مأساة غرب كوردستان والإعلام الكوردي

‏  جان كورد 

… وقال فرعون لشعبه: (لا أريكم إلاّ ما أرى)…  
الاستعمار له سيئات كثيرة ولكن له أيضاً بعض الحسنات، فالمستعمر يكون من جهةٍ متقدمة وقوية، إذ لا يستطيع الضعفاء إستعمار أو إحتلال بلدان أقوى من بلادهم، فالمستعمر البريطاني في الهند أحضر معه لتلك البلاد نظاماً سياسياً وقانونياً متطوراُ عما كان هناك من قبل وإن نابوليون بونابرت الذي شرع في احتلال مصر، أحضر معه مطبعة لم يكن يعرفها المصريون أو كان يعرف عنها قليلٌ منهم في زياراتهم لأوروبا، وكانت تلك المطبعة بدايةً ثورية في عالم الكتابة في مصر، ومن ثم في العالم العربي. ومن خلال استخدام المطابع وتطويرها وتحسينها بدأت حركة الإعلام في تقدّم مذهل مع الأيام في منطقة الشرق الأوسط، وظهرت الصحف (الجرائد) الأسبوعية واليومية، ومن ثم المجلات المختلفة في رسائلها العلمية والثقافية – الأدبية والسياسية. 
ويجدر بالذكر أن أوّل جريدة تعبّر عن وضع الشعب الكوردي كانت جريدة (كوردستان) التي أصدرها مدحت بدرخان عضو جمعية نهضة كوردستان في 22 نيسان 1898 في القاهرة، وليس في مدينة كوردية، لتصبح لسان حال الشعب الكوردي المقهور والمغدور. 
ومع الأيام انتقل مركز الإعلام الكوردستاني من القاهرة إلى دمشق، حيث توالى الناشطون والمثقفون الكورد على إصدار الدوريات السياسية والأدبية التي تطرقت إلى مختلف جوانب القضية القومية لشعبنا وحراكه السياسي العام، ولا حاجة لنا بذكر تلك الجهود العظيمة التي بات يعرفها كل مهتمٍ بالشأن الكوردي. 
وحيث أن هذا الشعب قد تعرّض للكثير من المآسي وعانى من المظالم المتتالية، بل المذابح أيضاً، ومنها مذبحة وادي زيلان الشهيرة، وحرب الأنفال القذرة، ومجزرة حلبجة التي قصفها البعثيون المجرمون بالغازات السامة، والجرائم الكبيرة للشاه الإيراني ومن تبعه من ملالي طائفيين وحاقدين من أمثال آية الله خلخالي الذي قضى بمساعدة مجرمين طائفيين من لبنان على 40.000 مواطن كوردي، فإن الإعلام الكوردي الضعيف مادياً والمحاصر من أنظمة الاستبداد والدكتاتورية المتسلطة على شعوب المنطقة قد صبّ إهتمامه على ما جرى في شمال وشرق وجنوب كوردستان، وأهمل غرب كوردستان (ميتانيا) لكثرة الإنشغال بما كان يعانيه شعبنا في تلك الأجزاء من وطنهم الكبير، فالحديث عن مذبحة سينما عاموده التي راح ضحيتها المئات من أطفال الكورد لم تكن مثار إهتمام الإعلام الكوردستاني مع الأسف، على الرغم من أنها كانت جريمة كبرى بحق الإنسانية والطفولة، تم تدبيرها بخبث وكراهية وتنفيذها من قبل فئةٍ مدعومة من قبل جهاتٍ للسلطة حاقدة على الكورد وكوردستان. كما أن جلب قبائل وعشائر عربية من حوض الفرات واسكانها بعد إجلاء أصحابها الأصليين الكورد في عهد البعثي حافظ الأسد في (42) كانتون (كيوبتزات) مرسومة بعمومها على شكل “حزام عربي” على طول الحدود التركية – العراقية – السورية في مساحاتٍ واسعة بهدف عزل الكورد في هذه البلدان المذكورة عن بعضهم، وفق مخطط بعثي قذر لضابط مخابرات سوري (محمد طلب هلال) لم يلق هذا الأمر الإهتمام المناسب من قبل الإعلام الكوردستاني، في حين أنه كان يهتم كثيراً بمآسي شعوب المنطقة الأخرى والعالم. ويجدر بنا ألا ننسى هنا ما تعرّض له شعبنا أثناء انتفاضة آذار لعام 2004 والوقاحة الصارخة التي أظهرها محافظ الحسكة آنذاك سليم كبول الذي أصبح بقدرة قادر صديقاً لبعض زعماء الحركة الوطنية الكوردية، رغم أنه كان محرّضاً شرساً بنفسه لهجوم الأنذال على شبابنا الكوردي وتقتيل وتعذيب شبابنا وسلب ونهب ممتلكات الكورد، وكأن الأمر كان انتقاماً من إخوتنا في جنوب كوردستان لأنهم ساهموا في بناء معارضةٍ وطنية عراقية لنظام صدام حسين الدموي ثم في إسقاطه وتحرير العراق من مسلسل جرائمه ضد الإنسانية. 
كان الإعلام الكوردي بمجمله، حتى بعد كل تلك الثورات والهزائم المريرة التي لحقت بنضالنا القومي، إعلاماً ورقياً أو عبر بعض محطات الراديو التي ما كان بالإمكان سماعها في كل كوردستان، بينما استمرت جرائد ورقية هامة مسيراتها الناجحة في جنوب كوردستان مثل جريدة (التآخي) للحزب الديموقراطي الكوردستاني وفي الاتحاد السوفييتي المنحل يإسم (ريا ته زه – الطريق الجديد) ولكن معظم الأدبيات الكوردية كانت مرتبطة بالأحزاب السياسية وبتموليها، فلم تشهد كوردستان صحافة مستقلة بمعنى الكلمة، وأتذكّر أن ولدي دارا ، عندما أراد كتابة أطروحته في العلوم السياسية في أواسط التسعينيات عن دور التلفزيون في الحياة السياسية الكوردية لم يجد أمامه سوى قناة (MED TV) التي تأسست بجهود حزب العمال الكوردستاني في لندن ببريطانيا ودينديرلو ببلجيكا في منتصف عام 1995 وقامت بالتوجّه للشعب الكوردستاني بالعديد من اللغات وبمختلف اللهجات الكوردية وتوقفت عن البث في ابريل – نيسان 1999. وكانت تلك المحاولة بمثابة انعطاف تاريخي في الإعلام الكوردستاني، إلاّ أن هذه القناة وما ظهر بعدها في كوردستان ظلّت في منأى عن الحديث بصدد الظلم والإضطهاد اللذين يعاني منهما شعبنا في غرب كوردستان، إلاّ أنها رغم ذلك شدّت انتباه شعبنا بشكلّ فعال وكسبت معظمه إلى صف المؤيدين للحزب الذي أسسه ودعمه وصيّره أداةً في يده لتصبح ساتراً على عيوب النظام الأسدي في سوريا، بل للتعتيم على ما كان البعثيون يمارسونه حيال شعبنا من ممارسات عنصرية ذات أهدافٍ شريرةٍ. 
ومن ثم توالى افتتاح وتأسيس الأقنية التلفزيونية، مما أثّر سلباً في استمرار العديد من الصحف والمجلات الناطقة باللغات المختلفة في كوردستان، وما تبقّى من تلك النشاطات كان في إطار المسموح به حزبياً، فهذا الحزب لا يتحدّث عن تلك الدولة الاقليمية بسوء وذاك لا يسمح بالحديث عن الأخرى، ولكنها على الأغلب لم تهتم بالشكل اللائق بما كان يجري في غرب كوردستان الذي لم تكن له سوى النشريات الدورية الحزبية وبعض المجلات الأدبية الخاضعة لرقابة حزبية متشددة أيضاً… بل إن هامش ما يسمى ب(الرأي الآخر) لم يكن سوى ذر الرماد في العيون بصدد (حرية الإعلام والرأي في الديموقراطية)… وتحوّلت عشرات الأقنية التلفزيونية التي تأسست بأموال الأحزاب إلى صفحات باهتة في أيدي إعلاميين باهتين وشبه إعلاميين لتصّب الماء في طواحين الجهات التي تمولها من حزبيين ورجال مال مؤيدين للأحزاب. 
على أثر سقوط نظام صدام حسين الدموي، وتحوّل العراق “الجديد!” إلى ساحة إعلامية واسعة لملالي إيران، كان لا بد من أن يتأثر الإعلام الكوردستاني بتلك الساحة ومفرزاتها أيضاً، فبدأ الإعلام الكوردي لمختلف الأحزاب يهتم قبل كل شيء بإعادة بناء العراق وجيشه وتطوير النظام صوب الديموقراطية والتمدّن والحياة المشتركة لكل العراقيين، فلم نكن نجد لغرب كوردستان صورةً واضحة في الإعلام الكوردستاني المفترض فيه أن يكون موجهاً لعامة شعبنا في كل أنحاء كوردستان، إلاّ أنّ وجود منافسٍ قوي لهذا الإعلام تمثّل في العديد من الأقنية التلفزيونية لحزب العمال الكوردستاني أرغمه على النظر صوب غرب كوردستان الذي بدا وكأنه رغم وجود العديد من أحزابه السياسية وتشكيلاته الثقافية قد أصبح الحديقة الخلفية بل العمق السياسي الأهم للحزب الأوجلاني، يستمد منه معظم طاقاته المالية والشبابية، وما تأسيس حزب الاتحاد الديموقراطي من قبل الكوادر المتقدمة للحزب الأوجلاني سوى انعكاس لحالة مسك الأرض من قبل القوة الأوجلانية في غرب كوردستان الذي كان ساحةً مخلصة للنهج البارزاني من قبل أن يظهر الأوجلانيون في كوردستان. 
هذا التنافس بين حزب أوجلان والأحزاب السائرة على النهج البارزاني، أحدث ثغرة في جدار الإهمال الذي كان يعاني منه غرب كوردستان، فإذا بالعديد من البرامج المتواضعة عن مناطق غرب كوردستان وفلوكلور شعبها وحراكها السياسي والمآسي التي يتعرّض لها الكورد السوريون تظهر بين الحين والحين في الأقنية المختلفة، وكأن كريستوف كولومبوس اكتشف كوباني وعفرين وسرى كانيي وكرى سبي وسواها مؤخراً… أما شعبنا في هذا الجزء من كوردستان فلم يتمكّن من حيازة قناةٍ تلفزيونية واحدة حتى اليوم، بل انصبّ جهد واهتمام حراكه السياسي على الاستفادة من إعلام الإخوة في جنوب كوردستان الذي بدا وكأنه لن يهمل مشاكل وقضايا شعبنا في هذا الجزء بعد الآن، بل إن قناةARK  النشيطة والجيدة فتحت قسماً خاصاً بغرب كوردستان، وساهم في هذا التحوّل هجوم الإرهابيين على كوباني وشنغار ومحاولات الحشد الشعبي الطائفي للسيطرة الدائمة على كركوك وسواها، فالإخوة في اقليم جنوب كوردستان أدركوا بأن كل أمتنا في خطر، والحديث عن أمتهم في كوردستان أهم من الحديث الممل عن “العراق المنشطر” الذي إن اشتّد ساعده سيهاجم كوردستان من جديد… ولكن مع الأسف لازال هناك متشبثون بمفاصل الإعلام الكوردستاني لهم التزامات حزبية لا يستطيعون الخروج من إطارها في موضوع نشر المواد التي بين أيديهم، ومنهم من يتصرّف حيال المثقفين والإعلاميين الآخرين تصرفات شخصية حسب مزاجهم اليومي… أي لم يتمكنوا من أن يصبحوا إعلاميين محترفين ناهيك عن الاستقلالية المأمولة.
أمّا إعلام “الرفاق!” فإنه -مع الأسف – تأسس في ظل حزبٍ لا يؤمن بالديموقراطية وحرية الرأي أصلاً، فالمثل العليا لإعلامه هي في إعلام الشيوعية ذات اللون الواحد، وأغلب العاملين في هذا المجال الضروري للغاية لنهضة الشعوب ليسوا سوى كوادر حزبية على غرار إعلاميي كوريا الشمالية، غير مقتنعين أصلاً بوجود معارضة ديموقراطية لهم ولحزبهم، بل يؤمنون بأن من يعارضهم ليس سوى عميل يتقاضى راتباً من هذه الدولة أو تلك ولا حاجة للحزب الثوري بالمثقفين والإعلاميين المتمرسين في عالم الحرية والديموقراطية، لأنها في نظرهم حرّية الامبرياليين في اغتصاب البروليتاريا وديموقراطية الشرائح العليا في المجتمع وهذا مرفوض لديهم تماماً لأن “القائد الذي لاحياة من دونه!” قد رسم المخطط الأبدي لحزبهم وإعلامهم، ليس عليهم سوى تنفيذه بحذافيره ورفض بل قمع كل ما يعارضه. وباعتبار أنهم لا زالوا مسيطرين على جزءٍ كبيرٍ من غرب كوردستان فإن الإعلام الذي عليه نقل الحقائق للشعب في أزمة رغم كبر المصيبة والمأساة. ولم يؤثر تحالفهم مع رأس الامبريالية في مسارهم الإعلامي كما يبدو. إنهم لا زالوا ملتزمون بقول فرعون لشعبه (لا أريكم إلاّ ما أرى)…  
لا يوجد في كوردستان حتى اليوم إعلام مستقل، بل حزبي ومتحزّب، وليس هناك ممولون لإعلام كوردستاني مستقل على غرار ما في البلدان المتقدّمة، والمعاهد التي يتخرّج منها الصحافيون ضعيفة، بل متحزّبة أيضاً، ولذلك لم يبق أمام الناشط الكوردستاني سوى شبكات التواصل الاجتماعي التي تخترق حدود الدول وتتحدّى الدكتاتوريات وتسهّل التواصل بين الناس في شتى أنحاء العالم وتفتح المجال أمام الحوارات والنقاشات وتقلل من تكاليف المساهمين في التمتّع بخيراتها… وحقيقةً فإن مواقع التواصل الاجتماعي قد دكت صروح الطغاة وكسّرت مقصّات الرقابة وتغلغلت في أعماق كل المجتمعات، بحيث لا يتمكّن محاربوا الحزبيات الضيّقة من صد الحقائق وإخفائها ومنعها من الوصول إلى الجميع.
27.03.2021

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…