إبراهيم محمود
أخي الذي كنتَ أخي الذي ستكون، يا الشاعر الراحل باسمه الأليم هادي بهلوي
كغيرك ولدتَ، عشت، وها قد رحلت كغيرك نهائياً.
كغيرك كبرتَ ورأيتَ ما رأيت، وأكلت وشربت، ولهوت، وسعيت ما استطعت سبيلاً، ومرضت وقاومت، ليكون رحيلك الأبدي مأخوذاً بوجع مرض أوهنك داخلاً، وأقلقك بصراً خارجاً.
كغيرك، حلمت، تخيلت، ضحكت، بكيت، خططت، نظرت إلى النجوم عالياً وقطفت حزماً حزماً متألقة منها، وإلى جهات أرضك المنكوبة منجرحاً، ثم نزلت في مقامك الأبدي تحتضنك تربة تعلم وجهَك الكردي وروحك الكردية ولسانك الكردي طبعاً.
ولم تكن كغيرك بالتأكيد، كما لو أنك لست أنت، إنما ما اشتهيت بنبرة روحك الشعرية ونبض خطوتك الدقيقة، ورؤيتك اليقظة، لأن تكون هادي بهلوي الآخر، وليس من نسخة تشبهه، إنما صورة طبق أصل اسمه المحفوظ، وصورته المحمية.
وها أنت في يوم ثلاثائك، كما علِمتُ ” 18-8/ 2021، تجمع شتات جسمك المتداعي، وتمضي على ورقة حياتك مؤشراً ببدء حياة جديدة، حيث يغيب جسمك بكل حمولته من أوجاع وآلام ورغبات لم تتحقق، وأمان متقطعة، ويرتقي في سجل الزمن الآخر اسمك الشاعر، واسمك الذي يحميك من آفة النسيان، ويودعك ما لا يمكن تذكره، لأنك طوع التذكر تبقى.
من قرية ” Girzîn ” التي احتوتك طفلاً، إلى قامشلو، التي عرفتك في تناثر سنّي عمرك العتيد الرشيد الجهيد، كان لعمرك صولاته وجولاته، كان لأناملك حضوراتك في تسطير ما يؤمّن على روحك بقصائد مغناة، وأخرى مقروءة، تسمّيك شاعر لغتين، إنما للكردية فيك القِبلة الناطقة بكردية جلية السمات.
لا أظن أخي هنا وهناك، أن صوتك سيخيب ظنك، بقِصَر عمر، وقد أودِع مدداً مؤمَّناً عليه، لا ظن أن خطواتك التي تعرفها مسافات جهوية، وحضورات مرئية، ستمحو آثارك التي انعجنت بأوجع حياة، وأرواح كثيرين كثر ممن هم ناطقون بلغتك الكردية، أو كنت تعيشها بكامل جسدك، وتمنح أي ريح رملية، غبارية، بأن تمس ولو محل بوصة من أي خطوة، لك فيها ما يبقيها بكامل نقشها الأرضي.
أخي هادي
لقد عشتُك، وكان في مقدور جسدك أن يستمر أكثر، ولكن نوائب الزمان والمكان، والحرقة الخاصة بروحك، وترقب المنشود، كان تقريباً للحظة الرحيل النهائي، إنما مع التأكيد أن ما عشته بمحتواه الكيفي أثمر ظلاً لا تخطئه العين، وصوتاً لا تخطئه الأذن، ونبرة كلام، لا تخطئه الكردية، لتتجاوز محليتك كورنيشية إثرها.
أخي الشاعر الشاعر هادي
لا أخفي اعترافاً أنني كنت أتابعك وأنت تكابد كل موجة ألم، سفورها العاتي، كما لو أنها كانت تقدّر صلابة مجاذيف روحك، وكل فجيعة وطنية، كردية، إنسانية، كما لو أنك لم تسلّم جسمك المنكوب سريراً، وتختفي بين جدران أربعة، حيث أطلقت لخيالك رغم مأساتك المضاعفك، وأنت تتنقل بين جهات وجهات، معلِماً من يريد أن يعلم ما يكون عليه إنسانك الذي هو أنت، وشاعرك الذي تكونه، وروحك التي تسميك بصورة تحفظها جهات أرضك، ناسك، أهلك، أحبتك، كما يليق بالكلمة المستشرفة شعراً أن تعوم في الفضاء المحرر من الحدود ومتاريسها .
أخي الراحل وغير الراحل هادي بهلوي الشاعر الممتد في الزمن
أكتبك عن قرب وعن بعد، كما لو أنني عشت معك، بصمتي الخاص، وكنت جاري الكورنيشي/ البنغلاديشي في مستهل قامشلو جهة جنوبها، وكلنا شتات وطوع ما يفاجىء ويوسّع نطاق الفجيعة عائلة، أقارب، وأصحاباً .
أكتبك ولست ببعيد عني، أو لست ببعيد عنك، وبيننا مسافة تعرفها الجغرافيا، ويطويها القلب، منحياً إياها جانباً، بيننا رصيد لقاءات، سلال من الصور والمشاعر الروحية الكردية النشأة لا تنفد ولا تبلى.
أكتبك وأنت خارج حدودك البيتية، المحلية، متحرراً من وطأة المرض ووحشة العزلة القسرية، ترى أكثر مما تُرى. يبكيك أهلك بدءاً من عائلتك بكامل أفرادها، أنى كانوا، بدءاً من أقربائك، كما لو أنهم يمشون في جنازتك من وراء عشرات، مئات، آلاف الأميال، وللعذر أكثر من تصريف من عوادي الزمن، حزانى هم أحبتك، أصحابك، محبو صوت كلماتك المرنانة صحبة ألحان شهدت بصعودك في أعالي المعنى .
أراك وتراني، دونها، ما كانت الكلمات هذه، كما لو أن طيفك المعافى والطليق القلب، شاهد حي على ذلك. أرى من هم في القرب منك، ومن هم في البعد.. حيث تكون أكثر من واحد على وقع ذخيرتك من بديع القول الشعري، ونفحة الكردية العصية على الترهل والاحديداب والتباطؤ والتراخي .
وأنت الآن متَّجه بك إلى ثراك الثرى الأبدي، دم حيث تصعد وتصعد وتصعد بروحك التي لا تخطىء أي عين في تهجئة لغتها بحروفها مجتمعة، وباسمها ذي النقاء، الشاعر: هادي بهلوي!
دهوك، في 18-8/ 2021