جان كورد
مخطىء من يظّن في عصر “الإرهاب البيولوجي” و”التطوّر التكنولوجي” الهائل هذا أن ما يحلم به سيتحقق رغم تغيّر الظروف الدولية والاقتصادية من حوله، فالعرب السوريون كانوا يحلمون لدى انهيار وسقوط الامبراطورية العثمانية بأنهم سيبنون “سوريا الكبرى” التي تضم سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن، إلاّ أنهم فوجئوا مع انتصار الثورة البلشفية في روسيا في عام 1917م بوجود مخططات استعمارية من دون علمهم قضت على الحلم القومي السوري بالجملة، فهناك مشروع أو اتفاق سايكس – بيكو الذي هدفه تقسيم الشرق الأوسط طولاً وعرضاً بين الانجليز والفرنسيين، وهناك قبولٌ سعودي خطي وصريح بل ترحيب باحتمال تأسيس دولة يهودية في الأرض المقدسة لدى أتباع الديانات السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام) وسعي حثيث من قبل الطائفة العلوية السورية لإقامة دويلة للعلويين لرفضهم العيش تحت نير المسلمين السنة، كما أن هناك حراك فرنسي – تركي يهدف إلى اقتطاع جزء هام من سوريا (لواء اسكندرون) وضمه إلى تركيا…
وإذا بمشروع سوريا الكبرى يتقلّص وينفرط، فذهبت لبنان وفلسطين والأردن من أيدي السوريين ولربما إلى الأبد، ووجد زعماء سوريا أنفسهم مضطرين لمطالبة عصبة الأمم في تلك المرحلة ب”دولة سوريا” التي ذكروا في مطالبتهم الخطية أن نهر الفرات يحدّها من ناحية الشمال، ويبدو أن زعماء الكورد هم الذين لم يعملوا شيئاً ضد وحدة سوريا، فظهر منهم رجالٌ مشهورون بوفائهم لسوريا وعملوا من أجل بناء دولتها الحرّة الديموقراطية ذات السيادة التامة على ما تبقى للسوريين من أراضي، أخضعها الفرنسيون لممتلكاتهم ومستعمراتهم.
واليوم، ساد صمتٌ عجيب على موضوعي لواء اسكندرون والجولان المحتل من قبل اسرائيل منذ عام 1967 في حرب خاسرة نجمت عنها صفقة تجارية سرية، ونجد أن أقطاباً من “المعارضة الوطنية السورية بامتياز” لاتجد غضاضة في أن تحلّ العملة التركية محلّ العملة السورية، ودوائر البريد التركي عوضاً عن البريد الوطني وأكشاك البنوك التركية في المدن والبلدات السورية والتعليم والتربية في أيدي تركية عنصرية واستعمارية عوضاً عن المدرسة “العربية السورية” وأن تقوم تركيا بكل ما يعنيه الاستيطان والاحتلال في شمال سوريا، كرهاً بالكورد وغمطاً لأمانيهم في انتزاع حقوقهم القومية ضمن حدود الدولة السورية، وحيث التغيير السكاني في المنطقة الكوردية يجري على قدمٍ وساق في وضح النهار، والروس الذين كانوا يحلمون بأن يجدوا لهم موضع قدمٍ على شواطىء البحر الأبيض المتوسط، صار لهم حق الكلام كمحامٍ عن النظام الحاكم في دمشق، ومستوطنات على الساحل الشرقي من البحر الأبيض، وبإمكانهم لعب دورٍ وسيط بين القوات الكوردية التي تسمي نفسها ب”قوات سوريا الديموقراطية” تفادياً لإظهار أي علاقة لمقاتليها بقضية الشعب الكوردي العادلة وبين ما تبقى لنظام الأسد من قوات عسكرية وتنظيمات حزبية في الجزيرة السورية. وإذا ما نظرنا إلى الخارطة اليوم فسنجد أن دولتين من سوريا الكبرى وهما سوريا الحالية ولبنان في تشقق وانهيار، والعراق بجانب سوريا في تمزّق وتصدّع ولربما نجد في المستقبل القريب عراقين (العراق العربي والعراق العجمي أو الكوردي) وقد تنشأ إلى جانبهما دويلة سنية في حال اتساع الخرق العراقي. ونرى لبنان في قبضة حزبٍ لا يخفي ولاءه الأيديولوجي لملالي إيران فلا يعترف بأي حكومة وطنية في لبنان لا تتشكّل في ظله، حتى أنّ لبنان وصل إلى شفا حفرةٍ من الحرب الأهلية ثانية، فانعدام السيولة المالية وتعاظم القوى المتخاصمة والضرب على الأوتار الطائفية وعدم وجود دعم دولي لتحقيق الأمن والاستقرار يفضي إلى الحروب الأهلية عادة، ونجد سوريا الحالية ذاتها أبعد ما تكون عن شعارات “المقاومة” و”وحدة التراب السوري” و”بترول العرب للعرب” والاحتلال التركي يقضم من البلاد ما يحلو له على مراحل، فإن مدينة حلب حسب الرغبة الطورانية مدينة “تركية” وجبل الكورد “كورد- داغ” ليس إلاّ مقاطعة تركية مثل كلس وأنطاكية وسواهما، والاسرائيليون يقصفون القوات الإيرانية ومرتزقتها من حزب الله وفصائل الحشد الشيعي، حتى في منطقة الجزيرة البعيدة عن جنوب سوريا وحدودها مع اسرائيل… ولا أحد يدري هل ستبقى سوريا واحدة موحدّة في ظل نظامٍ يسلخ جلد النظام الحالي، فيتحوّل شمال البلاد إلى محافظات تخضع للنظام الإداري التركي وجنوب البلاد يتحوّل إلى ملعب كرة نارية بين الفصائل الايرانية المتطرّفة والاسرائيليين الطامحين إلى القضاء على التمدد الإيراني في سوريا، حيث تجده خطراً حقيقياً لأمنها القومي… بل ثمة همسات عن إمكانية انضمام الساحل السوري الذي تتحكّم به روسيا إلى كانتون شبه مستقل أو ينضم إلى شمال لبنان كما كان يحلم به زعماء العلويين أثناء الانتداب الفرنسي وطالبوا بذلك في وثيقة رسمية مرفوعة للمستعمر الفرنسي آنذاك… أما في العراق، فلا ندري هل ستبقى القوات التركية إلى ما شاء الله في مواقعها المنتشرة في العديد من مناطق كوردستان، أم أنها ستنهي استيطانها واحتلالها في حال التوصّل إلى حل ما مع حزب العمال الأوجلاني بالتخلّص من قيادة “قنديل” وإعادة الحزب إلى السيطرة التامة للسيد أوجلان أو المخلصين له.
وهكذا نجد أن أحلام العرب والكورد قد لا تتحوّل إلى واقع في عصر زوال شبه تام للحدود الوطنية واشتداد قبضة القوى العالمية التي تمارس “الإرهاب البيولوجي” الذي وصل إلى ذروته مع ظهور وباء كورونا (كوفيد 19) وما يليه، وفي عصر الانترنت الذي كاد يغيّر الكثير من ملامح الحضارة البشرية بعد قرونٍ طويلة وعديدة من سيادة القلم والدفتر… وتبقى نقطة إيجابية واحدة لعصر الانترنت بالنسبة للشعب الكوردي، فقد أفسح لهذا الشعب المغدور المجال للتلاقي والتعارف والتعاون والتضامن سياسياً وثقافياً في كل بقاع العالم وفي سائر المجالات من خلال انتهاك الحدود التي رسمها المستعمرون قبل قرنٍ من الزمن، فالكورد يتمتّعون بوحدتهم القومية بشكلٍ لم يسبق له مثيل في عالم التواصل الاجتماعي الرحب الكبير، وهذا يدعم طموحهم وأملهم في أن يحققوا يوماً ما وحدة ترابهم الوطني فعلياً وليس في عالم الانترنت وحده… والله أعلم.
-1 / 25 /2021
kurdaxi@live.com