علي شمدين
(Syria’s Kurds: History, politics and society)
– المدخل:
كان هناك، وحتى وقت قريب، غياب مقصود للدراسات والبحوث الأكاديمية التي من شأنها أن تطرح المسألة الكُردية في سوريا بموضوعية، وتضعها أمام الرأي العام بمسؤولية، هذه المسألة التي ظلَّت، ومنذ تبلورها إثر النتائج التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، قضية مغيَّبة وهامشية في سوريا، حيث كانت معظم تلك الدراسات تُركِّز على المسألة الكُردية في كل من (تركيا والعراق وإيران) ، إلى أن بدأت أولى الدراسات الواقعية عن الكُرد السوريين بالظهور مع بداية التسعينيات من القرن المنصرم، والتي جاءت متزامنة مع الأحداث المتلاحقة والمتغيرات الجذرية التي عصفت بدول المعسكر الاشتراكي، والتي أنهت الحرب الباردة وفكَّكت الاتحاد السوفييتي، وبالتالي ألغت الثنائية القطبية في قيادة العالم، وفتحت الأبواب على قضايا حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، وكانت القضية الكُردية في سوريا من بين تلك القضايا التي جذبت بعض الأضواء، ولفتت، وإن بشكل خجول، انتباه الرأي العام إلى أهميتها، وخاصة خلال اندلاع انتفاضة القامشلي (12/3/2004).
وعلى الرغم من تنامي الاهتمام بالمسألة الكُردية في سوريا، إلاّ أنه لا زالت هناك ندرة في الدراسات الأنثروبولوجية والأبحاث التاريخية والسياسية التي تتناول هذه المسألة بموضوعية، ومن هنا تنبع أهمية الكتاب الذي نقوم بمراجعته، والذي أصدره المؤلف باللغة الانكليزية عام (2009)، ويصفه الناشر (دار الزمان)، بأنه: (مساهمة غنية في دراسة التاريخ الكُردي في سوريا منذ فترة الانتداب الفرنسي إلى الوقت الحاضر). ويقدِّم الكتاب تحليلاً دقيقاً ومعقداً عن الهويات القَبليّة والمحلية والإقليمية والوطنية، وتشكُّل وعي الأقلية الكُردية، من جهة، ومن جهة أخرى، يقوم بتحليل الأسباب الكامنة وراء- الاستثناء- السوري حول المسألة السياسية الكُردية، وتجنب الكُرد السوريين المواجهة المباشرة مع السلطة المركزية. ويؤكد المؤلف – وهو محق في تأكيده – أن هذا الكتاب: (يسعى إلى المساهمة في الزخم الجديد الذي أُعطي للدراسات المعاصرة حول سوريا من قبل جيل جديد من الباحثين الذين ينحون بتحقيقاتهم إلى اتجاهات جديدة، مما يدل على الاهتمام بالأطراف وإعطاء الأولوية للأبعاد الأنثروبولوجية والاجتماعية، دون إهمال الأبعاد التاريخية../ ص15)، ويشير المؤلف إلى الصعوبات والتحديات التي تعترض إنجاز مثل هذا البحث، قائلاً: (مع ذلك، يبقى من الصعب للغاية إجراء دراسة ميدانية، تكون الهوية الكُردية هي موضوعها الرئيس، لأن هذه الهوية لا تزال تُعَدّ، بالرغم من بعض التغيرات الملحوظة، علامة على- الفتن وتمزيق المجتمع- من قبل النظام../ ص15- 16).
– عودة إلى التاريخ:
لقد بذل المؤلف (جوردي تيجيل)، جهداً استثنائياً من أجل أن يسلّط الضوء على عدد من المواضيع المفصلية التي كان لها تأثيرها العميق على مسار الأحداث في سوريا، منذ الانتداب ولغاية عام (2004)، وخاصة منها الهوية الكردية، وانتفاضة عام (2004)، وعلى ضوء ذلك قام المؤلف بتقسيم محتويات كتابه، وعلى مدى (312) صفحة من القطع المتوسط، إلى سبعة فصول، وهي: (الكُرد خلال الانتداب الفرنسي/ 1918-1946، سوريا في المرحلة الانتقالية/ 1946- 1963، النظام البعثي والكُرد، القضية الكُردية وبُعْدُها العابر للحدود، الاستجابة الكُردية وتوابعها، ثورة القامشلي/ 2004)، فضلاً عن المدخل والخاتمة.
وهكذا، يعتمد المؤلف في كتابة بحثه المنهج التاريخي عبر تحليل وتفسير مرحلة الانتداب الفرنسي وما بعده، وكذلك مرحلة استلام البعث السلطة عام (1963)، وتعامله العنيف مع المسألة الكردية، واصفاً بدقة السياسات والمشاريع الاستثنائية التي اتبعتها الأنظمة المتتالية في مواجهة المكون الكردي وشطب هويته، الأمر الذي دفع بالكرد إلى تجنب المواجهة المباشرة مع النظام، ويحاول المؤلف أن يرصد بدقة حالة الاحتقان التي تراكمت شيئاً فشيئاً، نتيجة لهذا الكبت والقمع الممارس بحق الكرد الذين وجدوا لهم المتنفس خلال انتفاضة الثاني عشر من آذار عام (2004).
– تطور الهوية الكردية بين البعدين السوري الوطني والقومي الكردي:
يرصد المؤلف في بحثه مراحل تبلور الهوية الكردية في سوريا، التي، ولغاية ترسيم الحدود السورية التركية وفقاً لاتفاقية (فرانكلين بويلون)، التي تم توقيعها بين الجانب الفرنسي والتركي بتاريخ (20 تشرين الأول / اكتوبر1921)، لم تكن تتميز بطابع قومي كما هو الآن، وإنما كانت هوية مشتتة يتجاذبها بعدان مختلفان، بعد وطني سوري، حيث ظل الكرد، رغم محاولاتهم الجادة للاندماج في الهوية الوطنية، موضعاً للشك والاستفهام من جانب الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في البلاد، والتي ظلت تنعتهم بالمهاجرين والمتسللين والخطرين على أمن البلاد، والبعد الكردستاني الذي استُغِلَّ كورقة ضغط من قبل الدول التي تقتسم كردستان، ومن قبل الأحزاب الكردستانية في تلك الدول.
ولذلك لم ينجح الكرد في سوريا، وكما يجب، في بلورة الملامح السياسية الواضحة لهويتهم الخاصة، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي على سوريا، وإنما ظلت الحركة الكردية آنذاك وخاصة (خويبون)(3)، تدفع بأنظار الكرد السوريين نحو خارج البلاد، ولكن خلال مرحلة الاستقلال، بدأت هذه الهوية تتبلور وتأخذ ملامحها السورية الخاصة شيئاً فشيئاً، كردة فعل على اشتداد وتيرة الظلم الممارس من جانب الأنظمة التي أعقبت جلاء الفرنسيين، بحق المكونات غير العربية، وفي مقدمتها المكون الكردي، الذي لم يبق أمامه سوى المبادرة إلى تأسيس تنظيمه السياسي عام (1957)، واالذي سعى، منذ انطلاقته، إلى رسم هذه الهوية عبر خلق توازن دقيق بين هذين البعدين (القومي والوطني)، من خلال ربط حل المسألة الكردية بحل المسألة الوطنية عموماً في البلاد، فقد جاء في برنامجه الأول: (عندما يتحرر بلدنا سوريا من النفوذ الاستعماري، وتنتهي التدخلات الأجنبية في شؤونه الداخلية عندها سيطالب حزب الأكراد الديمقراطيين السوريين بإيجاد وضع خاص لـ ” 400 ” ألف كردي يعيشون في الجزيرة، وجبل الأكراد، وعين العرب، وذلك من أجل تحقيق حقوقهم السياسية والاجتماعية والثقافية في سوريا)(4).
ولكن بالرغم من ذلك، ظل الشك ينمو في المقابل لدى الأنظمة المتلاحقة، وخاصة البعثية منها، تجاه المكونات غير العربية، وقد بلغ ذروته تجاه الكرد مع بداية حكم البعث في البلاد عام (1963)، عندما قال الرئيس السابق لدائرة الأمن السياسي في الحسكة ،محمد طلب هلال: (ليست المشكلة الكردية الآن وقد أخذت في تنظيم نفسها، إلاّ انتفاخاً ورمياً خبيثاً، نشأ، أو أُنشِئ في ناحية من جسم هذه الأمة العربية، وليس له أي علاج، سوى بتره)(5)، الأمر الذي فتح الباب أمام المزيد من السياسات والمشاريع الاستثنائية التي استهدفت الوجود الكردي بشكلٍ قاسٍ ومباشر، مثل (الإحصاء الاستثنائي 1962، والحزام العربي 1966).
– الكرد السوريون ورقة استعملها الفرنسيون أولاً والأسد ثانياً:
ونظراً لهذا التعقيد الذي بدأ يكتنف المسألة الكردية في سوريا، حاولت جهات مختلفة، وخاصة الفرنسيون خلال صراعهم مع الجانب التركي حول موضوع ترسيم الحدود، أن تلعب بها كورقة ضغط في حل خلافاتها ومشاكلها، حيث يقول المؤلف: (لقد دفعت الطبيعة الإقليمية للمسألة الكُردية بعض الدول إلى اللعب بالورقة الكُردية بدرجات متفاوتة../ص162)، في الوقت الذي أبدى فيه قادة جمعية (خويبون)، استعدادهم لأداء مثل هذا الدور، وفي هذا المجال يقول المؤلف، بأن هؤلاء القادة: (كانوا يشعرون بإمكانية التضحية بالجيوب الكُردية في شمال سوريا مقابل وجود جسم كُردي مستقل في تركيا../ص195)، وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه التي أقدمت عليها خويبون، هي مبادرتها إلى إشعال وقيادة الثورة في جبال آرارات بمنطقة آغري في كردستان تركيا، والتي عرفت بثورة (آغري)(6)، التي استمرت بقيادة الجنرال (نوري إحسان باشا)، خلال الفترة (1927- 1930).
ومن هنا بدأت محاولات اللعب بالورقة الكردية في سوريا، ودفع أنظار الكرد في سوريا نحو المناطق الكردية الأخرى، وبشكل خاص نحو كردستان تركيا والعراق، وذلك على حساب تجاهل الخصوصية الكردية السورية وتهميشها، الأمر الذي وفّر للفرنسيين خلال فترة انتدابهم على سوريا ما يسمى بـ(الورقة الكردية)، حيث قاموا باستخدامها كورقة ضغط، ليس إلاّ، في حل خلافاتهم مع الجانب التركي حول ترسيم الحدود التركية- السورية، فقام الفرنسيون، وكما يقول المؤلف: (باللَّعب بتلك الورقة، وفي ذروة أوقات التوتر الفرنسي- التركي، كانت فرنسا تقف إلى جانب أنقرة، على حساب القوميين الكُرد../ص52).
وهكذا استمر الوضع، إلى أن تم توقيع المعاهدة الفرنسية- السورية عام (1936)، والتي أقرَّت باستقلال سوريا وانسحاب القوات الفرنسية من أراضيها، بالتزامن مع اتفاق الحدود بين القوات الفرنسية وتركيا، فتضاءلت نتيجة ذلك حاجة الفرنسيين إلى استخدام هذه الورقة بالضد من تركيا، فبدأت بإهمالها وعدم الاهتمام بها، أما تركيا وبالرغم من الاتفاقات المُبْرَمة بينها وبين فرنسا بشأن ترسيم الحدود التركية- السورية، ظلت تلك الورقة تقلقها، إذ يقول المؤلف: (لقد سرّبت حكومة أنقرة شائعات تشير إلى أنه بالإضافة إلى مطلبها في ضم لواء الإسكندرون، فإن أجزاءً أخرى من سوريا، بما في ذلك الجيوب الكُردية في الشمال، يمكن أن تلقى ذات المصير بالنسبة إلى أنقرة، ويبدو أن احتلال هذه المستعمرات هو أفضل طريقة لحل المشكلة الكُردية بشكل نهائي بدلاً من الصراع الديبلوماسي مع فرنسا../ ص87).
ومع جلاء الفرنسيين، وبدء مرحلة الاستقلال، أصبح الفضاء السياسي السوري، تدريجياً، أقل تسامحاً مع التعددية الإثنية، حيث شكّلت «عروبة» سوريا، والقومية العربية، وكما يقول المؤلف: (عنصراً للتوافق بين القوى السياسية والعسكرية الرئيسة، استبعاداً لجميع الرؤى الأخرى من أجل بناء الدولة والمجتمع السوري../ص24)، فأصبحت الأقليات عموماً، بعد الانتداب، موضع شك الحكومات المتتالية، وخاصة لدى أديب الشيشكلي الذي عمل على دمج الأقليات قسراً في البنية الاجتماعية السورية، ونتيجة لهذه المفاهيم المتشددة التي تستند على إنكار وجود (الأقليات) في سوريا، يقول المؤلف: (أصبح الكُرد كبش فداء آخر للقومية العربية وأصبحوا جزءاً من الشعوبية، أو بعبارة أخرى، إن الناس الذين لا يسمحون لأنفسهم بأن يتعربوا، اعتُبروا عملاء مستأجرين في خدمة الأعداء الأجانب الأقوياء../ص101).
وفي النتيجة، وكما يقول المؤلف، لم يبق أمام الكرد إلاّ أن يلجأوا إلى هويتهم القومية، والبحث، شيئاً فشيئاً، عن خصوصيتها السورية، فبرزت حاجتهم إلى إطار تنظيمي ذي هوية كردية سورية، ومن هنا انبثقت فكرة تأسيس الحزب الديمقراطي الكُردي في سوريا، الذي أُعلِنَ عنه بتاريخ (14/6/1957)، والذي من شأنه أن يعكس الهوية القومية للكرد في البلاد، ويجسد طموحاتهم الوطنية، فيقول المؤلف : (وعلى الرغم من كون الكُرد يشكلون 10% من مجموع سكان البلاد بين عامي 1946 و1957، إلاّ أنه لم يكن لديهم أي تنظيم سياسي للدفاع عن حقوقهم، مما أدى إلى الإعلان رسمياً عن الحزب الديمقراطي الكُردي في سوريا ../ص117)،
وفي المقابل، ظلت الأنظمة الحاكمة المتعاقبة تنظر إلى المسألة الكردية على أنها مشكلة خارجية تساقطت على سوريا من الخارج، فيتابع المؤلف الخط البياني لتبلور هذه المسالة في سوريا التي استمرت في تكوين نفسها بصمت، بين مطرقة ممارسات الأنظمة، وسندان أبعادها العابرة للحدود، حيث لم يبق أمام الحركة السياسية الكردية سوى تجنب المواجهة والتصادم مع النظام، حيث يقول المؤلف، بأنه: (وكما هو الحال مع جميع المواطنين السوريين، فقد تم إجبار الكرد على التصرف وكأنهم يتقيدون بالنظام وبقائده وبمبادئه، كذلك تشجع الكرد، على مدى عقدين من الزمن/1963-1984، على تنمية هويتهم بعيداً عن المجال العام../ص24)، فتمكن نظام حافظ الأسد أكثر من غيره أن يلعب بهذه الورقة بمهارة، وخاصة ورقة حزب العمال الكردستاني، وذلك من خلال تشجيع توجيه أنظار الكرد السوريين نحو خارج حدودهم، وخاصة نحو تركيا والعراق، حيث يقول المؤلف: (لقد توجهت المطالب الكردية باتجاه هذين البلدين، وفي ظل نظام حافظ الأسد، ترسخ هذا التوجه بشكل أعمق، الأمر الذي أكد أن الطابع العابر للحدود للمسألة الكردية بات واقعاً لا جدال فيه../ص21).
ورغم محاولة الكثير من الجهات التلاعب بهذه المسألة، إلاّ أن الأحزاب الكُردية في سوريا ظلت، وبمختلف أطرافها واتجاهاتها، تشكل استثناءً بالنسبة للحركات القومية الكُردية في الأماكن الأخرى فيما يتعلق بمسألة خياراتها السياسية، وتقديراتها الحكيمة لظروفها الذاتية والموضوعية، وإدراكها الواعي لخصوصيات نضالها، فيسجل لها بأنها تجنبت السير خلف الدوافع العاطفية وردود الأفعال، ولم تلجأ إلى الكفاح المسلح في نضالها من أجل نيل حقوقها القومية والوطنية، وإنما ظلت ملتزمة بأسلوب النضال السياسي السلمي، وكانت انتفاضة آذار اختباراً حقيقياً للحركة الكردية في سوريا ومدى التزامها بالنضال السلمي الديمقراطي، وعدم انجرارها إلى دوامة العنف والسلاح، وهنا لم يكن المؤلف موفقاً في لومه المبطن للحركة الكردية في سوريا على عدم تبنيها كغيرها من الحركات الكردية لأسلوب الكفاح المسلح، عندما قال: (لم تكن الأحزاب الكُردية السورية قد حملت السلاح ضد حكومة دمشق، على الرغم من أن الكفاح المسلح كان يمثل الأسلوب الرئيس للحركة الكُردية المعارضة في أماكن أخرى، ونتيجة لذلك، لم تتمكن الأحزاب الكُردية السورية من فرض نفسها جهات فاعلة وشرعية في مفاوضات مفتوحة مع الحكومة المركزية…/193).
– انتفاضة آذار (2004):
لقد تناول المؤلف مطولاً، الانتفاضة التي اندلعت في مدينة القامشلي بتاريخ (12/3/2004)، وذلك إثر المشاجرات التي حصلت في ملعب مدينة القامشلي بين مشجعي فريق القامشلي (الجهاد)، ومشجعي فريق دير الزور (الفتوة)، بعد أن أطلق هؤلاء الأخيرون شعارات استفزازية، سواء في الملعب أو بين شوارع المدينة، ضد قادة الكُرد ورموزهم في كُردستان العراق، منادين بحياة صدام حسين ونظامه، الأمر الذي تطور إلى تدخل قوات الأمن السورية إلى جانب فريق الفتوة ومؤيديه الذين دخلوا الملعب حاملين معهم السكاكين والحجارة، مستخدمة الرصاص الحي ضد جمهور فريق (الجهاد)، من أبناء مدينة القامشلي الذين كانوا بمعظمهم من الكُرد، فراح ضحية ذلك العديد من الأبرياء من الأطفال والشباب الذين لم يحضروا إلى الملعب إلاّ لمشاهدة المباراة بين الفريقين، ومن هناك عمت حالة من الغضب الجماهيري التي تطورت إلى سيل من المظاهرات والاحتجاجات العفوية السلمية في جميع أماكن تواجد الكُرد في سوريا، والتي كانت حصيلتها استشهاد العشرات، وجرح المئات واعتقال الآلاف من المحتجين المدنيين العزل ونهب بيوت ومحلات المواطنين الكرد، وهذا التضامن الجماهيري شكل نقلة نوعية في أسلوب نضال الكرد، فيقول المؤلف: (لقد كانت هذه المظاهرات بمثابة علامة عهد جديد للكُرد في سوريا، إذ لم تكن الحكومة السورية، في السابق، مدركة لقدرة الكُرد على العمل وفوجئت بحجم هذه الاحتجاجات../ص245).
وبذلك، وكما أسلفنا، فقد بدأ الكُرد بالتحرر، إلى حد ما، من عقدة الخوف والحذر، التي ظلوا يعيشونها منذ استلام البعث للسلطة في البلاد، فقد تخلى، وكما يقول المؤلف: (جميع اللاعبين في الساحة الثقافية والسياسية الكُردية فوراً عن أية محاولة لإخفاء الصراع، سواء أكان ذلك في شمال سوريا أو في المدينتين الكبيرتين، دمشق وحلب، وواصل الآلاف من الكُرد طريقهم في تحدي النظام البعثي علناً عن طريق التعبئة، وما يسمى بـ “حشد الهوية”.. ولأول مرة في تاريخ سوريا المعاصر، غطت الحركة الاحتجاجية جميع المناطق الكُردية، ما عزز من الوحدة الرمزية في الساحة الكُردية السورية– كُردستان سوريا../ص246).
وكما كان متوفعاً، فقد جاءت ردة فعل النظام فورية وقاسية جداً، عندما سارع محافظ الحسكة آنذاك إلى إصدار أوامره بمواجهة الجماهير الكردية بالرصاص الحي، بدلاً من ردع المحرضين من فريق دير الزور المعبأين، مسبقاً، بالحقد والكراهية ضد الكرد السوريين، كردة فعل على التطورات الجارية في العراق وكردستان العراق، وبذلك كانت الشرارة الأولى التي غطت فيما بعد، وخلال أيام معدودة، كامل الجغرافيا التي تضم الكرد في العالم، ووضعت المسألة الكردية في سوريا ضمن دائرة الإعلام العالمي واهتمامه، وأخرجت الغضب الكردي المتراكم دفعة واحدة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، كما أظهرت في المقابل تعاطف أوساطٍ واسعةٍ من القوى السياسية والجماهيرية، الوطنية والكردستانية والدولية، وتأييد مختلف المنظمات الإنسانية والمدافعة عن حقوق الإنسان الدولية، الأمر الذي شكل ضغطاً شديداً على النظام السوري، ليضطر رئيس الجمهورية إلى التصريح عبر قناة الجزيرة ، بأن: (أحداث القامشلي لم تكن وراءها أيد خارجية وأن القومية الكردية جزء أساسي من النسيج الوطني السوري ومن التاريخ السوري..)(7)، الأمر الذي ساهم في لجم انتقام الجهات الأمنية، إلى حد ما، إلاّ أنه وبالرغم من ذلك فإن الواقع الميداني ليس فقط لم يشهد أيّة استجابة للمطالب الكردية أو انفتاحاً إيجابياً عليها، وإنما على العكس تماما فقد شهدت وتيرة الممارسات الأمنية في المناطق الكردية تصعيدا أشد.
هكذا يتناول المؤلف تفاصيل الأحداث ومجرياتها، ويقف على أسباب اندلاعها وخلفياتها السياسية، ويرصد بدقة تطوراتها الميدانية نقلاً عن الشهود والمصادر الإعلامية الموثقة، ويقوم بتحليل تداعياتها وآثارها، ويناقش خلفياتها السياسة بدقة وتفصيل، وبالرغم من ذلك كله يقول المؤلف: (ما زال من غير الممكن التوصل إلى حقائق نهائية حول هذا الفصل غير المسبوق في تاريخ الكرد في سوريا../ص260)، ويخلص في النهاية إلى استنتاج مفاده إمكانية توجه هذه المسألة- إن لم تتم معالجتها- نحو التطرف والعنف، فيستكشف المؤلف: (الديناميات التي أدت إلى توحيد وعي الأقلية الكُردية في سوريا المعاصرة، على شكل عملية مستمرة يمكن أن تأخذ منحى متطرفاً أو حتى عنيفا../ ص3).
– الخلاصة:
لقد اعتمد المؤلف في إنجاز بحثه (كُرد سوريا: التاريخ والسياسات والمجتمع)، على العشرات من المراجع الموثقة، والحوارات الهامة، واللقاءات الميدانية، إلاّ أنه مع ذلك يقرّ بإمكاناته المحدودة التي لا بدّ وأن تكون قد تركت جهوده غير مكتملة، وجعلت معلوماته ناقصة حول بعض الأحداث التي تضمنها هذا الكتاب، وخاصة حول تأسيس الحركة الكُردية في سوريا وانشقاقاتها المعقدة، فهو لم يعتمد- بقصد أو بدونه- إلاّ على طرف سياسي محدد دون غيره، وهو حزب (يكيتي)، وتجاهله الأطراف الكُردية الأخرى، الأمر الذي أثرّ إلى حد ما على مصداقية بحثه ودقة معلوماته، وفي هذا المجال يقول المؤلف بنفسه: ( إن كتابة التاريخ كما هو، هي مهمة إشكالية، فمن ناحية، ذاكرة الأحداث الأخيرة متقلبة وهشة للغاية، وخادعة، وذلك لأنها مشبعة بالشغف والانفعال، ويتعرض لآثار من التضليل والمعلومات الخاطئة، ومن ناحية أخرى، العوائق الأمنية في إجراء تحقيقات ميدانية واسعة النطاق مع المشاركين في الأحداث جعل جميع المحاولات في تحليل شامل، صعبة../ص260).
ومهما يكن فإن الكتاب يعتبر مرجعاً مهماً، ويمكن للمهتمين بالشأن الكُردي في سوريا، الرجوع إليه والاستفادة منه، لما يحتويه من معلومات وتفاصيل ضرورية، وخاصة في ظل هذه الظروف التي تشهدها البلاد على صعيد الأزمة السورية عموماً، والمسألة الكُردية في سوريا على وجه الخصوص.
علي شمدين
17/2/2021
———–
(1)- جوردي تيجيل (Jordi tejel): يعمل حالياً أستاذ أبحاث في قسم التاريخ بجامعة نيوشاتيل السويسرية، ومن أبرز ما نشره عن القضية الكردية، هو كتابه: كرد سوريا/ التاريخ والسياسات والمجتمع، الذي صدر لأول مرّة باللغة الاكليزية عن دار النشر (Routledge)، في عام (2009).
– Syria`s Kurds History, Politics and Society. By Jordi Tejel. Copyright Year 2009, ISBN 9780415613460, by New York: Routledge Routledge, 208 Pages
(2)- محمد شمدين: كاتب ومترجم، عمل في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، له العديد من المقالات في الصحافة الالكترونية والورقية، ترجم كتاب جوردي من الانكليزية إلى العربية (كرد سوريا: التاريخ والسياسة والمجتمع)، دار الزمان، ط1، دهوك، (2021).
(3)- تأسست الجمعية بتاريخ (5/10/1927)، وعقد مؤتمرها الأول في بحمدون بلبنان، وهي تضم بين الكرد والأرمن بين صفوفها، قامت الجمعية بالتخطيط لثورة آغري، وقيادة عملياتها، للمزيد راجع: محمد ملا أحمد، كتاب (جمعية خويبون: والعلاقات الكردية- الأرمنية)، منشوزات رابطة كاوا للثقافة الكردية، اربيل (2000).
(4)- راجع البرنامج السياسي لحزب الديمقراطيين الكرد السوريين، الذي طبع باللغة الكردية في مطبعة كرم في دمشق الكائنة في الحلبوني في أواخر عام (1956)، وهو يتألف من ثلاثة أقسام (السياسي والثقافي والاجتماعي)، وكذلك يمكن مراجعة نص هذا البرنامج المترجم إلى العربية: كتاب عبد الحميد درويش، بعنوان (أضواء على الحركة الكردية في سوريا)، الطبعة الأولى دمشق 2000، ص15.
(5)- الملازم أول (محمد طلب هلال)، دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي (القومية والاجتماعية والسياسية)، أصدرها بتاريخ (12/11/1963)، ص15.
(6)- انتفاضة آغري: هي الانتفاضة التي قادها الجنرال إحسان نوري باشا في جبال آرارات بكردستان تركيا خلال (1927- 1930)، وكانت جمعية خويبون هي التي قامت بالتخطيط لها وقيادتها، للمزيد راجع: : محمد ملا أحمد، كتاب (جمعية خويبون: والعلاقات الكردية- الأرمنية)، منشوزات رابطة كاوا للثقافة الكردية، اربيل (2000)..
(7)- في مقابلة مع قناة الجزيرة في (1/5/2004)، قال الرئيس السوري بشار الأسد: (أن أحداث القامشلي لم تكن وراءها أيد خارجية وأن القومية الكردية جزء أساسي من النسيج الوطني السوري ومن التاريخ السوري..).
*- المقال منشور في مجلة قلمون (العدد 15/ نيسان 2021)