إبراهيم محمود
حاولتُ استدعاء صورته، وهو بحجم إطلالة ضحكة روحية، أعني به الراحل الأبدي إبراهيم خليل ليلى، تولُّد بركو القرية المجاورة لقريتنا، الذي لم يتعد الـ خمسين عاماً عمراً، وقد خرج من تربة حجرية ألمانية الاسم، لم يعد له فيها مكوث يوم ” الثلاثاء، 29-6/ 2021 “. حاولت تخيل صورته من وراء حزمة من السنين: عقودها، حيث أهله جيراننا الأحبة في حي ” كورنيش “، بيني وبينه خمسة عشر عاماً. إبراهيم” سميّ ” يغيب عن الأنظار الآن. تبقى صورة وجهه الطفولي المتألق، ماثلة في مرآة روح أهلية، أتذكر وجوه أخوته الأكبر منه: مروان، آراس، آزاد، كيف هي الآن مغمورة بالحزن الأخوي الأعمق غورا استثنائياً. لا تفارقني كلمات ابن عمه: الصديق عبدالغني ليلى، وهو يحدثني قبل أيام عن طفولة لم تمتْه بقلبه الطفل، ورجولة لم تفارقه، رغم ضراوة المرض، رغم قسوة خمس عشرة عملية في محمية جسده المأسور بداية بسطوة السكر الشبابي في ألمانيا، وعنف الألم.
عبدالغني الصديق، أبو روني المقيم اللندني، أراه غابة مدارية مثقلة بمدرار ماء سماء حزن تمتد مساحة من لندن إلى ألمانيا، ومن ألمانيا إلى قبرص، حيث أقام الراحل إلى قلب جماعي مؤمّم على إنسان مستدام حباً، عقدين من الزمن، وثمة سنديانة متحركة صحبة زوجته الوفية السخية بحبها الأهلي، العائلي، الزوجي، وثلاث يمامات ويمام: أخ حمّل اسم جده الراحل: خليل، ومن هناك إلى محيط قامشلو، وحداد قريته المنكوبة صمتاً: بركو، والطرقات التي سلكها حباً، وحمّلها ثراءَ روح. من خلال كلمات أبو روني تمثُل صورة ذلك المرفَّه بالطّيب أمام ناظري صغيراً لم يكبر، وكبيراً يخفق بين جنبيه قلب صغير، كأنه لم يكن صغيراً ذات يوم، فاسحاً في المجال، وكما هو المجال المفتوح واسعاً، لمن يعرفه ولمن يعرفه مجدداً أن يكون في الجوار وأكثر قرباً .
لكم اختلط علي الأمر، أو التبس، وأنا أحاول النظر خلفاً، فأشعر حفيف ظلال وجه أسيان في الجهة الأخرى مني، أي أمامي، ألتفت فجأة، كأني به أراه: إبراهيم قبل أن يفارق مدارج الطفولة وكان بين بيتينا أكثر من جسر ضوء ومغزل ائتمان محبة لها نكهتها التليدة، ينظر إلي نظير العمر مروان: أخوه الأكبر، كعادته يطلق سراح ابتسامة، وهو يمد يده إلى رأسه المتوج بضوء براءة ملائكية، لا أدري أين تمتد يد مروان الآن، ويدا كل من آراس وآزاد، وأخواته الأخوات اللواتي أعرفهن الواحدة تلو الأخرى صحبة أخواتي، وأهله طبعاً، صوب أي وطأة شجن تهتز في فراغ من نسب موت عازل، فاصل بين وجه قيّض له أن يودّع حياة في جسد، ليكون نزيل حياة في روح.
لا أدري كيف توجّه يدا أم خليل ظلال حزنها العميق العميق، أم خليل: زوجته الوفية، وداخلها مسافات جامعة ومن جهات شتى، تردد كلمة واحدة لا ثانية لها: إبراهيم.. إبراهيم..روحها تستشرف غياباً مسمى باسمها الآن، باسم حزن زوجي ربما تجذر في الآن، وبجوارها، حولها، عصافير روحها: أمومتها، من أبوة معتد بها، تحط منغلقة مأساوية، من شامخ عال إلى خفض، على مأساة الفراق الأبدي، كما لو أنها تتلقى مدداً مقاوماً من روحها المنجرحة. وفي أكثر من جهة، يكون وجه أبو روني في القرب القرب: عم اليمامات الثلاث، اليمام الأوحد: خليل، برزخاً صدعاً منقسماً على روحه، بين أن يتماسك وفراق أعز الأعز يقشعر حتى نقْي عظام روحه، وأن يضم أولاد الراحل: ابن العم، الصديق، شقيق الروح، إلى روحه، وثمة فيض لحزن لا يقاوَم جرّاء دفوق الوجع الذي لا ظهور له إلا في لحظة مباغتة كهذه .
وجه إبراهيم الطفل بعمر الجهات التي أودعها ظلالَ حيوات في ذاكرات من أحبّوه بلغات شتى، وجه إبراهيم الكبير أكثر من جنسية حساب العمر، على وقْع المدفوع حباً لمن حوله، كما وصلني مبتدأ ما كان، وخبر ما هو ما كائن، مسيرات أطياف من التلوعات والتأسيات، في غربة لا تخفي برودتها الجارحة، والجهات تناثر في الأباعد والأهل أباعد أباعد، والمكان الألماني لا يعرف من الكردية إلا شهقة مستبهمة، ومن الحزن الكردي بإمضاءته الأبوية إلا ما يدركه القريبون منه جداً، ومن نزيف الروح ما لا يصعب أو يستحيل توقع نهاية له .
أمعنُ النظر وعن بعد، والبعد قُرْب شديد هنا، حيث تعرّف دهوك بي مكاناً، في جسم قاوم كثيراً، كل العدة الطبية، وآلام العمليات الجراحية، وعيناه مطبَقتان على صورة عائلية له، تأشيرة تمسك بعائلته حتى اللحظة ما بعد الأخيرة، حتى مع غمض عينيه، كما لو أنه ينظر داخلاً إلى عائلته وثمار عائلته من طيب الخلفة.
في العودة إلى الصديق أبو روني واسترساله الحار الحائر عمق مصاب بالتأكيد: حرارة المصدوم بالأعز الأعز أهلاً وإنسانياً، وصديق عمر، تغوص جهات في صمت مطبق، في حِداد يضع حداً لكل كلام، وثمة صورة وحيدة تجمع بين وجه طفل محلق عالياً، ورجل بكل سيماء الإنسان المفعم بما هو إنساني يحيل إليه الجهات كافة، فلا تعود الشفاه تنبس بحرف، إنما العيون التي تبث حزناً ما أصعبه ترجمةً، وما أثقله تسمية: وجه إبراهيم خليل ليلى !