ما العمل للخروج من الأزمة الكوردية؟

جان كورد
لا يخفى على  أحد أن ثمة من يستثمر التظاهرات في بعض المدن الكوردية استثماراً وقحاً من أجل أهدافٍ سياسية تتسم بالعداء الصارخ لكل ما يتعلّق بالقيادة الكوردية في اقليم جنوب كوردستان. وعلى سبيل المثال نذكر أن صحيفة “يني بوليتيكا – السياسة الجديدة” التابعة لحزب العمال الأوجلاني قد وصفت تلك المظاهرات التي له يدٌ في تحريكها في اتجاه العنف والتخريب جنباً إلى جنب مع مخابرات دولةٍ مجاورة لاقليم جنوب كوردستان بأنها “ثورة في الجنوب!”، ومعلوم أن المظاهرات كان هدفها الظاهري مطالبة حكومة الاقليم والحكومة المركزية في بغداد بتسديد الرواتب ومحاربة الفساد وتثبيت الأمن والاستقرار في الاقليم، أما الهدف الباطني فكان ولا زال الإضرار بحكومة السيد مسرور بارزاني العاملة على  إجراء الإصلاح الفعلي وتخفيف وطأة الفساد المالي والإداري، وتطوير الإنجازات الحضارية في الاقليم، 
وكذلك كان ولا زال الهدف غير المعلن للقوى المحرّضة على التظاهر من وراء الستار هو الإساءة للحزب الديموقراطي الكوردستاني، الحزب الأوسع شعبية والأقوى تأثيراً في كوردستان، وإضعاف هذا الحزب الذي قاد الثورة الكوردية منذ تأسيس الحركة الوطنية الكوردية، إلا أنه يأبى الحكم بمفرده رغم تمتّعه بأغلبية أعضاء البرلمان، وإنما يسعى باستمرار لإيجاد توافق سياسي متزن ومتلائم مع الخريطة السياسية – الاجتماعية للاقليم. فأي ثورةٍ هذه المطالبات التي تشهد أمثالها كل بلدان العالم سوى المجتمعات التي تقودها أحزاب شيوعية. فهل اعتبر هؤلاء الإعلاميون الآبوجيون مظاهرات فرنسا أو الولايات المتحدة ب”الثورات”؟ وهل كتبوا مرةً واحدة بأن المظاهرات في تركيا “ثورة”. تلك الدولة التي يزعمون أنهم يحاربونها في الوقت الذي يطبعون وينشرون على أراضيها جرائدهم الحزبية منذ عقود من الزمن، مثل “آزاديا وه لات–حرية الوطن” و”يني بوليتيكا” وسواهما. أفلا يدرك هؤلاء الإعلاميون الفارق بين “المظاهرة” و “الثورة”؟ أم أنهم يستغبون شعبنا بأسره؟ 
فما العمل لمواجهة هذه التفاهات اللا عقلانية، اللا خلقية والمضرّة بالعلاقات فيما بين أحزاب أمتنا المغدورة؟
بالتأكيد، لا يمكن لأحدٍ مهما كان قوياً ومؤّثراً أن يتمكّن من تحريك جماهير الشعب صوب المظاهرات المصحوبة بالتخريب والنهب والسلب والحرق والإيذاء بالممتلكات العامة والخاصة، ما لم تكن هناك بالفعل أسباب وظروف مهيئة وملائمة لاندلاع الحريق، ومن خلال مراقبة الأحداث التي حاول البعض تأجيجها من قبل في مناطق بهدينان الخاضعة لنفوذ الحزب الديموقراطي الكوردستاني ولكنها فشلت، نجد ثلاثة أسباب وذرائع هامة:
– المطالبة بتسديد رواتب الموظفين
– الاحتجاج ضد التوسّع العسكري التركي في شمال الاقليم
– مكافحة الفساد المالي والإداري 
ولا نجد هنا أي مطالبة صريحة بإسقاط الحكومة، بل ثمة مطالبة خيانية غير معلنة في التظاهرات، ألا وهي إلغاء النظام الفيدرالي ومواد الدستور العراقي التي أقرّت حق الكورد في نيل “فيدرالية قومية” خاصة بهم، بعد أن قاتلوا من اجلها حيناً من الدهر. والذين يطالبون بهذا هم “خونة” أو “جيل جديد من الجاش” بكل معنى الكلمة وبدون تردد، ووجب اسنئصال وجودهم في كوردستان. 
وبالنسبة إلى المطالب المشروعة الثلاثة التي ذكرناها، لنا ملاحظات نودّ أن يطلّع عليها القائمون على هذه المظاهرات، وهي:
-لماذا لم ينتفض هؤلاء في وجه أولئك النواب الكورد في البرلمان العراقي الذين طالبوا الحكومة المركزية بعدم تسديد أي حصة من ميزانية الدولة لحكومة الاقليم، يل انتفضوا ضد حكومة الاقليم التي تطالب وبإصرار  تسديد هذه الحصة كاملةً وبأسرع وقتٍ لأن المواطنين في الاقليم بحاجةٍ لها، والحكومة العراقية، بل البرلمان العراقي وأحزاب الولاء الطائفي عرقلت كل حل ضروري وعادل في هذا الشأن رغم إلحاح الكورد. 
 -نعم، الحزب الديموقراطي الكوردستاني له القوة الأكبر في البرلمان والحكومة في الاقليم، ولكن المظاهرات تستهدفه وحده في أغلب الأحيان، ويتضّح ذلك من المراجعة الدقيقة لإعلام الأحزاب الكوردستانية ومن ذلك الإعلام ذي المسلك غير الصحافي النبيل ما للحزب الأوجلاني من أقنية تلفزيونية وجرائد وصحف معلنة الحرب على الديموقراطي الكوردستاني وسيادة البارزاني دون غيرهما صباح مساء. أفلا يتحمّل أحدٌ آخر في الاقليم مسؤوليةً من المسؤوليات العديدة جيال الوضع الاقتصادي المتردي والنظام الإداري الفاسد؟  ولماذا لم ينتفض هؤلاء عندما اغتصب الحشد الشعبي كركوك، فسكتوا ودسوا رؤوسهم في الرمال، في حين لقّن البارتي وحلفاؤه من مقاتلي حزب آزادي كوردستان  الحشد الشعبي درساً لن ينساه في بردى وسحيلا…
-بالنسبة للغزو التركي في شمال الاقليم: لماذا لا تقوم الأحزاب الثورجية على هذا الغزو العسكري بواجبها القومي في الدفاع عن أرض الاقليم وتطلب ذلك من البارتي فقط؟ ومن يضمن ألا تقوم بعض هذه الأحزاب “الكوردية!” بطعن البارتي في ظهره كما فعلت في كركوك وكما وقف بعضها مع الحشد الشعبي ضد البارتي في شنغال، وكما هدد البعض لشكرى روز (الكوردستاني السوري) بالقتال ضده في حال دخوله غرب كوردستان؟  وهل باستطاعة الحزب الديموقراطي مواجهة الجيش التركي الذي هو الجيش الثاني من حيث القوة والعضو في حلف النيتو، في الوقت الذي فشل أمامه في الحرب مقاتلو ومقاتلات جيش “الأمم الديموقراطية والايكولوجية في شمال وغرب كوردستان فشلاً ذريعا؟ رغم كل السراديب التي بنوها حوب المدن، أو لماذا لا يقوم هؤلاء “الثوار في الجنوب!” بتسليح أنفسهم وبتشكيل طوابير للقتال ضد المحتل من أجل حماية الاقليم؟ لماذا هذا الإصرار على إلقاء مسؤولية حماية الاقليم على البارتي وحده؟ قد يقولون: لأنه الأقوى ولديه قوات بيشمركة كبيرة…! طيب، لماذا لا تدعون القوة البرلمانية الأهم والبيشمركة الأقوى والحكومة التي حظيت بثقة البرلمان الممثل للشعب أن تقوم بواجباتها اليومية الملّحة وهي كثيرة ومتنوعة، بل تحاربونها في الوقت الذي أنتم ساكتون عن العدو الذي لا زال يسيطر على الأراضي المحتلة من كوردستان؟ تلك التي تسمونها ب”المناطق المتنازع عليها!” 
-أمّا عن مكافحة الفساد في الاقليم، فعلى كل مواطن أن يبدأ من عنده فيمتنع عن أخذ الرشوة وعن إعطائها، أن يقف في وجه المحسوبية والفساد في أهله ومعمله ودائرته الحكومية وأن يكون عوناً للحكومة في الكشف عن الخلل المالي في كل عمل ووظيفة، فهذه البلاد لا يمكن تكنيسها من الفاسدين بقرار حكومي أو إجراء من الاجراءات. أفلا يرى هؤلاء أن حكومة السيد مسرور بارزاني قد وضعت برنامجاً لمحاربة الفساد محاربة جادة؟ وبرأيي أن يتقدّم هؤلاء الذين يحركون الجماهير بمشاريع خطية لرئاسة الحكومة ليساعدوها في إنجاز برنامجها للقضاء على الفساد لا الصراخ في الشارع دون أي خطة حقيقية لهم في الخلاص من الفساد. 
على الحكومة رغم وجود كثيرٍ من العقبات والجدران الصلدة أمامها ورغم تكاتف الأعداء ضدها ومن حولها أن تقوم ببعض الاجراءات الضرورية لهذه المرحلة، أراها أشد ضرورةً من بناء الجسور والعمارات الشاهقة وهي في المجالات التي من شأنها تخفيف وطأة الغضب الجماهيري قبل أي شيْ آخر:
-فتح العديد من مراكز تدريب وتأهيل الشباب للمهن  المختلفة وتعلّم اللغات الأجنبية وأساليب الاستفادة من الأراضي الزراعية وكذلك فتح أبواب الجامعات للراغبين في الدراسة ودعم الطلاب الفقراء بهدف امتصاص نقمة الشباب الساعي إلى التمتّع بالحرية وتأمين لقمة العيش والمساهمة في بناء الوطن.
-منح بناء قوات الأمن الداخلي والبيشمركة أولية في الدعم على كل المستويات، وذلك لأن أي ضعف في نظام الدفاع عن الأرض وعن أمن البلاد يأتي بضعفٍ آخر، وفي النهاية سيهلك الاقليم في مواجهة التحديات الأمنية المختلفة، إذ لا كوردستان من دون استقرار وأمن وحماية عسكرية جيّدة.
-السعي المتواصل لجعل كوردستان ذا اكتفاء غذائي، وتقليص حجم الواردات الغذائية من دول الجوار لدعم الانتاج الزراعي الوطني، وتشجيع الفلاحين مادياً وتدريب كوادرهم الزراعية ليتحوّل كوردستان من منطقة استهلاكية إلى بلدٍ زراعي ذي انتاجٍ كبير، فلننظر إلى هولاندا الصغيرة التي تنتج زراعياً ما تفتخر به في العالم، ووطننا كوردستان ذو أراضي زراعية واسعة وماء وطقس مناسب منذ فجر التاريخ البشري. 
-دعم الانتاج المائي من حصولٍ على الطاقة الكهربائية وتحسين ري الأراضي الزراعية وصيد السمك، وهذا يتطلّب وجود خطة كبيرة وعلمية. 
وفي الحقيقة، نجد أن تخفيف وطأة الشارع على الحكومة يتطلّب المزيد من الاهتمام بالمجال الاقتصادي والعلمي في كوردستان، وتقليص الفائض من الإداريين والموظفين الذين لا حاجة للشعب بخدماتهم حالياً، وكل هذه الأمور تستدعي قيام الأحزاب المسؤولة عن قيادة الاقليم بأدوراها في دعم الحكومة، فالكادر الحزبي في مدينة صغيرة يمكن له المساهمة الواسعة في اجتذاب الشباب ومقارعة الفاسدين وتأهيل الراغبين في تطوير ذواتهم وتعميق قدراتهم، كما للمعلمين الدور الهام في تربية الأجيال على كره الفساد،  فها هي الصين تكاد تصبح القوة الأعظم في العالم بسبب العمل الشاق لأعضاء الحزب الحاكم دون تباطؤ أو تردد في تجاوز كل التحديات والتربية الصارمة للأجيال الفتية. قد يقول البعض بأن الصين مجتمعٌ كبير، فلينظر هؤلاء إلى اسرائيل الصغيرة حجماً والتي يعيش شعبها على أرضٍ صغيرة وضيّقة وما حققته من إنجازاتٍ عظيمة أو لينظروا إلى ماليزيا وسنغافور… 
فهل تقوم أحزابنا بما يجب أن تقوم به حقاً؟… والحديث طويل..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…