بتاريخ يوم الأحد ١٤/٢/٢٠٢١ صدر عن وزير العدل السوري القاضي أحمد السيد التعميم رقم ( ٧ ) لعام ٢٠٢١ ، و ينص التعميم المشار اليه من حيث المآل أو النتيجة بعد سرد مقتضيات التعميم و حيثياته ، على أنّ المواطنين السوريين من الطائفة اليزيدية ( هكذا وردت التسمية في التعميم ) يخضعون فيما يتعلق بمسائل الأحوال الشخصية أو في قضاياهم الشرعية و منها الزواج لإختصاص المحاكم الشرعية في سوريا بموجب قانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ( ٥٩ ) لعام ( ١٩٥٣ ) و تعديلاته ، الذي لم يـخضعهم بدوره لتشريعات خاصة أسوة بباقي الأديان و الطوائف المستثناة بموجب المادتين ( ٣٠٧ ، ٣٠٨ ) . و تلك الطوائف المستثناة بحسب المادتين هي :
– الطائفة الدرزية التي تخضع للمحكمة المذهبية في السويداء
– الطوائف المسيحية و اليهودية التي يطبق عليها ايضا ما لديها من أحكام تشريعية دينية خاصة بها .
بينما ينص التعميم موضوع تقريرنا هذا من حيث المآل في المقابل على أن المحاكم المدنية هي صاحبة الاختصاص بالنسبة لأبناء (الطائفة اليزيدية) من غير المواطنين السوريين .
بعد التوضيح أعلاه لفحوى التعميم، نرى ضرورة تناوله بقراءة قانونية من جهة، و كذلك تسليط الضوء عليه من زوايا أخرى إجتماعية و دينية و سياسية و سواها، لكون التعميم يحمل في طيّاته أبعادٍ و دلالات هي أكبر بكثير من مجرّد البعد أو الاطار القانوني .
بدايةً.. يجب التنويه الى أن قانون الأحوال الشخصية في سوريا ينظًم قضايا الزواج والطلاق والنسب والحضانة والوصايا والميراث، و قد جاءت صياغة هذا القانون و بنائه بناءً دينيّا سواء في سوريا أو في غيرها من البلدان ذات الغالبية المسلمة كنوع من المساومة و الإرضاء للفكر الديني المهيمن على المجتمع و نتيجة ضعف أصحاب التوجه و الفكر المدني في المقابل بطبيعة الحال. و من المعلوم و الظاهر جليّا للعيان أن هذا الواقع كان له أثراً واضحا في إحداث إنقسام مجتمعي و ديني و مذهبي عميق في سوريا، نتيجة الانقسام التشريعي بحد ذاته و تعدد التشريعات و المحاكم و اختلافها تبعا لكل دين و طائفة و مذهب. نضيف الى ذلك ما أحدثه ذاك الوضع من تفاوت في التطور داخل المجتمع الواحد، و ذلك تبعا لنوعية القوانين و واضعيها و المحاكم و القائمين عليها لدى كل دين و طائفة و مذهب.
و الأجدر ذكره في هذا الصدد، هو إن الطابع الديني أو الصبغة الدينية للقوانين معروفة بإضفاء الجمود عليها، و بالتالي تثبت على الدوام عجزها عن ملائمة و مواكبة التطور و ما تمليه حاجات العصر و مبادىء الحق و العدالة.
بالمجمل.. لا يمكن إخفاء أو إنكار أن قانون الأحوال الشخصية ببنيانه ذاك يعزز التمييز ضد المرأة و ينتهك حقوقها في العمل و الخصوصية و الحياة الكريمة ، كما ينتهك حقوق المواطنة و الانسان في الحياة والاحترام والحرية و العدالة.
الآن.. و عقب ما أتينا على بيانه أعلاه كتمهيد رأيناه غاية في الضرورة ، نعود الى التعميم موضوع التقرير و نلقي الضوء عليه بناءً على ما سبق .
من الواضح خلال الصياغة و عبارات التعميم، أنّ معالي الوزير لم يكلّف نفسه أدنى جهد في الوقوف عند هموم و معاناة المعنيين به، مكتفياّ فقط بدور المفسّر لما هو مفسّر أصلاً، و مؤكداّ دوام الالتزام بالقانون الساري بعيوبه .
و السيد وزير العدل و الوزارة ككل أثبتوا بدءاّ من ألفاظ ما أصدروه و انتهاء بالحجج و الحيثيات التي أوردوها انفصالهم الكلي عن المجتمع الذي ينتمون اليه و من المفترض أنهم يمثلونه و عن حاله وحاجياته ، لا بل أثبتوا انفصالهم عن العالم برمّته، فمجرد ورود مصطلح أو مسمى الطائفة اليزيدية بدل الديانة الإيزيدية هو دليل جهلٍ و إهمالٍ ولا مبالاة تجاه مكوّن وطني بأكمله من مكونات سوريا الأصيلة ، و ما يزيد في الطين بلة و في جهل ممثّل العدل قبحاً، هو أن هذا المكون بالذات بلغ اسمه أقاصي الدنيا، جراء ما تعرض له من مآسي و ويلات و إبادة.
بالتأكيد إن دلّ ذلك على شيء فلا يدل إلا على أن حال الوزير و الوزارة هي من حال النظام و السلطة بأسرها و بأنها ككل لا تمت الى الشعب بصلة و أنها يقينا لم تتعظ قيد أنملة من كل ما جرى و يجري على البلاد طيلة عقدٍ من الزمن .
الأمر الآخر الذي يعزز الحجة و يؤكد انفصال الوزير و عموم السلطة التنفيذية و كل السلطات عن الشعب، هو ترسيخها من خلال التعميم و الكثير سواه, لفكر التفرقة و التمييز و المحاباة و غيرها بين أبناء المجتمع و الوطن الواحد ، إذ…إمًا أن يطبق و أن يسري القانون الواحد الناظم لوضع قانوني معين على جميع المواطنين الذين يجمعهم ذاك الوضع القانوني على حد سواء ، و إما و في حال كانت هناك اعتبارات معينة تضعها السلطة كمبررات لاختلاف القانون الواجب التطبيق ،تماما كالحالة التي أمامنا و التي تستند الى ان اختلاف الدين او المذهب أو الطائفة ، يبرر اختلاف القانون و اختلاف مصدره و المحكمة ذات الاختصاص و حاكمها، و بالتالي… فالتساؤل الذي يطرح ذاته حينها هو… لماذا لا يشمل ذلك الاعتبار و ذاك التبرير الإيزيديين أيضاً ؟
غاية الغرابة و المفارقة هي أن تُخضع و تُكره مقنّنا أهل ديانةٍ هم الايزيديين لشرع و شريعة أهل ديانةٍ أخرى هم المسلمين، و أن تفصل في المقابل أو أن تمنح الامتياز لأهل ديانة أخرى تفرقهم الطائفة (الطائفة الكاثوليكية، الطائفة الارثوثكسية) لأن يكون لكل منها شرائعها و محاكمها الخاصة بها !!
نواصل بيان ما وقع فيه التعميم من سقطاتٍ و تناقض، و هذه المرة من خلال التفرقة و التمييز في الوضع القانوني بين الايزيديين أنفسهم، عبر اخضاع فئةٍ منهم لقانون الأحوال الشخصية و معاملتهم بحكم المسلمين كونهم مواطنين سوريين، و اخضاع فئة اخرى من الايزيديين لاختصاص المحاكم المدنية من منطلق كونهم ليسوا مواطنين سوريين.
و هنا تدركون حجم ما يمكن أن تحدثه هذه التفرقة من مشاكل و معضلات في الأوضاع القانونية ضمن هذه الفئة، و لا سيما اذا ما علمنا جانبا هو غاية في الاهمية، و يتمثل في أنّ هناك ضمن الاسرة و العائلة الايزيدية الواحدة في سوريا من هم مواطنون سوريون و من هم غير سوريون، و السبب و المتسبب في ذلك هم مصدري التعميم أنفسهم و من سبقوهم من الذين يجمعهم ذات الفكر التمييزي الإقصائي، الذين جرّدوا مئات الالاف من الكورد السوريين بما فيهم الكورد الايزيديين من الجنسية بموجب احصاء استثنائي سياسي جائر جرى العام (١٩٦٢) ضمن سلسلة انكار الكورد و حقوقهم في سوريا، و عوملوا بموجبه معاملة الاجانب و مكتومي القيد.
إن استمرار بنية قانون الأحوال الشخصية في سوريا على هذا النمط و الاعتبار الديني و الطائفي و المذهبي دون المدني، تتضح عواقبة و اشكالياته بصورة جلية و تتفاقم مع التطور و الأيام و الأحداث، و ما من شك بأنّ ذاك البنيان الخاطئ قد انعكست آثاره و تبعاته بصورة بارزة على الحرب التي شهدتها و تشهدها سوريا ، و أضاف و عزّز ذاك البنيان الى جانب عوامل أخرى تتحمل السلطة مسؤوليتها بالدرجة الاولى مناخ و عوامل الشرخ المجتمعي و بالتالي استفحال الازمة و عقم الحلول.
فالحرب السورية و ما نجم عنها مثالا من حالات نزوح كبيرة و أعداد هائلة في الوفيات و لا سيما بين صفوف الرجال، و ما نجم عن ذلك بطبيعة الحال من تشتت و تفكك اسري، كل ذلك خلق أوضاعا قانونية غاية في التعقيد و الخطورة و لا سيما فيما يتعلق بالمرأة و حقوقها. الأمر الذي يستحيل معه أن تكون التشريعات المبنية على الاسس الدينية قادرة على حلّها.
و ختاما نختصر القول بأنّ الايزيديين في سوريا هم جزء اصيل من التراث الحضاري للارض التي يعيشون عليها و هويتها التاريخية، و بالتالي يكون لزاماً على السلطة التي يتبعون لها و التي تمثلهم، احترام وجودهم و ارادتهم و عقيدتهم، و لا يستوي بأي حال من الأحوال و لا تحت أي ذريعة أو مبرر إخضاعهم لأحكام ديانة أخرى أو التأثير عليهم بتلك الديانة أو إحلالهم فيها، لكون ذلك يتنافي مع أهم أساسيات حقوق الانسان و أقدسها التي تنص عليها و تكفلها كل شرائع الارض و السماء، ألا و هي حرية المعتقد.
لذلك و تأسيساّ على كل المعطيات التي أوردناها، لا نرى بأن الحلّ المجدي والنهائي يكمن في منح الايزيديين اسوةً بغيرهم من السوريين حق وجود مرجعية دينية تشريعية خاصة بهم و بالتالي تشريعات و محاكم خاصة، بل نرى أن الحل الوحيد و الانجع يكمن في فصل الدين كلياً عن الدولة و عن تشريعاتها بإستثناء الناظمة منها لامور العبادة و ممارسة حرية المعتقد و ما شابه، و يكمن أيضا في إرساء التشريع المدني بدل التشريع و القوانين الحالية و عقد الاختصاص للقضاء المدني و محاكمه.
إن إصرار و استمرار القائمين على التشريعات و القوانين في سوريا على التمييز بالنسبة للمركز القانوني بين ابناء الديانة الايزيدية أنفسهم من جهة (سوريون و غير سوريون )، و الاصرار كذلك على وضعهم في مسائلهم الشرعية تحت ولاية قانون الاحوال الشخصية لعام (١٩٥٣)، يعتبر الأختيار الأسوأ لإبناء هذه الديانة، و أبسط ما يستحقونه هو أن تكون لهم مرجعية تشريع مستقلة و محاكم خاصة بهم أسوةّ بمن لا يتميزون عنهم في شيء من السوريين.
تم
ألمانيا. .١٩/٢/٢٠٢١
مركز ليكولين للدراسات و الابحاث القانونية
www.afrin-lekolin.net