السقوط الى الهاوية

خوشناف ديبو
تمثل الأزمة التي تعصف حاليا بالليرة التركية كنتيجة طبيعية لنهج اردوغان في الحكم والإدارة وتفرده في اتخاذ القرارات الاقتصادية، وهو نهج لا يخلق الثقة والأمان لدى أصحاب رأس المال، وبات سببا رئيسيا لتدهور قيمة العملة. ومن المحتمل ان يقود ذلك الى إجراء إنتخابات مبكرة في المستقبل القريب، وتكون بمثابة بداية النهاية لحكمه الانفرادي.
في الواقع، لا يمكن ربط تدني قيمة العملة بالعوامل الاقتصادية فقط، إلا انها عوامل هامة وحاسمة. منها على سبيل المثال التضخم وسعر الفائدة. فزيادة سعر الفائدة تساهم في كبح جماح التضخم وإستقرار أسعار السلع والخدمات، وإنخفاضه يقود الى تعزيز النمو. وهنا بالذات يبرز دور البنك المركزي، الذي يقوم بتحديد نسبة معينة للتضخم لا تتجاوز عادة حد 3-4 ٪، حيث تستقر قيمة العملة عند إقتراب التضخم من هذا الحد، وتتدهور كلما ابتعدت عنه. 
مهمة البنك هي اذن إدارة التوازن بين التضخم والنمو، فعندما يرتفع التضخم يقوم بتطبيق سياسة تشددية من خلال رفع أسعار الفائدة، وحين يبدأ النمو بالتراجع، يقوم بإنتهاج سياسة تخفيفية من خلال خفض أسعار الفائدة.
ضمن هذه الأطر، يمكن بإعتقادي تفسير أزمة الليرة التركية وتدني سعرها الى مستويات قياسية، إذ خسرت من قيمتها منذ بداية العام نحو 43 %. لكن يبدو ان رئيس تركيا المغرور لا يود ولا يقبل إستشارة احدا بخصوص المطالب الداعية الى ضرورة تغيير المسار الإقتصادي. فرغم تزايد نسبة التضخم التي اقتربت حدود 20%، فقد اوعز اردوغان الى بنك بلاده المركزي بخفض معدلات الفائدة، وذلك الوقت الذي بدأت فيه البنوك المركزية في العالم التوجه نحو رفع معدلات الفائدة!
ويراهن او ينطلق اردوغان في نهجه هذا من الفرضية القائلة، بأن خفض سعر الفائدة يقود الى زيادة عائدات التصدير وتنشيط الإنتاج وتحسين او إنعاش القطاع السياحي، باعتبار أن العملة المنخفضة يدفع الصادرات الى الصعود، وتدفع نسبة الفائدة المنخفضة أصحاب المدخرات لإستثمارها في الإنتاج. السؤال الجوهري هنا، هل تم حقاً الحد من تدهور وإنحدار الليرة الى القاع؟
ومن هنا يتم الترويج لـ”نموذج اردوغان” الاقتصادي وتضخيم انجازاته، استنادا على تسجيل معدلات نمو مرتفعة لقيمة الناتج المحلي الإجمالي في تركيا. والناتج المحلي مؤشر يشمل كافة البضائع والخدمات المنتجة في بلد معين، ويستخدم لتقييم الأداء الاقتصادي، ولكنه في نفس الوقت يحتوي على قيم لا تنتمي الى الاقتصاد المنتج. فعائدات ماكينات القمار واليانصيب وأنشطة المتعة والدعارة وتجارة المخدرات ومضاربات اسواق المال وكافة الأرباح الطفيلية الأخرى، تدخل أيضا ضمن هذه القيم! كما أنه مؤشر لا يأخذ بعين الإعتبار مسألة الرفاهية والمساواة في توزيع الدخل ولا يخلق اماكن عمل او وظائف جديدة، ولا يساهم بشكل فعال في كبح جماح التضخم، ولا يملك قدرة الحفاظ على قيمة ثابتة للعملة المحلية. لذا فأن زيادة قيمة الناتج المحلي في الحالة التركية ما هي سوى أرقام على الورق، ليست لها اهمية كبيرة.
في السابق وحتى سبعينيات القرن الماضي، لم يكن احدا يحتسب أرباح القطاع المالي كجزء من اجمالي الناتج المحلي لسبب بسيط، هو ان البنوك لا تُنتج سلعا. لكن بعد ازدهار الرأسمالية النيوليبرالية، باتت كل فقاعة تجلب الأرباح امرا ممتعا يجلب السعادة والفرح، على الرغم أنها كانت تخلف لاحقا او تخلق أزمات مالية مدمرة. ولعل من المفيد هنا التذكير بمفهوم الفقاعة، التي تمثل ازدهار اقتصادي طارئ لفترة زمنية محدودة، دون أن تستند الى قاعدة إنتاجية متينة قادرة على توليد الدخل المنتظم والاستمرار في إنتاجه على أسس دائمة ومتواصلة.
نموذج اردوغان الآنف الذكر والمستند على مركزية نظام الحكم الرئاسي، لم يعطي النتائج المرجوة، وقد تنبأ حامل جائزة نوبل للاقتصاد بول كروغمان في عام 2018، بأن التجربة الاردوغانية ستقود عجلة الاقتصاد نحو الهاوية وسماها بـ”دوامة او دائرة الموت”، والتي تتجلى في إنتشار إفلاس الشركات، وتزايد نسبة البطالة وتقليص الاستهلاك المحلي، وبالتالي إضعاف ثقة المستثمرين. كلها عوامل تضع العملة تحت ضغوطات هائلة وتقودها نحو الهاوية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…