الكُرد والحراك السوري

فرهاد شيخو
كثيرةٌ هي الثورات التي قامت بها الشعوب، وعصفت بمعظم أرجاء العالم في القرون الماضية، وجعلتْ من بلدانها أيقونةً للديمقراطية والحرية والمساواة والإخاء وتقويض السلطة الملكية وجعلها سلطةً دستورية وفصل الدين عن الدولة فكلّ هذه الشعارات أصبحت الركائز الأساسية لبناء دول علمانية؛ يتمتّع فيها المواطن بحقوقه الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية، ويبعد شعوبها عن احتكار السلطة بيد فئةٍ أو شريحةٍ معينة.
ومع موجة الحرّيات التي اجتاحت الشرق الأوسط بعد إضرام البوعزيزي النار بنفسه في تونس، فقدت الأنظمة الحاكمة قدرتها على الإقناع بقوة السلاح؛ وفقدت شرعيتها، وما التفاعلات الشعبية لهذه الموجة إلاّ في أملها في العيش بحريةٍ والانعتاق من عبودية هذه الأنظمة الاستبدادية الدكتاتورية..
حيث أكّد تشي كيفارا في الثورة الكوبية ذلك بقوله “أنا لست محرّراً، فالمحرّرون لا وجود لهم، بل الشعوب وحدها هي من تحرّر نفسها “..
لذا يتوجّب الإيمان بحق الشعب في الحياة بحريةٍ وليس تحت عصا الدكتاتورية.
وما يهمّنا هنا هو مدى الاستفادة من مراحل تجارب الشعوب في آليات تحرّرها وطرق انتزاعها لحقوقها وتثبيتها شرعياً في دساتيرها، وصياغة قوانينها التي لها علاقة في هذا الشأن.
وكشعبٍ كُردي عانى منذ أمدٍ بعيدٍ من ويلات الغزوات الخارجية على أرضه التاريخية، وتعرّضَ للويلات والاتفاقيات التي قطعت أوصاله ( قصر شيرين 1639- سايكس بيكو 1916- لوزان 1923 )،
لذا لم يتمكّن عملياً من تحديد خريطة جيوسياسية وكذلك لافتقاره للأسس العملية والدعائم والحلفاء من القوى العظمى لبناء استقلاليةٍ معينة تتمتّع بما تسمّى الدولة في العصر الحديث أسوةً بباقي الشعوب…
وبغضّ النظر عن العودة إلى فضاء التاريخ ومدى محاولات أعداء الشعب الكُردي لصهره في بوتقة امبراطوريتها القديمة، ولاحقاً في دولها الناشئة إلا أنّ كلّ محاولاتهم باءت بالفشل رغم الغطرسات العسكرية المستمرّة بحقّ هذا الشعب وتقسيمه في أربع دول، على الرغم من امتلاكه لمقومات بناء الدولة من الحيّز الجغرافي والسلطة والشعب وكذلك عنصري الثقافة والحضارة اللذين تضيفهما الدراسات الحديثة لمقومات بناء الدولة، لكن تواطؤ المجتمع الدولي مع الأنظمة الغاصبة والمحتلة لكُردستان حال دون نشوء الدولة الكُردية.‏
وفي الحالة الكُردية في جنوب غربي كُردستان (كُردستان سوريا) عانى الشعب الكُردي من محاولات الأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم في سوريا – الناشئة وفق مصالح الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى 1916- منذ استقلالها عن فرنسا 1946، لسياسات التعريب الممنهجة وأن كانت بنسب متفاوتة، ولكن مع انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1963 جرى بحقّه سياسة (تنفيذ التعريب) و بموجبه بدأ البعث بتنفيذ ما يسمّى الحزام الأخضر (الحزام العربي المشؤوم سيء الصيت)،
حيث استقدم عرب الغمر من محافظتي حلب و الرقة، و استوطنهم بعمق الجغرافيا الكُردية في الجزيرة ،ناهيك عن فرض إجراءات عنصرية مثل تجريد الكُرد من الجنسية السورية في “الإحصاء الاستثنائي 1962” وعدم تملّك الأراضي في المناطق الحدودية مع تركيا باعتبار أكثرية سكّانها كُرد، ومنع تشغيل الكُرد في وظائف الدولة العليا والجيش، ومن دون شكٍّ حاول نظام البعث الفاشي والعنصري الذي يعدّ ديناميكيةً كبرى لشرعنة الهندسة الديموغرافية والهوياتية، أياً كانت الآلام والجرائم التي قد تلحق بالقوميات الأخرى، وحكم آل البيت لأجل صهر القضية الكُردية والشعب الكُردي وكذلك التخوف من الوجود الكردي من خلال إصدارهم المراسيم والقرارات والقوانين المشؤومة، وهذه لم تأتِ من فراغٍ ، إنما يستند وينبع من تراثٍ في خطابات الكراهية وأيديولوجيات وثقافات شديدة العمق في الوعي والسلوك السياسي السوري، شرعته واستخدمته واستندت إليه مختلف القوى السياسية السورية، طوال تاريخها المعاصر.
ومع الأسف وبينما كانت الأنظار تتّجه نحو إسقاط هذا النظام بتكاثف وجهود جميع مكوناته تحت يافطة المعارضة السورية؛ والتي كانت تمثّل الثورة السورية بمشروعٍ وطني جامع يضمّ بين أطيافه جميع مكونات سوريا، حيث أثبتت الوقائع ونحن ندخل العام الحادي عشر من عمر الثورة السورية بأنها لم تستطع الخروج من عباءة البعث وفلسفته وإيديولوجيته، ووجّهت دفة سفينتها بإتجاه الشعب الكُردي بعد أن تمّت إدارتها من قِبل دول إقليمية، وما المحاولات الجارية من احتلال المناطق الكُردية (عفرين، كري سبي وسري كانييه) والانتهاكات والعمليات العنصرية والحاقدة إلاّ منهجية واضحة تُمارَس لمحاولة التغيير الديمغرافي، وتغيير الخريطة الجيوسياسية والتوزع الجغرافي للشعب الكُردي في سوريا.
ومع كلّ هذه الإجراءات التعسفية والقمعية بحقّ الشعب الكُردي في سوريا ظلّ هذا الشعب محافظاً على هويته القومية وثقافته وتراثه، ولكنّ ما تجلّى ومع الانفتاح الخارجي للحركة السياسية الكُردية مع بداية الأزمة السورية؛ والتي كانت تفتقدها في نقل تراجيديات ومآسي ومآلات الإجحاف بحقوقه القومية من قِبل الأنظمة الحاكمة للمجتمع الدولي، هو عدم قدرتهم على استقطاب المجتمع الدولي والقوى العظمى والمنظمات الدولية لرصد معاناة هذا الشعب الهالك ،والافتقار الى سوية عقلية في معالجة القضايا التي تُحاك في الخفاء وتحت الطاولات، حيث مهندسو الحركة التحررية الكُردية في كُردستان سوريا يفتقدون الى أبسط مقومات استراتيجيات العمل المنظّم، ونهج دبلوماسي فعّال لأنها تعتبر العمود الفقري في السياسة الخارجية.
لذا يتطلّب من المجلس الوطني الكُردي باعتباره حاملاً للمشروع القومي بذل جهود مضاعفة وتكثيف اللقاءات الدبلوماسية على كافة الأصعدة ومع كافة الجهات، وإعادتها للحمة القومية بعد تشويه وتمييع القضية من قبل ال PYD وذلك بتغييرها للمسمّيات الجغرافية واستهدافها لخارطة جنوب غربي كُردستان تحت يافطة مصطلحاتٍ رنّانة ليست كُردية “شمال شرق سوريا” انموذجاً ، وأدلجة المناهج التربوية وفق نظرة حزبية مقيتة، والقائمة تطول .
وما زاد الطين بلّة هو إفراغ المنطقة الكُردية من كوادرها وطاقاتها الشابة نتيجة الاستهتار واحتكار القرارات من قِبل حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بمفاهيمه الطوباوية ومشاريعه الأممية التي لا تخدم قضية شعبنا الكُردي العادلة، وكذلك دفعه لخيرة الشباب للاستشهاد في مناطق خارج الجغرافيا الكُردية دون اتفاقيات سياسية تخدم مصالح الشعب الكُردي في سوريا.
وعلى الرغم من أنّ المنطقة الكُردية تمثّل فضاءً اقتصادياً واحداً ويمكنها الاكتفاء والاعتماد على ذاتها ولكن ما يعانيه الشعب الكُردي في ظلّ إدارة الحزب الواحد يزيد حدّة الأسى، ويؤدّي به إلى التفكير فقط في كيفية تأمين معيشته اليومية وبذلك يبتعد عن قضيته.
لذا يتوجّب في البداية أن نتحرّر من الثقافات البالية والعمل الكلاسيكي في معالجة القضايا المصيرية حيث تعتبر من أولويات العمل الناجع في التحرر من نير الدول الغاصبة لأنّ “التحرر الفكري أنجع من التحرر الجيوغرافي”، و إيمان الشعب بحقّه والعيش بحرية و اتخاذه لقيادة سياسية واعية ومخلصة تنظّم آلية عملها وترميها في خدمة الشعب وإيقاظ الشعب وتنبيهه من المؤامرات التي تُنصَب له ليرسي به إلى التغيير الحقيقي المأمول، فعلى الحركة الكُردية في سوريا الاتفاق على صيغة موحدة وتتبنّاها لتطالب بها المجتمع الدولي والدول الضالعة في الشأن السوري وفق نهجٍ دبلوماسي سليم بإيجاد حلٍّ ينهي معاناته ويعيد إليه حقوقه المسلوبة ويكون شريكاً في بناء سوريا ديمقراطية فدرالية لامركزية لكلّ السوريين ، وكذلك استقطاب الكفاءات المؤهّلة والمختصّة من خيرة الشباب وأبناء الشعب الكُردي في جميع المجالات لبناء مجتمع واعد ومزدهر وجيل واعي.
ومن جهةٍ آخرى على الحراك الثقافي والنخبة المثقفة وخاصةً من الجالية في الدول الاوربية التعريف بالقضية الكُردية ومآلاتها وشرح معاناة الشعب الكردي عبر ندوات ومجالس حوارية وفضح السياسات العنصرية التي تُحاك ضدّ الشعب، وبثّ ونشر ثقافة الوعي وغرس قيم القضية ومدى قدسيتها للأجيال الناشئة .
لذا المسيرة التحررية والتنويرية يجب أن يسود فيها وعي القيادة والثقة بالذات والإيمان بعدالة القضية وتجاوز الخلافات ونبذها، وتفضيل المصلحة العامة على المصلحة الشخصية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…