مذابح الأرمن بين تحقيق العدالة وتحقيق المصالح

رودوس خليل

مؤخراً حصل التحول وجرى القلم وبالتحديد في الرابع والعشرون من شهر نيسان 2021 بعد تردد طويل منذ رئاسة رونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي وما تبعتها من الإدارات كان الرؤساء الأمريكيون يتجنبون لفترة طويلة الاعتراف والإقرار بالإبادة الجماعية للأرمن التي وقعت عام 1915 لمراعاتهم العلاقة المميزة مع أنقرة وتجنب أضعافها وهي الحليف في الناتو فهذه الخطوة تحتاج إلى تفكير دقيق ويبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جوزيف بايدن قد عزمت وفكرت منذ الحملة الانتخابية على وصف تلك المجزورة بالإبادة الجماعية وقد أقرت بذلك.
هذا الاعتراف سحبت بموجبه المجلدات من الرفوف ومسحت عنها الغبار وفتحت من جديد باب الانكار والحقيقة التاريخية بين تركيا وأرمينيا والجميع يضيع في تفاصيل تلك الحقبة الدموية والتوصيف القانوني لتلك الأعمال الوحشية التي أدت إلى إفراغ مناطق شاسعة من شرق الأناضول من سكانها وبالتحديد المناطق القريبة من الحدود الروسية إلى مناطق بعيدة رداً على الأعمال العدوانية للأرمن الموالون لروسيا ضد الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى ثم الرد التالي على يد ميليشيات موالية للنظام التركي بهدف التخلص من غير المسلمين والتي كانت تحضّر لدولة قومية حديثة لا مكان فيها لغير الأتراك كقومية ولغة ودين.
فمن الذي أصدر الأوامر من رجالات الدولة العثمانية بالقتل؟ هذه السلطنة التي كانت تسيطر عليها ضباط من الاتحاد والترقي عقب خلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909، وهل تنتقل التبعات القانونية إلى الجمهورية الحديثة التي أسسها كمال أتاتورك عام 1923؟ وهل السلطة الحالية الآن تتحمل جرائم ارتكبها ضباط علويين متسلطون على السلطان الضعيف محمد الخامس؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة بعد الاعتراف الأمريكي وقبله الاعتراف الأوربي هي أخطر بكثير من مجرد الإقرار من قبل الدول الغربية بتلك الأحداث المروعة وما يهم الجانب الأرمني هو أكبر بكثير من مجرد الاعتراف إي المطالبة بالعدالة التي تقتضي أموراً عدة بالغة الحساسية لتركيا الحالية إلى حد الكارثة منها حق العودة لأجيال جديدة من الأرمن إلى موطنهم الأصلي وحق استعادة الأملاك أو حق التعويض المالي في حال عدم الرغبة بالعودة وهو مسار مدمر للقوة التركية الصاعدة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتكون التالية بعد ألمانيا التي قدمت لإسرائيل المليارات كتعويض بسبب المذابح التي اقترفها النازيون بحق ملايين اليهود.
لم يكن مفاجئاً لأردوغان اعتراف الرئيس الأمريكي بالإبادة الأرمنية بل كان ينتظر ذلك ومتمنياً في هذا التوقيت لإكمال مشاريعه التي لا تنتهي في الهيمنة على جميع مفاصل الدولة ولو كان على حساب القيم وعدم المبالاة بظهور الوجه الحقيقي للحقبة العثمانية فهو الأن مستعد كعادته للخروج إلى الساحات لتذكير الاتراك بأن الغرب لا يريد عودة تركيا إلى سابق عهدها ومجدها وأنهم يحاولون خنقها ومحاصرتها من دون نفط ولا موارد ولا صناعات عسكرية بل ولا يريدون تحررها من قيود معاهدة لوزان عام 1923.
فالاستعدادات جارية لحصد ما أمكن من ثمار اشعال الشعور القومي لدى الأتراك
فالتوقيت مناسب لمصالح أردوغان الانتخابية بعد الانتكاسات التي نزلت على الاقتصاد لأكثر من سبب وتدهور العلاقات الخارجية لتركيا عقب تدخلاتها في العديد من الدول ورغبة أردوغان في تعديل الدستور قبل العام 2023 الموافقة للذكرة المئوية لتأسيس الجمهورية وتمنياته بتعديل موازين القوى داخل البرلمان أي أن الرئيس التركي سيسعى إلى صراع مع الولايات المتحدة قبل الانتخابات النيابية والتي ربما تكون مبكرة فيحول العداء مع أمريكا إلى حملة وطنية يكسب فيها ثلاثة ملايين ناخب إضافي فالاعتراف بالإبادة الجماعية التي لحقت بالأرمن من قبل الجانب الأمريكي هدية ثمينة وما على أردوغان أن يشكر بايدن على توقيتها.
ستكون النتيجة الحتمية لهذا الاعتراف تمسك جميع الأطياف في تركيا بوحدة المصير وتلاشي الخطاب السياسي المعارض لاردوغان في هذه الفترة وأضعاف حظوظ المعارضة في الانتخابات المقبلة.
فالرئيس أردوغان كالذئب يعرف من أين يفتك بالقطيع ويملك أعضاءً من الذئب من ناحية الحظوظ.
قرابة المئة عام تقوم الدوائر التركية بإنكار ما حصل وتحارب أي جهة لمجرد التفكير بنبش ماض الدولة العثمانية وأن هذا الانكار كانت إحدى مقومات الحياة السياسية التركية وكانت سبباً في ضعف الانتقال من الوعي السلطاني إلى الوعي الوطني الحديث فالدول الغربية تفتخر بالتعدد الديني واللغوي التي تملكها إلا أن أردوغان هو من يقوم بتغذية هذا الانكار منذ ظهوره على الساحة السياسية التركية وينادي بضرورة استعادة الأمجاد وسمو القومية التركية على باقي القوميات عملية الانكار هذه بدأت قوية وراسخة إلى الآن لأنها كانت موضع اجماع شعبي استطاعت أن تخفي أحداثاً تاريخية مثبتة بالدلائل والشهود سبقت المجزرة بحق الأرمن كمذابح الفترة الحميدية عام 1894 حيث قتل ما بين 200 – 300 ألف أرمني ومسيحي ثم ظهور القضية الكردية وتسميتهم بأتراك الجبال وقمع انتفاضاتهم المتكررة بصورة وحشية لتبلغ ذروتها في انتفاضة ديرسم عام 1936 وقبلها ثورة الشيخ سعيد عام 1925 وهذه الهمجية في التنكيل والقتل ارتكبت في العصر الحديث بحق الشعب الكردي بعد زوال السلطة العثمانية .
هذه القدسية في تطابق الأفكار والانكار التي جمعت القوميين والإسلاميين الأتراك وهي الهوية الوطنية وضرورة التخلص من غير المسلمين كالأرمن ومن بعدهم المسلمون الأكراد لأنهم أناس داخلون على الهوية الوطنية التركية وتصويرهم مع اليونانيين بأعداء الأمة يستحقون ما أنزل بهم وقد ينزل عليهم في المستقبل.
الرئيس بايدن يحاول فك رموز معادلة صعبة للغاية وهي المبادئ التي ينادي بها كالحرية والديمقراطية ومعارضته للقمع الحاصل في الكثير من الدول كالصين وروسيا وتركيا والسياسات العملية التي يتطلبها المصالح الأمريكية في العالم بغض الطرف انتقائياً عن الدول التي تنتهك الديمقراطية وحقوق الإنسان ولكن الواقع يشير إلى سعي بايدن المعروف بخصومته الشخصية مع أردوغان للتهدئة ونتائج المعادلة أن الغرب يقبل تدريجياً تغيير السلوك التركي وعرقلة طموحها تارة والتفاهم معها تارة أخرى وأن قوة العلاقة على أرض الواقع ستكون مختلفة مما يظهر في الإعلام.
أعتقد أن إعلان البيت الأبيض الاعتراف بالإبادة الأرمنية هو إعلان إنساني ووعد انتخابي يراعي فيه العلاقات التركية الأمريكية وضرورة تمتينها في هذه الأيام في وقت تشهد فيه العلاقات بين موسكو وواشنطن المزيد من التوترات بشأن ملفات عدة أبرزها أوكرانيا والتسلح النووي وحقوق الإنسان وأن أي محاولة لعزل تركيا لتحقيق العدالة للأرمن ستدفعها إلى تعزيز علاقاتها أكثر مع روسيا وإيران وهذه لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة.
أعتقد من الصعب الدخول في أزمة جديدة مع تركيا اللاعب المهم في الشرق الأوسط والبحر الأسود خاصة أنها إحدى الدول القليلة التي اظهرت التحدي للقوة الروسية على الأرض والأهم أن في يد تركيا مفتاح البحر الأسود وأنه لا بديل عن التفاوض مع الجانب التركي
من جانبها أبدت تركيا عن غضبها الشديد من الخطوة الأمريكية وتوحد الخطاب السياسي من قبل الحكومة والمعارضة ولكن بدا الموقف التركي أيضاً يشير إلى تجاوز الموقف وعدم تحويله إلى أزمة جديدة بين البلدين وفي نفس الوقت وعدت بعقوبات محتملة كإغلاق قاعدة أنجرليك وفتح قنصلية في مدينة شوشة التي استعادها الجيش الأزري في ناغورني كارباخ بدعم من تركيا في الحرب الأخيرة مع الجيش الأرمني ومطالبة الولايات المتحدة بتعويضات على الانقلاب الفاشل الذي دعمته ومقاطعة البضائع الأمريكية.
المؤكد أن هذه الخطوة رغم رمزيتها محصورة في العلاقات المتشنجة أصلاً مع تركيا وهي من أساليب الضغط السياسي المعتادة بين الدول وهي خطوة جيدة لتغير وتنظيف الوعي السياسي التركي من الأفكار القديمة وإنجاز كهذا سيكون مكسباً ضخماً للقضية الأرمنية والقضية الكردية لاحقاً وأن الاعتراف بحد ذاته هو لردع جرائم ضد الإنسانية تحصل وقد تحصل في المستقبل.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…