قراءة تحليلية.. حول خلافات نخب الكرد السوريين.

عصام حوج
الانقسام الحاد الذي يشهده الفضاء الإلكتروني الكردي السوري مؤخراً، وبشكل متكرر، تجاوز حالة تعدد الآراء الطبيعي والضروري في أية بنية مجتمعية، ويكاد يتحول إلى  نوع من القَبَليّة السياسية التي تعيد إنتاج نفسها بعد كل حدث جديد، ينخرط فيه قسم غير قليل من النخبة السياسية والإعلامية الكردية على طريقة : (ما أنا إلا من غزيّة…)  هذا النوع والمستوى من الانقسام، لدى نخبة شعب له قضية ضائعة في دهاليز التاريخ ومتاهة الجغرافيا السياسية، ودفع ما دفع من أثمان، وإن كان يعكس في العمق قلقاً عاماً ومشروعاً من احتمالات تطور الوضع سلباً فيما يخص الكرد السوريين، الا انه في الوقت نفسه يعكس هشاشة هذه النخبة، وتآكلها من الداخل، وهو بمثابة اشارة واضحة إلى عقم معرفي يهيمن على جزء من العقل السياسي الكردي، و هو قبل ذلك دلالة على فهم خاطىء لماهية حقيقة الوضع الراهن، واحتمالات تطوره، خصوصاً، وإن المتابع قلما يجد من يكلف نفسه في بحث جذر أية مشكلة، أو موقف، وأبعادهما،
 حيث تقتصر المعركة كل مرة على تراشق اتهامات، يتجاور فيها الواقعي مع المفبرك، والحقيقي مع الادعائي، والراهن مع التاريخي، وخلط أوراق يعيد إنتاج المشكلة ويعمقها، ودون أية قيمة مضافة، كما هو مطلوب وجدير بأي عقل نقدي، وكما هو مفترض في خطاب  سياسي يتعلق بشعب يتعرض لخطر وجودي، في الجحيم السوري الراهن.
تصريح السيد عبد الحكيم بشار حول ما يجري في عفرين ليس الأول، ولن يكون الأخير، وهو موقف (طبيعي) لأي كيان بات رهينا لسياسات الائتلاف، ومازال يرى فيه ممثلاً للشعب السوري، رغم كل ما حدث، والمشكلة لاتكمن في هذا التصريح بحد ذاته، ولا في تصريح السيّد آلدار خليل الاستفزازي عن (بيشمركة روج) قبل مدة، والذي خلق انقساماً ومعركة مشابهة لما خلقته تصريحات بشار هذه الأيام ، فهذه التصريحات هي مجرد تحريك المياه الراكدة، وتفريغ شحنات واحتقانات في غير موضعها،  حيث كل طرف يجد المشكلة لدى الطرف الآخر… لسان حال (الأنكسي) يقول لولا الإدارة الذاتية لكان وضع الكرد بألف خير، ويأتي الآخر ويدعي  أنه لولا (الانكسي) لكان وضع الكرد على ما يرام، وحقيقة الأمر، وبغض النظر عن تقييم السياسات العامة لهذا الطرف أو ذاك، فإن المسألة أعمق من هذه التصريحات والاتهامات المتبادلة، التي تثير الزاوبع في عالم الملتيميديا، وفي الشارع الكردي المغلوب على أمره، مثله مثل كل السوريين.
جذر المشكلة – الخلاف
الصراع بين الطرفيين الكرديين، هو في الأساس صراع على تمثيل الكرد السوريين،  وهذا الانقسام الحاد، لابل هذا الإصرار على الانقسام وتعميقه، من قبل قيادات أساسية في الطرفين، يفترض وجود فائض قوة لدى كل منهما، وعدم حاجة أي منهما للآخر، وإذا اردنا أن نعرف مصادر هذه القوة، فينبغي أن نعرف على من يعول- وعلى ماذا يعوّل كل منهما؟     بمعنى أوضح، لايمكن فهم كامل أبعاد هذا الانقسام، إلا من خلال مسألة التدويل، وما تخلقه من أوهام، فالعقل السياسي الكردي عموماً ومنذ ثلاثين عاماً يظن بأنه كلما ازداد مستوى التدويل، كلما اقترب الكرد من نيل حقوقهم – كان الكرد العراقيون قد دفعوا ثمن هذا الفهم ثلاث مرات متتالية في عقد التسعينات من خلال هجرة مليونية، وحرب بينية  لمرتين متتاليتين، راح ضحيتها الآلاف، ولم تنته آثارها حتى الآن –   وفي الحالة الكردية السورية هناك مستوى أعقد من التدويل، كونه في ظل صراع دولي محتدم، وخصوصاً المد والجذر القائم في العلاقات الأمريكية – التركية منذ ما يزيد عن خمس سنوات، واحتمالات واتجاهات تطورها، فالمجلس الوطني الكردي كما هو معلوم، جزء من الائتلاف الذي بات وبشكل مكشوف أداة تركية، أما تيار الإدارة الذاتية فرهانه الأساسي على بقاء الامريكي، بدلالة المناشدات المتكررة من قبل بعض قادته لاستبقاء الأمريكي، لا بل وزيادته، من دون أي مبرر ميداني، والسعي إلى الحصول على اعتراف سياسي، وفي الحالة الكردية السورية، هناك مستوى أخطر بسبب حجم ووزن المسألة الكردية في سوريا قياساً إلى وزن الكرد في البلدان الأخرى ، الذي يتراجع بسبب النزوح والهجرة المستمر من بداية الازمة …
كي لانتجنى على أحد، فإنه  يجب الاعتراف بأنه بالمعنى الواقعي، لا يستطيع  أحد في ظروف سورية الحالية تجاهل وزن القوى الدولية، وعدم التعاطي معها، فالتدويل أمر واقع- اللعنة على من كان السبب -.. ولكن المشكلة تبدأ عندما يتم الرهان على العامل الدولي حصراً، وحرق كل الأوراق الأخرى لصالحه، وبناء أوهام على اساس ديمومته، لاسيما وأن العامل الدولي بهذا المستوى في سوريا موضوعياً هو عامل عابر، وحدوده حسب القرار 2254 هو مساعدة السوريين على التوافق، واستعادة سيادة الشعب السوري، عبر دستور جديد وانتخابات حرة ونزيهة على جميع المستويات، والحال هذه، فإن الأساسي لدى أي طرف سوري، يجب أن يكون ترتيب اوضاعه مع السوريين أولاً، وبالنسبة للكرد السوريين تنطوي هذه المسألة على درجة أعلى من الأهمية .. لماذا؟ لأن الآفاق مفتوحة لحل وطني ديمقراطي للمسألة الكردية في سورية، في إطار حل عام للأزمة ولم يعد بإمكان أحد في سورية تجاهل المسألة الكردية كجزء من المسألة الوطنية السورية،  حيث يمتلك الكرد في  الساحة السورية وزناً نوعياً، سيؤثر ليس على وضع الكرد اللاحق فحسب، بل على تطور الوضع السوري عموماً،  أما اخضاعها للتجاذب الإقليمي والدولي، أي تدويلها، فيفقدها هذه الميزة المطلقة، لابل يصبح وزنها صفراً أمام وزن دولة بحجم تركيا، أو ايران، أو حتى أمام وزن النظام، ومن هنا، فإن كل من يخرج المسألة الكردية من إطارها  السوري، ويجعلها أسيرة الاستقطابات، فإنما يدفعها دفعاً إلى حالة انعدام الوزن، و مرة أخرى، لايختلف الأمر، إن كان يدري بذلك أو لايدري… ولايختلف الامر اذا كان ذلك من الانكسي أو من الإدارة الذاتية، أو في سياق منافسة الطرفين على التمثيل.
أمريكا – تركيا – الكرد والشمال السوري.
تتذرع تركيا بالادارة الذاتية، وعلاقتها مع حزب العمال الكردستاني، في تدخلها في سورية لزيادة نفوذها، وكسب المزيد من الأوراق  في لعبة عض الأصابع وصراع الإرادات الجارية على قدم وساق حول إعادة تشكيل العالم، أي أنها تسعى إلى المزيد من الاستثمار في الأزمة السورية، لامتلاك القدرة على الدخول في صفقات ومساومات مع الكبار، بما يعزز مكانتها الدولية.
أما الامريكي وكما يعلن على الملأ، فيستغل وجوده لإنهاك الروس، وتصفية حساباته مع ايران، وبالإضافة إلى ذلك، واضح انه يحاول جعل سورية مسرحاً لابتزاز تركيا ايضاً، ومنعها من الخروج عن الدور الوظيفي المرسوم لها تاريخياً من قبله،  وإن كان لا يعلن ذلك على الملأ، وذلك عبر تحويل سورية إلى ساحة لتعميق الخلافات الروسية التركية، ومن لديه ذاكرة يجب  ألا ينسى ذلك الإعلان الملغوم من الإدارة الامريكية، وقبل أيام قليلة من التدخل التركي في عفرين، حول تشكيل قوة عسكرية  قوامها 30 ألف فرد تحت امرة الإدارة الذاتية،  الأمر الذي أدى إلى استنفار تركي عام في حينه، واستخدام ذلك الإعلان ذريعة لاحتلال عفرين، والكل يتذكر كيف جرى الاتفاق بين الطرفين الأمريكي – التركي عشية احتلال رأس العين وتل أبيض ، و الآن، بعد تجربة السنوات السابقة من المفروض أن تدرك الإدارة الذاتية، أنه لا الروسي،  ولا الأمريكي – بغض النظر عن الموقف من كل منهما – سيدخل في مواجهة مع تركيا، من أجل الشمال السوري، وأن هذه المنطقة، باتت ساحة صراع روسي أمريكي ، وفي لعبة القط والفأر التي يلعبها الطرفان مع تركيا حول تموضعها في الصراع الدولي، وانتهازية النخبة التركية في الاستفادة من هذا الصراع، ولأن الصراع بين الكبار له سقف أعلى لايستطيع أي طرف تجاوزه في عالم اليوم، فإن المآل الوحيد لهذا الصراع حول سورية ومنه الشمال الشرقي هو الوصول إلى تسوية، وفي التسويات وكما هو معلوم عادة يتم التخلي عن أضعف الحلقات والأوراق . 
ولأن الامر كذلك، فإن على من كان يعد الأيام ، بانتظار استلام الإدارة الأمريكية الجديدة مقاليد الأمور ، ويرسل الرسالة تلو الرسالة إلى الامريكي داعياً إياه إلى زيادة وجوده العسكري، آملاً في توظيف ذلك لكبح جماح النزعة الأردوغانية في التوسع، من المفروض انه يعيد حساباته، بعد الغزل المتبادل  وعملية تدوير الزوايا الجارية بين تركيا وإدارة بايدن، وخصوصاً بعد خلو بيان وزراء خارجية التحالف في اجتماع روما بقيادة بلينكن من أية اشارة صريحة إلى دور قوات سورية الديمقراطية، أما الإشارة الوحيدة المضمرة كانت و حسب ما جاء في نص البيان هو حث (القائمين على احتجاز إرهابيي داعش على معاملتهم معاملة إنسانية في جميع الأوقات، وفقًا للقانون الدولي ) .
وكي لا نفتري على أحد، نقول: الاستفادة من التناقضات الدولية أمر جائز، ومبرر حسب التجربة التاريخية لكل الحركات والبلدان والشعوب، ولكن مثل هذه المحاولة مع دولة مشغولة بهاجس التنافس مع الصين، ووضعت هذه المنافسة في رأس اولوياتها واستراتيجيتها، وباتت تبحث بالسراج والفتيلة عما يساعدها في مواجهة (المعجزة الصينية)  يصبح من السذاجة ان نظن بأن الولايات المتحدة ستتخلى عن تركيا إذا استطاعت، لاسيما وأن هناك تجربة تاريخية مرة مع البراغماتية الأمريكية، المستعدة للانقلاب على جورج واشنطن نفسه، عندما يتطلب الأمر، وخذلان نخب و شعوب وبلدان كثيرة ومنها الحركة الكردية.
اختصر وأقول، إن  كلمة سر الانقسام الكردي، تعود بالضبط إلى أن سياسات الحليفين الدوليين، تؤدي إلى إخراج الملف الكردي من سياقه الطبيعي، من حيث كونه نضالا قوميا – ديمقراطيا مشروعا، إلى مجرد حالة وظيفية، وورقة لتعزيز مواقعهما، وتبرير سلوكهما، وتنفيذ الأجندة الخاصة بهما.. .. وإلا،  فلماذا هذا الإصرار والتكرار على اتهام (ب ي د) بالإرهاب من قبل البعض في المجلس الوطني، ولماذا هذا الاصرار والتكرار من قبل البعض في الطرف الآخر ، على القطيعة مع المجلس الوطني، واتهامه بـ(العمالة) لتركيا، والموقف الدعائي السلبي من جميع الأطراف، باستثناء الأمريكي…..
ليس مطلوباً من النخب الكردية – كما السورية عموماً – أن تصطف مع هذه القوة الدولية او تلك، لا الروسي ولا الامريكي ولا التركي ولا الايراني، بل المطلوب منها قبل كل شيء، ان تحدد موقفها وموقعها ووزنها الفعلي في المعادلة، من خلال برنامج واضح وصريح وواقعي، في إطار الحل السياسي وعملية التغيير القادمة بلا شك، برنامج له حدّان:
الحد الأول : الإقرار بالتعدد القومي في سوريا، وما يتطلبه ذلك بالمعنى الحقوقي، والسياسي.
الحد الثاني: التأكيد على وحدة سوريا أرضاً وشعباً.. والسعي إلى ما يمكن الحصول عليه من حقوق قومية – ديمقراطية في الحيّز الممتد بين هذين الحدين.. ومن ثم البحث عمن يدعم ذلك قولاً وفعلاً، من قوى سورية اولاً، ودولية واقليمية ثانياً في إطار الحل السياسي المنشود على أساس القرار 2254 وتحديد الموقف من الجميع على هذا الاساس.
وقبل أن نختتم، بقي أن نهمس في مسامع، جماعة (الوطنية الشعاراتية)، وبعض النخب القومية العربية التقليدية، في النظام والمعارضة التي تستحضر كل نخوتها الوطنية، القومية، كلما اتى أحدهم على ذكر مفردة الكردي، ونقول: بأن الاهتمام بالمسألة الكردية و الكتابة عنها ومواكبة تطوراتها، ليس شأناً قومياً كرديا فقط، بل هو أيضاً شأن وطني سوري وبامتياز، وإحدى ضرورات إعادة صياغة الهوية الوطنية السورية التي مزقتها النخب السورية عموماً، وبالدرجة الأولى نخب التعصب القومي والديني، وقبل الجميع النخب الرسمية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…