د. محمود عباس
ذكرت قبل أيام في حوار على قناة اليوم، أنه فيما لو اتفقت أمريكا وروسيا على مستقبل سوريا فإنهما سيفرضان على تركيا وإيران الخروج من أراضيها. علما أنني كنت على قناعة أن سوريا أمام تجربة مماثلة لتجربة قبرص، مع ذلك تجاوزت المنطق آملا خلق نوع من التفاؤل لدى الشعوب السورية حول قادمها، المتجه نحو تعميق وترسيخ التقسيم الموجود حالياً.
تأكدت اليوم، أنني كنت على الخطأ في القول، وحدسي هو الأصح، وأن تركيا لن تخرج من سوريا والعراق، ونحن فعلاً أمام تجربة قبرص الشمالية، ترسخت القناعة بعد ما سمعته اليوم من أردوغان، كتمهيد للقائه بجو بايدن في بروكسل، على أطراف قمة الناتو في 12/6/2021م، وقبل أسبوع من لقاء بايدن ببوتين في 16/6/2021م. ولعدة أسباب منها:
1 أمريكا وروسيا لن يتفقا على مستقبل سوريا، والمنطقة الكوردية، وأن الحوارات الجدية فيما لو بدأت ستأخذ فترة، وهي المدة الكافية لتركيا لترسخ جذورها، وتطبع المنطقة في الواقع السياسي والاقتصادي والإداري-التدريسي لتركيا. علماً أن القضية السورية ستكون من بين أجندات الحوار، حتى ولو كانت في الدرجة الثانية من الاهتمام، والمتوقع أن تؤدي إلى تشكيل لجان لحوارات جدية حولها.
2 ستظل تركيا محافظة على المعارضة الملائمة لها وسترفض عليها عدم الاتفاق مع السلطة المركزية حتى ولو بعد إزالة بشار الأسد وحاشيته.
3 أمريكا ستجد وجودها في غرب الفرات ورقة ضغط دائمة على الوجود الروسي في سوريا. أو أنها ستتساهل معها لإعادتها إلى حلقة الناتو، وكحليفة معتمدة في مواجهة روسيا، وقد تحتاجها في مواجهة الصين ولهذا تثير في الفترة الأخيرة قضية اضطهاد الصين للمسلمين لكسب تركيا والعالم الإسلامي التركماني إلى جانبها.
4 وبالمقابل روسيا ستستخدم تمركزها في المنطقة الكوردية تحديداُ ورقة ضغط على الوجود الأمريكي في شرق الفرات، حيث النفط والغاز ومصادر الغذاء لكل سوريا.
5 إيران ستجدها ورقة ضغط على المنطقة الكوردية التي تساعد أمريكا بعد القضاء على داعش بالحد من تمددها نحو إسرائيل، وكما نعلم القضية الكوردية، إن كانت في سوريا أو غيرها، هي إشكالية مشتركة بينهما
6 المنظمات المرتزقة من المعارضة السورية العسكرية، تدرك أن وجودها وعدمه مرهونة بالوجود التركي في سوريا.
7 ضعف وتفكك الحراك الكوردي المتصارع، وعدمية الاتفاق على بعض نقاط التقاطع، وسلبيات الإدارة الذاتية في إدارة المنطقة ومنهجيتها، مقابل ضخامة مصالح أمريكا وروسيا مع تركيا، تضعف من تأييد الدول الكبرى لسيادة الكورد على منطقتهم، وإخراج تركيا منها، وتبعدهم على تبني أو دعم قضيتهم ضمن سوريا المستقبل. القضية التي ستكون من المحاور الرئيسة ما بين جو بايدن وأردوغان في بروكسل، والجانب الوحيد المأمول من أمريكا بعدم التخلي عن الكورد في سوريا، هو المعرفة الشخصية لـ جو بايدن بالكورد وقضيتهم، وأنهم الأصدق من بين القوى التي استخدمتها أمريكا لمحاربة داعش، والتي ستقف في وجه المد الإيراني، إلى جانب أن أمريكا لن تفتح كل الأبواب لأردوغان ليستخدمها كورقة ضغط عليها مستقبلاً، وبالتالي سيحافظ على الكورد كقوة توازن أمام تركيا في المنطقة.
8 تركيا رسخت وجودها عسكريا، وخلقت معها عوامل بقائها، وتتوسع لتنتقل إلى البعد الإداري والأمني والاقتصادي والثقافي، إلى درجة أن إعادة المنطقة إلى الحاضنة السورية ستكلف الكثير على كل المستويات.
إخراج تركيا وإيران من المنطقة تحتاج إلى توافق روسي أمريكي، لإصدار قرار دولي مشترك، صادر من هيئة الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن بدون استخدام الفيتو، أو بترهيب، مثلما فعلتها الولايات المتحدة الأمريكية عندما أصدرت الأوامر لسلطة بشار الأسد بالخروج من لبنان وتابعت لجانها عملية الإخلاء، حتى أخر مجموعة أمنية، مع ذلك وبعد ثلاثة عقود من احتلال نظام الأسد والبعث، ظلت الهيمنة السورية واضحة بشكل مباشر على لبنان وقواها السياسية وشرائح واسعة من مجتمعها، وظلت قوى سياسية تستلم أوامرها من الأسد، خاصة قبل عام 2011م، وحزب الله وقوته من احدى مفرزات تلك الحقبة الزمنية.
هذا الواقع هو المتوقع ظهوره في سوريا والعراق، حتى ولو فرضنا جدلا خروج تركيا وإيران منهما، خاصة وأن تركيا متطورة مقارنة بدول المنطقة، ولها مكانتها الاقتصادية والعسكرية في العالم، وهي من بين الدول العشرين الأوائل اقتصاديا، والتطور التركي الحاصل في العقد الأخير وفي كل المجالات سيؤثر على ذهنية مكونات المناطق السورية التي تحتلها الآن. وبعد التخلص من المنظمات الإرهابية والمرتزقة، والمجموعات المجرمة التي تستخدمهم اليوم لترسيخ وجودها قانونيا، ستحاول خلق فروقات معيشية وثقافية وإدارية بينها وبين المناطق الأخرى من سوريا، حيث الدمار وسياسة النظام الأسدي الشمولي، وهو ما صرح به أردوغان البارحة كرسالة لـ بايدن وبوتين والدول المعنية بسوريا، عندما قال إن تركيا ستبني سوريا. ولا شك الوضع سيكون مختلفا مع إيران، والتي تستند إلى شرائح المد المذهبي، الذين سيجدون ولائهم لأئمة ولاية الفقيه قبل الوطن، وهذا الانتماء العقائدي كثيرا ما يكون أكثر عمقا وتأثيرا من الظروف المعيشية أو السياسية.
نعلم أن سوريا والعراق ولبنان دول لقيطة، وأوطان تشكلت على الهامش، مع ذلك فما جرت من المحاولات للحفاظ على تماسكها، خلال العقود الطويلة من الرضوخ إلى العيش المشترك، أدت إلى ظهور مجموعات تؤمن بالوطن وتقتنع بها، وعملت من أجل تطويرها وتماسكها، وتجد اليوم في الوجود التركي أو الإيراني احتلال للوطن، بعكس المنظمات المرتزقة والإرهابية والتي تدرج تحت غطاء المعارضة، ومثلها الأنظمة الشمولية الدكتاتورية العنصرية، المتتالية والتي على مدى نصف قرن وأكثر، دمرت التآلف والعلاقات الإنسانية بين شعوبها، وأذاقتهم الويلات، وكرهتهم ببعضهم، وأضافت على التمييز العنصري تجاه القوميات الأخرى المحتلة جغرافياتها كالشعب الكوردي، الصراع الديني أو المذهبي نحو الأديان غير الإسلامية أو غير السنية أو العلوية، لا يضرانهما الاحتلالين، ولا يجدانها الإشكالية الرئيسة، ما دامتا ستحافظان على وجودهما في السلطة كوجهين لنظام فاسد قد يشتركان في الإدارة مستقبلاً.
منطقة الشرق الأوسط، ومن بينها سوريا، عاشت وعلى مدى نصف قرن وأكثر في ظلام العصور مقارنة بالعالم الحضاري، والتي كان بإمكان شعوبها اللحاق بها، لو كانت تمتلك القليل من الحرية والبعد الديمقراطي، لكن الواقع الذي بلغه مجتمعنا السوري حيث الدمار والكوارث، والتي هي ليست وليدة عشرة سنوات، بل هي نتيجة عقود من الدمار الفكري الثقافي والانحطاط السياسي الإداري، ايقظ الجيل الحاضر، بفضل الإنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي واطلاعه على العالم الأخر، وقارنه بما تعيشه المجتمعات الحضارية مع واقعه وماض أجداده المؤلم والمزرى، فأدى إلى الثورة السلمية قبلما تحرف عن مسارها. ولا نستبعد أن تظهر مقارنة مشابهة بين الواقع السوري المعاش في الوطن المدمر وما تملكه الدولة التركية من الرخاء والتطور، وهو ما قد يؤدي إلى تفضيل السوريين المهاجرين إلى مناطق الاحتلال التركي، واللاجئين إلى تركيا، ومن بينهم بعض أبناء المنطقة، البقاء تحت الاحتلال التركي (فيما لو لم تنجرف إلى حيث ما يتم من الطغي والتدمير عن طريق مرتزقتها وأدواتها من المنظمات المعارضة السورية) على العودة إلى حضن النظام الشمولي الدكتاتوري، المجرم، وحيث الدمار الفكري، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي. إذا المنطقة أمام المدين العثماني والصفوي، ولكن بمنطق جديد، وإستراتيجية تتلاءم والعصر، والدول الكبرى تدرك هذه الجدلية تماماً.
الولايات المتحدة الأمريكية
10/6/2021م