدو لدود بعد أن عادت المياه لمجاريها بين سوريا وتركيا وتحولت العداوة السورية التركية إلى شهر عسل انتعشت فيه العلاقات بين البلدين ولم يخرج من المولد بلا حمص سوى حزب العمال الكردستاني وعناصره وقبل كل هؤلاء زعيمهم المعتقل منذ شباط /1999/ في سجن إنفرادي في جزيرة إميرالي التركية.
فهل تجعل السياسة أصدقاء الأمس أعداء اليوم؟ أم أن لكل زمان أصدقاء وأعداء!!!