ماجد ع محمد
يبدو أن بعض النفوس الضعيفة لم تشبع مِن مشهد الخراب والدمار الذي طال تقريباً معظم البنية التحتية ومجمل نواحي الحياة في سورية، ولا ارتوت من متعة الفُرجة على معاناة المواطن السوري على مدار عشر سنوات، لذا بودها إستكمال التخريب من خلال زرع وترسيخ القيم السلبية في المجتمع إمعاناً في إذلال المواطن والإساءة للشعب السوري ككل، وذلك عبر نشر ثقافة الإتكالية بين الناس وحصر تفكيرهم الجمعي في كيفية الحصول على سلة غذائية بدلاً من فتح آفاق العمل والمشاريع الإنتاجية أمامهم.
فبعد ذكر مساعي مَن أشرنا إليهم في الأعلى ممن يودون تدمير ما تبقى من القيم المجتمعية في البلد، وللمضي في المقارنة بين أحوالنا كبشر مع بعض الكائنات في المعمورة وخاصةً ما ورد في حكاية صاحب البقرة، وددنا هاهنا الإستعانة باستهلالات اخواننا الحكواتية كقولهم: سمعتُ أيها الحضور ما يسمعه النائم في القصور؛ قصة رجلٍ يشتكي من سلوك بقراته في المزرعة،
هذا بالرغم من كل الذي قدمه الرجل للمجتمعين في ذلك المكان، ولكن عند الصحوِ من النوم ومقارنةً بما رأيته في المنامِ مع ما أشاهده في الواقع أمامي، بدا لي أن نظرة بعض الأخوة الأوادم ليست أفضل حالاً من نظرة جيراننا البقر تجاه المجريات الحياتية وما يحيط بهم.
ومضمون القصة تلك يا سادة يا كرام، هو أن الرجل كان لديه قطيع من الأبقار، وقد وفّر لأبقاره كل وسائل الراحة والأمان والصحة، إذ أنه بنى لها حظيرة في مكانٍ مناسب، بحيث لا يحرم قاطنو المكان من الشمسِ، ولا من التهوية الجيدة، وكانت واجهة المسكن باتجاه الجنوب لضمان التدفق الهوائي الكافي والتأكد من دخول الضوء إلى المسكن، كما أنه قام بإعلاء سقف الحظيرة حتى تشعر الأبقاء بالإنشراح وحرية الحركة، ولئلا يشعروا بأن السقف سيطبق عليهم من كثر اِنخفاضه كما هو حال بعض الحظائر العائدة لأصحابها المقترين، والأبواب الحديدية كانت خالية من أية زوايا حادة، وذلك حتى لا تُجرح أيّ بقرة عند المزاحمة والتدافع، وكان الرجل لا يبخل قط بتوفير أدوية مكافحة الحشرات، لئلا تزعج تلك الطفيليات بقراته، ووضع تلك المبيدات في عبواتها الأصلية، وحفر بئر ارتوازي خاص لسكان حظيرته حتى لا يسقيهم من مياه الصهاريج أو مياه الأمطار المجمعة، وقام بتجهيز مساحة مخصصة (صندوق) أي حجرة خاصة بالبقرة الواحدة وفقاً للمعايير العالمية، وجعل أرضية المقصورة مغطاة بالطوب والسجاد لسهولة تنظيفها والتخلص بسهولة من الحشرات والبعوض عبر استخدام المبيدات الخاصة بالجراثيم، ولكن مع كل ذلك فلاحظ الرجل بأن البقرة عندما تكون في الحظيرة لا تنتبه إلى وجود الحظيرة ذاتها، ولا تعير أي انتباه للسقف الذي يحميها من حر الصيف وزمهرير الشتاء، ولا يشغل بالها المعلف الذي يوضع فيه علفها الجيد، كما أنها لا تنتبه إلى المصرف الصحي في الحظيرة والتي لولاها لغرقت البقرة مع رفيقاتها في البول الصادر عنها وعن قريناتها، فهي حسب وصفه تهمل كل ذلك ولا تنظر إليها بعين الأهمية قط، ويبقى كل ما يشغلها هو العلف، وكل هذا لأن الغريزة تسوقها، ولا تعرف تلك الكائنة أهمية البنية التحتية التي لولاها لكانت عُرضة للتهلكة في أي وقتٍ كان.
وحاشا معشر البشر من التشبيه بتلك الكائنات التي تمشي على أربعة، إلاّ أن هذا لا ينفي بأن ثمة دراسات علمية تشير إلى أن الإنسان والحيوان يشتركان في الكثير من السلوكيات، وخاصةً مَن يقيمون في بيئة واحدة، وفي هذا الصدد ثمة دراسة نشرت في مجلة Science، وكتب عنها محمد الحداد في22 يناير 2021 تحت عنوان “الإنسان والحيوان في عيش مشترك وعادات متشابهة”، وجاء فيها بأن “العوامل البيئية لها تأثير رئيسي على تحديد سلوك المجموعات البشرية والأنواع الحيوانية في البحث عن الطعام، على الرغم من خلفياتهم المختلفة جداً”، كما أن هنالك مشتركات أخرى بين البشر والكائنات غير الناطقة فيما يتعلق بالإنتماء للجماعة والتفكير بهمومها والتعاطف مع الآخرين والتكاتف معهم إبان المحن والمخاطر المحدقة بالجماعة، مثل قول أحد الكتاب بما معناه إن شعور الإنتماء للجماعة شعور راقي لا يقتصر على بني البشر وحدهم، إنما هو موجود لدى بعض الحيوانات أيضاً، كما أن الأنانية الموجودة لدى بعض الحيوانات يمتاز بها بعض البشر.
ويؤسفنا القول بأنه كما هو حال البقرة في الأعلى التي لا يشغلها أي شيء غير الذي يوضع أمامها على المعلف، فإن هناك مَن يحاول ربط حياة الإنسان السوري بالسلة الغذائية وجعلها في المقام الأول لدى الناس، إلى درجة جعل تلك الفئة لا تنشغل قط بالمشاريع التكتيكية، وتغدو غير معنية أبد بالمشاريع الاستراتيجية، وأن لا تلتفت إطلاقاً للبنية التحتية، وعلى ضرورة أن يبقى جل اهتمامهم منصباً على الخدمة الآنية المرتبطة بالسلة الغذائية، وذلك من خلال العمل على حصر كل شغفهم بالقفة الغذائية التي تحجب عنهم رؤية الأساسيات، وتدفعهم للإنشغال الدائم بالآنيات، مع العلم أن الاهتمام بالآنيات ليس بخطأ إذا ما كان فعلاً هنالك معارك تجري في منطقة ما، أو في الجوار أو على مقربة من المجموعات السكانية، ولكن أن يبقى هاجس الإنشغال بتلقف المعونات من المواد الإستهلاكية هو المسيطر حتى بعد توقف المعارك بشهور وسنين فهنا المثلبة الكبرى، وحيث سيظهر حينها بأن هاجس اغتنام السلة تعمَّم في المجتمع كثقافة جديدة وغير محمودة مستقبلاً، ألا وهي ثقافة الكسل والتعكز والاتكال، وإنتظار مَن يأتي ويقدم الغذاء في القفة الشهرية، وذلك بدل التفكير معهم ولأجلهم بآليةٍ ما تساعدهم على الإنتاج والعمل والتصنيع والاعتماد على الذات عوض استجداء المعونات من هذه الجهة أو تلك.
وبالإضافة إلى ما ذكرناه للتوِ فهناك موضوع جَسيم ويمكن استغلاله من قِبل الأطراف السياسية التي لها قوات عسكرية في الأقاليم السورية أو ما تسمى بمناطق نفوذ القوات الأجنبية حالياً ولاحقاً، ألا وهو موضوع الولاء التام بناءً على المِنح والعطايا والهبات، وحيث أن إنتشار ظاهرة التوكل على ما تقدمه الجهات المسيطرة في عموم المناطق السورية واستساغها لذلك العمل، يعني بأن الجهات المسيطرة بمقدورها التأثير على آراء وأفكار كل من يقيمون ضمن مناطق نفوذها، وبالتالي الضمان التام بأن مَن يتم تغذيتهم شهرياً بتلك السلات مع منع وجود أي طرف آخر منافس لهم يقدم الخدمات المماثلة بأنهم صاروا مؤيدين دائمين للجهة التي تقدم لهم تلك المواد، بينما بخلاف ذلك فإن بدأ الناس تدريجياً بالسعي والإنتاج والاعتماد على الذات والتوجه إلى ميادين العمل بجد ونشاط وحب كما هي طبيعة الإنسان السوري، بدل الإصطفاف في طوابير المعونات، هذا يعني بأن آراءهم لن يتم التحكم بها بسهولة من قِبل المتحكمين بصنابير المعونات، وأن ذممهم لن تُشترى من قِبل الإستغلاليين مِن أصحاب القطرات الشهرية أو النصف شهرية.