فدوى حسين
بهذه العبارة يستهل الزعيم الكردي مسعود بارزاني كتابه الصادر حديثاً بعنوان -للتاريخ- لتكون هذه العبارة الاهدائية رسالة مفتوحة ذات دلالات عميقة، بدءاً من عنوان الكتاب، مروراً بمحاوره و عناوينه الفرعية. ليكون الكتاب وثيقة تاريخية،وتاريخاً، يدون من قبل شاهد على أحداثها، وصانع لها، ووساماً لمن شارك في رسم جغرافيا هذا التاريخ، ولمن لهم بصمة خالدة.
أولئك الذين لا ينحنون. الابطال والمناضلين المؤمنين بصدق وأحقية قضيتهم، الذين لا يساومون على حقوقهم، ويبذلون في سبيله الدم والروح دون تردد.
للتاريخ. عنوان الكتاب الذي يعد بحق وثيقة تاريخية دونها من عاصر حقبة تاريخية هامة في التاريخ الكردي، بل وشارك في رسم ملامحه على صفحات التاريخ الكردي في جغرافياه المتعلقة بالجزء الجنوبي الكوردستاني الملحق بدولة العراق.
يبدأ الكتاب بمقدمة للزعيم الكردي مسعود بارزاني يوجز فيها تدوينة لهذا المنجز التاريخي، ليتركه وثيقة للتاريخ، وللأجيال القادمة، وتذكيراً لكل من يجهل التاريخ الكردي، أو يعلم وينكر، ولكل باحث عن الحقيقة، واضعاً النقاط على الحروف.
ليس بغريب على الزعيم الكردي هذه المبادرة وهو البوصلة الكردية، ومركز الثقل كردياً وإقليمياً ودولياً. اليه تتجه الانظار، وعليه تعقد الآمال.حمل السلاح منذ صغره واختبر حياة الكهوف والجبال وشظف العيش وقسوته. مدافعاً عن ترابها، مطالباً بحقوق شعبه، متقدماً صفوف المقاتلين البيشمركة الابطال، مسطرين لهذا التاريخ الذي دونه ووثقه بين دفتي هذا الكتاب. ناضل وقاتل وتفاوض باسم شعبه مكملاً رسالة من سبقوه من القادة، حاملاً لواء المجد ليسلمه لمن بعده إلى أن يحق الحق وتنال الامة الكردية حقوقها، وتقوم الدولة الكردية، ليستظل في ظلها الكردي بكرامة، وينام قرير العين بعد كل الاهوال والمصائب والابادات التي تمت بحقه، ليكون خير من يوثق هذه الحقبة التاريخية .
يضم الكتاب سبعة عشر عنواناً فرعياً وملاحق،ووثائق، وصور وخرائط، تدعم ما ورد فيه وتؤكده.
يتناول بداية تجزئة الجغرافيا الكردية بين الامبراطوريتين الصفوية والعثمانية ١٥١٦حيث كانت مسرحاً للصراع بعد معركة جالديران. ومحاولة كلتا الامبراطوريتين صهر الأمة الكردية بثقافتها، ولغتها، وقوميتها في بوتقتها وإنكار وجودها، وحقوقها. فما كان من الكرد الا الانتفاض وإعلان الثورات المتلاحقة والمتصلة وما كان من مغتصبي أرضهم وحقهم إلا الرد بكل قوة لوأدها وعدم انتشارها، فكانت تتعرض لفترات مد وجذر لكنها لم تخب بوجود قادة أشداء في طلب الحق ومنهم الشيخ عبدالسلام البارزاني، احمد البارزاني،محمود الحفيد و الخالد مصطفى البارزاني. يسير خلفهم وعلى خطاهم بيشمركة أبطال أشداء في طلب حقوقهم والسعي لإحقاقها.
ويقسّم البارزاني الحقبة الزمنية من بداية تقسيم أرض كردستان بموجب اتفاقية سايكس بيكو حتى سقوط نظام صدام حسين البعثي ومرحلة وصول المعارضة إلى دفة السلطة مركزاً على أسبقية وجود الأمة الكردية على أرضها التاريخية على وجود هذه الدول الناشئة، والتي تم الحاق أجزاء كردستان المقسمة بها، واستمرار هذه الانظمة في قمع أي حركة كردية تحررية، طلباً لحقوقها.
يركز الكتاب على الحقبة الزمنية الخاصة بجنوب كردستان الملحق بدولة العراق التي نشأت عام ١٩٢١ و تم تعيين الأمير فيصل ملكا عليها دون مراعاة خصوصية شعوب هذه المنطقة ليعود الشعب الكردي لإشعال نار الثورة من قمم جبالها. حتى عقب إسقاط الملكية وإعلان النظام الجمهوري حيث استمرت الممارسات بحق الكرد مع الانقلابات الكثيرة وتغيير أسماء من تولوا السلطة إلا أن الموقف من القضية الكردية بقي ثابتاً. فكانت ثورة ايلول وأحداثها المتلاحقة على مدى سنوات لتكلل باتفاقية ١١ أذار ١٩٧٠وفيها الاعتراف بالحكم الذاتي للكرد في كردستان الجنوبية، ولكن كالكثير من الاتفاقيات والوعود بقيت دون تنفيذ بل والعودة للقتل والتهجير والابادة.
ويؤكد ان المعارضة العراقية والتي أصدرت بيانا ختاميا في اجتماع لندن ٢٠٠٢ بعد إسقاط نظام البعث والوصول الى السلطة ووضع دستور جديد للبلاد والتعهد بحماية جميع الحقوق ونشر الديمقراطية والاعتراف بحقوق كافة المكونات كانت ممارساتها العدوانية و الاقصائية لا تختلف عما سبقها، بل التعامل مع كردستان العراق كتابع وليس شريك لها في السلطة والاستحقاقات السياسية والاقتصادية فما تغيير بعد ٢٠٠٣هو الوجوه وليس السياسات واستلام الشيعة بدل السنة للسلطة والتحكم وممارسة السلطوية التي كانت تمارس عليهم، و مناصبه العداء لكردستان وشعبها وحقوقها. فقد تم تعطيل المادة ١٤٠من الدستور الخاص بالمناطق المتنازع عليها ومخالفة أكثر من ٥٥مادة دستورية، وتسهيل دخول عناصر داعش و التغلغل في الأراضي الكردية، والامتناع عن تقديم أي دعم لقوات البيشمركة في قتالها ضد داعش، بل ذهب البعض منهم لمنع التحالف من تقديم المساعدة والدعم، وقطع حصة الاقليم من مستحقاتها من الموازنة العامة ومحاربة سكان الإقليم في لقمة عيشهم مع الإشارة للدور الأمريكي السلبي في دعم العبادي وممارساته كل ذلك لتقويته في سبيل الوقوف في وجه إيران وفق حساباتهم.
بغداد التي تتهم كردستان أنها تأخد خيرات العراق بينما هي من تأخذ نفط كردستان وتعتاش عليه وتحاربه بها. لذا تحاول توجيه الأنظار عن فشلها داخلياً وخارجياً، وانتشار الفقر والبطالة والفساد وانعدام الخدمات في مدنها، الى توجيه الاتهام الى كردستان التي تشهد يوما بعد يوم ازدهارا وعمرانا وتطورا في كافة المجالات حتى أصبحت تضاهي كبريات المدن العالمية في ازدهارها وانتشار الامن والامان والتعايش كل ذلك بما لا يتجاوز ١٢%من الموازنة والتي تم قطعها منذ ٢٠١٤بينما العراق تاخذ اكثر من ٨٧%من الموازنة ويعاني سكانها الفقر والفاقة وانعدام وانهيار البنى التحتية. فكل هذه الممارسات عبر مئة عام من القمع والقتل والتهجير ومناصبة العداء للشعب الكردي وحقوقه كانت الدافع الاكبر لاجراء الاستفتاء، وحق الشعب في تقرير مصيره، والمطالبة بالاستقلال. فالوحدة القسرية مع العراق في ظل هذه الممارسات لن تكون في صالح جميع الأطراف.
ويتابع الزعيم الكردي الحديث عن كيفية إقرار إجراء الاستفتاء، وتشكيل اللجان والوفود لزيارة بغداد ودول المنطقة واوروبا واميركا لشرح وتوضيح الحق الكردي، والأسباب التي دفعت الشعب الكردي لهذه الخطوة التاريخية. فكان الاستفتاء. وكانت نتائجه المبهرة، وبل والصادمة للكثير من اعداء الكرد بل،وبعض الكرد المتآمرين على أبناء جلدتهم. فكانت ردة الفعل الحصار ومحاولة خنق الاقليم وانهاءه. لكن بإرادة شعب كوردستان وقيادته الحكيمة وبسواعد البيشمركة الابطال استطاع الإقليم الوقوف في وجه كافة المخططات، واستعادت مكتسباتها شيئا فشيا.
يتحدث البارزاني بلغة بسيطة سلسلة قريبة تخرج من القلب للقلب حديث أب لابنائه وأحفاده من بعده. يروي لهم محطات حفرت و تحفر عميقا في الذاكرة الكردية.
ولعل أهم النقاط التي لفتت انتباهي وأنا أقرأ كتاب للتاريخ هي:
اولا : الحركات الكردية التحررية عبر تاريخها أكدت على المطالبة بحقوقها وحقوق المكونات الاخرى، الدينية والاثنية، دون تمييز. فهذا الشيخ عبد السلام البارزاني حين توجهه للقاء مبعوث القيصر الروسي ١٩١٤ذهب برفقتة مار شمعون الاشوري واندرايك باشا الأرمني للمطالبة بتأسيس دولة فيدرالية تضم الكرد والارمن والاشوريين تحفظ حقوقهم وتصون كرامتهم. وكذا مشاركة كافة المكونات العرقية والدينية في كافة الاجتماعات، والقرارات المتعلقة بالإقليم. وبرز ذلك جلياً في الاجتماعات التي سبقت الاستفتاء واقراره من قبل ممثلي جميع المكونات والأحزاب. فكردستان هي وطن لجميع مكوناتها دون تمييز.
ثانيا: تبين من خلال انسحاب القطع العسكرية في الجيش العراقي من الموصل بطلب من قادة بغداد، وتسهيل دخول داعش لسنجار والمناطق الكردية، والتوجه نحو اربيل، وما تلا الاستفتاء من انسحاب بعض قوات البيشمركة والسماح لقوات الحشد والجيش العراقي دخول كركوك وقتال البيشمركة. أن ولاء هؤلاء المقاتلين ليس للوطن بل لأشخاص يوجهونهم حسب المصلحة والحاجة وتؤثر مصالحها على مصلحة الوطن والمواطن .
ثالثا: لم يسع البارزاني الى مجد شخصي من خلال الإصرار على إجراء الاستفتاء كما ادعى بعضهم. بل كان ينفذ تفويضاً شعبياً له بعد ان تم اقراره من قبل جميع الأحزاب والمكونات. الاستفتاء الذي جاءت نتائجه مؤكدة لذلك. ومع عدم إعطاء أي ضمانات من الدول التي أيدت حق الشعب الكردي في إجراء الاستفتاء إلا أنها لم تعط أي ضمانات بديلة لتأجيله.حيث اكد الزعيم البارزاني ان اجراء الاستفتاء ليس مطلباً شخصياً، بل هو حق شعب لا يمكن الغاؤه دون العودة اليه وموافقته. وفي زيارته الى امريكا لطرح القضية الكردية وحق إجراء الاستفتاء وشرح الاسباب التي دفعت الكرد لذلك. رافق سيادته ممثلين من الأحزاب الرئيسية، والمشاركين في الحكومة. ليكونوا شهوداً على ما يجري، وعلى اطلاع بكل ما يحدث. فلم يكن تصرفاً و قراراً فردياً سلطوياً دكتاتورياً بل قراراً جماعياً، و مسؤولية جماعية، وضع على عاتقه المضي فيه. فكما ذهب سابقا مع المرحوم المام جلال الطالباني الى بغداد للتفاوض مع النظام من أجل الحصول على الحقوق الكردية متذكرا كل الجرائم الوحشية التي ارتكبها النظام بحق الكرد ص٤٣ فيقول :سرنا وسط نهر من الدماء وصافحنا الايادي الملطخة بدماء شعبنا في سبيل فتح صفحة جديدة وتحقيق السلام. ووصفه بالقرار الأصعب في حياته. كذلك كان المضي لإجراء الاستفتاء لإحقاق الحق الكردي، وتكون نتيجة الاستفتاء وثيقة تاريخية وحجر أساس لبناء الدولة الكردية .
حمل عبء هذه المهمة بقلب كبير. يطوف الدول ذاكرا أسبابها، مستعرضا ما تعرض له الكرد خلال المئة عام مع الأنظمة المتلاحقة من قتل وابادة، ترحيل وتهجير وتغيير ديمغرافي للمنطقة، ونهب خيراتها وإسكان اهلها في المجمعات السكنية القسرية، واخذ قراهم، والاخفاء القسري لاكثر من ١٢الف من الكرد الفيليين، وتهجير أكثر من ١٠الاف اخرين الى ايران، وتجريدهم من جنسياتهم، وإبادة أكثر من ٨الالف من البارزانيين، ودفنهم أحياء في مقابر جماعية. وعمليات الانفال التي ذهب ضحيتها أكثر من ١٨٢ ألف كردي، وقصف المدن الكردية بالمواد الكيماوية وكانت حلبجة الاكثر تضررا حيث سقط فيها أكثر من ٥,ألاف شهيد. كل هذا واكثر ضد شعب مسالم لم ينهب ويسرق، لم يقتل او يغدر. مطلبه الوحيد العيش بكرامة على أرضه التاريخية. لذا لم يستطع البارزاني أن يدير ظهره لكل هذه المآسي، ويتنازل أو يساوم على المطالبة بحقوقهم. فوحده الكردي الذي لا ينحني يدرك ما تعرض له شعبه.يشعر بتباطىء دقات قلوب من دفنوا أحياء حتى خبت ارواحهم، ويسمع صرخات وأنين ارواحهم وهي تحترق. يشعر بوخز السكين وهي تنحر الرقاب. وحده الكردي يقطر قلبه دما لانفطار قلوب أمهات تركن صغارهن تحت شجرة أو في حفرة لتنقذ اخوة لهم. وحده الكردي يرعبه هدير الطائرات تجوب السماء .و حين يشم رائحة التفاح لا يتبادر إلى ذهنه غير الجثث الملقاة في الازقة والساحات والعربات في حلبجة الشهيدة .لذا كان لا بد من السعي والاستماتة في سبيل الحصول على الحق الكردي المشروع.
هذا هو إيجاز لقراءة في كتاب – للتاريخ – الذي كتبه صانع التاريخ الكردي البيشمركة مسعود بارزاني.