تأريخ نشوء عيد العمال العالمي

غزالة وضحي
عند قيام الثورة الصناعية في بريطانيا، جعل الإنتاج الصناعي في المصانع الكبيرة حياة العمال جحيماً، حيث كان العامِل يعمل يومياً ما بين 10-16 ساعة ويعمل (6) ستة أيام في الأسبوع. كما كان استخدام الأطفال في العمل شائعاً، وكان العمال يفتقرون إلى الأمن الصناعي والصحي ويتعرضون لمختلف الآفات والأوبئة والأمراض، وخاصةً الأطفال. قادت الظروف الصعبة التي كان العمال يعيشون في ظلها إلى ظهور حركة “8 ساعات يوميا”، التي كانت حركة اجتماعية تهدف لتنظيم يوم العمل ومنع التجاوزات والانتهاكات بِحق الشغيلة.
كان (روبرت أوين) (1771-1858)، الذي كان أحد مؤسسي (الاشتراكية الطوباوية)، هو أول من طالب بذلك، حيث صاغ شعار: “ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات نوم، ثماني ساعات وقت الفراغ للراحة والاستمتاع”. الحركة منحت النساء والأطفال في انگلترا للعمل لمدة (10) عشر ساعات يومياً في سنة 1847. بعد ثورة شباط/فبراير سنة (1848) في فرنسا، تحقّق للعمال الفرنسيين أن يعملوا لمدة (12) ساعة في اليوم.
أعلنت رابطة العمال الدولية مطالب العمال بتحديد يوم العمل بـ(8) ثماني ساعات في سنة (1866)، وذكرت أن “الحد القانوني ليوم العمل هو شرط أولي، وبدون توفيره ستفشل جميع المحاولات لتحسين ظروف الطبقة العاملة وتحريرها”.
كما أنّ (كارل ماركس) أيّد مطالب العمال، حيث أنه كتب في كتابه (رأس المال) في سنة (1867) ما يلي: “إن الإنتاج الرأسمالي يتسبب، من خلال تمديد يوم العمل، لا في تدهور قوة العمل البشري، عن طريق سلبه الظروف المعنوية والمادية الطبيعية للنمو والنشاط فحسب، وإنما يتسبب أيضا في استنفاد وموت هذه القوة العاملة نفسها”.
يعود منشأ هذا العيد إلى القرن التاسع عشر في كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا. قبل الإعلان عن يوم عيد العمال بِسنوات، كانت ولاية چیكاگو في القرن التاسع عشر تخوض نضالاً عُمالياً لتخفيض ساعات العمل في هاميلتون، وبشكل خاص من قِبل الحركة التي كانت تُعرف بِحركة الثمان ساعات.
بدأ عيد العُمال في يوم 21 أپريل/نيسان من سنة 1856 ميلادية في أستراليا، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية. طالبَ العمال في ولاية چیكاگو وكاليفورنيا بِجعل مدة العمل اليومي ثماني ساعات. حضر زعيم العمال الأمريكي (پيتر ماكگواير) احتفالاً بِعيد العمال في مدينة (تورونتو) الكندية، فنقل مشروع مدة العمل إلى هناك. أثمر نضال العمال في كندا بِسن قانون الاتحاد التجاري الذي أعطى الصفة القانونية للعمال ووفّر الحماية لنشاط الاتحاد في سنة 1872. تم الاحتفال بأول عيد للعمال في الولايات المتحدة الأمريكية في 5 أيلول/ سپتمبر من سنة 1882 في مدينة نيويورك.
في سنة (1884)، قرّر اتحاد النقابات المنظمة والنقابات العمالية في ولاية چیكاگو الأمريكية، في اتفاقيته، أن “8 ساعات عمل تُشكل يوم عمل قانوني اعتباراً من 1 أيار/مايس سنة (1886) فصاعداً. كما أنها أوصت كافة المنظمات العمالية في جميع أنحاء الولاية القضائية بتوجيه القوانين التي تتوافق مع هذا القرار”. طالبَ العمال في ولاية كاليفورنيا أيضاً بِجعل مدة العمل اليومي ثماني ساعات.
في 3 أيار/مايس سنة (1886)، تحدث محرر صحيفة العمال، (أوگست سپايز) (1855-1887)، في أحد الاجتماعات إلى (6) ستة آلاف عامل، انتقل كثير منهم بعدها إلى الشارع لمهاجمة بعض المندسين الذين حاولوا كسر الإضراب. في 1 أيار/مايس سنة (1886)، رفضت قيادة “فرسان العمل” بقيادة (تيرينس ف. باودرلي)، النداء للانضمام إلى حركة الإضراب المعلنة، إلا أنّ العديد من قيادات وجمعيات “فرسان العمل” المحلية إنضمّت إلى الإضراب في (چیكاگو) و(سينسيناتي) و(ميلووكي)، حيث قاد (ألبرت بارسونز) (1848-1887)، رئيس “فرسان العمل” في چیكاگو وزوجته (لوسي بارسونز) وطفلاهما مظاهرة تألفت من حوالي (80) ثمانين ألف شخص في شارع ميشيگان، في چیكاگو. بعد مرور أيام قليلة، إنضم إليهم ما بين (350 – 400) ألف عامل من جميع أنحاء البلاد، حيث أنهم طالبوا بِتحديد ساعات العمل، الأمر الذي لم يَرقَ للسلطات وأصحاب المصانع والمعامل، وخاصةً أن الدعوة للإضراب حققت نجاحاً جيداً وأدّت إلى شلل الحركة الاقتصادية في المدينة، ففتحت قوات الشرطة النار على المُضربين، فقتلت (4) أربعة أشخاص وجرحت الكثير منهم. في اليوم التالي تمّ تنظيم مسيرة أخرى، إحتجاجاً على عنف الشرطة، فانفجرتْ قنبلة في ساحة (هايماركت)، فأسفرت عن مقتل (8) ثمانية من رجال الشرطة، وإصابة (77) آخرين، فهاجمت الشرطة الحشود المشاركة في المسيرة، وقتلتْ عدداً من الأشخاص وأصيب أكثر من (200) شخصاً بجروح بالغة. كما ألقي القبض على عدة أشخاص بِدعوى أنهم تسببوا في أحداث العنف وحُكِم على (5) منهم، من بينهم كان (أوگست سپايز) و(ألبرت بارسونز) بالإعدام. عند تنفيذ حكم الإعدام بالعُمال الخمس، كانت زوجة (أوگست سپايز) الذي كان أحد العمال المحكوم عليهم بالإعدام، تقرأ خطاباً كتبه زوجها لابنه الصغير (جيم) وكان كالآتي: “ولدي الصغير عندما تكبر وتصبح شاباً وتُحقق أمنية عمري، ستعرف لماذا أموت. ليس عندي ما أقوله لك أكثر من أنني بريء، وأموت من أجل قضية شريفة ولهذا لا أخاف الموت وعندما تكبر ستفتخر بأبيك وتحكي قصته لأصدقائك”. اتضح فيما بعد أنّ المعدومين كانوا أبرياء، حيث اعترف فيما بعد أحد عناصر الشرطة بأنّ مَن رمى القنبلة كان أحد عناصر الشرطة أنفسهم.
في الاجتماع الذي عقده الاتحاد الأمريكي للعمل في (سانت لويس) في شهر كانون الأول / ديسمبر في سنة (1888)، قرّر الإتحاد إعتبار (1) أيار/مايس سنة (1890) يوماً يجب ألا يعمل فيه العمال الأمريكيون أكثر من (8) ثماني ساعات.
على الرغم من ذلك، لم يتوقف نضال الحركة العمالية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغ ذروته في سنة 1894، حينما قتل الجيش الأمريكي عدداً من العمال المتظاهرين فيما عُرِف بإضراب (بولمان). بعد ذلك سعى الرئيس الأمريكي (گروفر كليفلاند) لمصالحة حزب العمل، حيث تمّ على إثرها بِستة أيام تشريع عيد العمال وإعلانه عطلة رسمية، تخليداً لذكرى (أوگست سپايز) ورفاقه. بقي (گروفر كليفلاند) قلقاً من تقارب اليوم الدولي للعمال مع ذكرى (هايماركت) التي تصادف 4 أيار / مايس في سنة 1886، حيث تمّ قتل أكثر من 12 شخصاً حينها، وجاء إضراب چیكاگو ضمن سلسلة إضرابات نظمت في عدد من المدن الأمريكية يوم الأول من مايس/أيار 1886 تحت شعار “من اليوم ليس على أي عامل أن يعمل أكثر من ثماني ساعات”، وبلغ عدد تلك الإضرابات خمسة آلاف إضراب وشارك فيها نحو 340 ألف عامِل.
تجاوزت قضية (هايماركت) أمريكا وبلغ صداها عمال العالم، وأحيا المؤتمر الأول للأممية الاشتراكية ذكراها في العاصمة الفرنسية، پاريس في سنة 1889، وتمت الدعوة لمظاهرات دولية لإحياء ذكرى (هايماركت) في سنة 1890، واعترفت الأممية الاشتراكية في مؤتمرها الثاني بِعيد العمال حدثا سنوياً. في سنة 1904 دعا اجتماع مؤتمر الاشتراكية الدولية في العاصمة الهولندية، أمستردام جميع المنظمات والنقابات العمالية، وخاصة الاشتراكية منها في جميع أنحاء العالم إلى عدم العمل في الأول من مايس/أيار من كل عام، وتم السعي لجعله يوم عطلة رسمية في عشرات الدول. في سنة 1955 باركت الكنيسة الكاثوليكية الأول من أيار عيداً للعمال، واعتبرتْ القديس (يوسف بارا) شفيعاً للعمال والحرفيين، فيما سارت الولايات المتحدة على تقليدها القديم، واعتبرت أول يوم إثنين من شهر أيلول / سبتمبر من كل عام عيداً للعمل، وكذلك الأمر في كندا.
تمسك الاشتراكيون والشيوعيون الأمريكيون بإحياء يوم الأول من أيار وبالقيام بِتنظيم مظاهرات ومسيرات في چیكاگو ونيويورك وسياتل وغيرها. في سنة 1958 اعتبر الكونگرس الأمريكي هذا اليوم، يوم وفاء (لذكرى هايماركت)، خاصةً بعدما حظي بالتقدير من دول عديدة وعلى رأسها الإتحاد السو ڤيتي وأعلن الرئيس الأميركي (دوايت أيزنهاور) الأول من أيار عطلة رسمية، وكانت مناسبة للتعبير عنها في تظاهرات ومسيرات عن مواقف تتعلق بقضايا سياسية واجتماعية.[5]
المصادر
1. Knights of Labor. Progressive Historians (3 September 2007).
2. May Day in Poland”.
3. Rutherford, Jonathan (2002). “After Seattle”. Review of Education, Pedagogy and Cultural Studies. Taylor and Francis.24 (1–2): 13–27. doi:10.1080/10714410212924.
4. “The History of Labor Day”. U.S. Department of Labor.
5. Green, James (2007). “A Storm of Strikes”. Death In the Haymarket: A Story of Chicago, the First Labor Movement and the Bombing that Divided Gilded Age America.
6. Green, James (2007). “Every Man on the Jury Was an American”. Death In the Haymarket: A Story of Chicago, the First Labor Movement and the Bombing that Divided Gilded Age America. Anchor.
7. Green, James (2007). “You Are Being Weighed in the Balance”. Death In the Haymarket: A Story of Chicago, the First Labor Movement and the Bombing that Divided Gilded Age America. Anchor.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…