حقيرٌ يذل الجبابرة

ماجد ع  محمد
 
يبدو كما هو حالنا اليوم مع البلاء العالمي المسمى (فيروس كورونا أو كوفيد 19) أن بعض الحشرات والدويبات الصغيرة وجدت على كوكبنا مِن قبل لتقول للمتكبرين والمتغطرسين من أهل السلطة والمال في ذلك الزمان: رغم انتفاخكم بالعُجب، ورغم طيرانكم عالياً على بساط المفاخرة بما تملكون، وتباهيكم بما تقدرون على فعله، كم أنتم صغار وضعفاء وأذلاء؛ فرغم امتلاككم لكل أسباب القوة والجاه والسلطان ترون أنفسكم في موقف العجز التام أمام أصغر المخلوقات، إذ في الوقت الذي تتحدون فيه دولاً، وتغزون فيه بلاداً، وتعتدون على شعوبٍ بأكلما، لا قدرة لكم على مجابهة أصغر الدويبات أو الفيروسات، فرغم ضخامة أبدانكم، وقوة عضلاتكم، تحتمون بحجرات بيوتكم بكل جبن، ولا تملكون شجاعة الخروج من منازلكم خوفاً من ملاقات فردٍ أو رهطٍ من الكائنات اللامرئية.
عموماً لا يُنكر قط بأن هذا الفيروس اللامرئي لم يستثني أي فئة بشرية من شره، حيث فرض سلطانه على الجميع، وانقض على الناس من مختلف شرائح المجتمع، ولم يقف على أنفاس الفقراء وحدهم، إنما كان شمولياً في سطوته، حاله كحال الأنظمة المستبدة في الجور والعسف والانقضاض، وزيادة على الأنظمة المتعجرفة فلم تنفع مع الفيروس القوة أو الوساطة أو الوجاهة أو السلطة أو المال، إذ توفي بعد الإصابة به لاعب كمال الأجسام الصيني، كيو جون، الذي عاند الفيروس، وحاول أن يتحداه من خلال رفضه ارتداء قناع الوجه طيلة تفشي المرض في بلاده، كما توفي البطل العالمي لرياضة الجيدو الفرنسي كريل بولانجي، والرئيس السابق لنادي ريال مدريد لورينزو سانز، ومن أهل الفن توفي الممثل التركي “تورهان كايا” بطل مسلسل وادي الذئاب، ذلك الفيلم الذي تصوره البعض بأن أبطاله خالدون! ومن الساسة توفي بنفس الفيروس الحقير كل من رئيس تحالف القوى الوطنية الليبي ورئيس وزراء ليبيا الأسبق محمود جبريل، وكذلك الأمر توفي رئيس الكونغو (برازافيل) الأسبق جاك يواكيم يومبي أوبانغو، كما مات جراء الإصابة به الوزير الفرنسي السابق باتريك ديفيجيان، ومن معارضي النظام السوري توفي سفير الائتلاف الوطني السوري لدى دولة قطر، نزار الحراكي في مدينة اسطنبول التركية بالفيروس يوم الأحد 6/12/2020، ومن الموسيقيين توفي الموسيقي الأميركي إليس مارساليس، والكاتب المسرحي الأميركي تيرينس ماكنالي، وعازف الساكسوفون الكاميروني الشهير مانو ديبانغو إثر إصابته بالفيروس، فيما طال المرض الآلاف من نجوم الشاشات وأصحاب المليارات وكبار الساسة، وتقريباً معظم أصحاب الاختصاصات العلمية والتقنية والفكرية والأدبية والفنية، وعلى المستوى العائلي أُصيب به مؤخراً اثنان من اخوتي وما يزالان في الحجر المنزلي. 
ومثلما هو وضع العالم اليوم مع هذا العدو التافه الذي عطّل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفنية والثقافية، كما أهلك الكثير من المؤسسات المالية، وأجبر ملايين البشر للمكوث في بيوتها وإغلاق الأبواب والنوافذ على نفسها خشية من انتقاله أو تسربه إلى داخل الحجرات والمخادع، فقد سبق لكائنٍ مماثل أن هدّد حياة الناس أجمعين، حيث قضى البعوض الصغير الحجم حسب المرويات الاسلامية على مملكة أول جبارٍ على سطح الأرض، ألا وهو نمرود حاكم بابل في العراق، المولود وفق ابن كثير 2053 قبل الميلاد، إذ بالإضافة إلى فتك البعوض بعامة الناس في بلاده، فإن ذلك المتغطرس الذي ورد ذكره في التوراة بالاسم كملك جبار تحدى الله، النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، الذي تجبّر وتكبر وادعى الربوبية، فرغم كل جبروته وعظمته وغطرسته فقد قضت عليه بعوضة حقيرة الحجم وصغيرة الشأن في ذلك الزمان، كما يفعل كورونا اليوم مهدِّداً حياة جبابرة هذا العالم.
وصحيحٌ أن الفيروس اللعين قد خطف منذ ظهوره الآلاف من الصالحين والخيرين والطيبين سواء كانوا من الأباعد أم من الأقارب، ومنهم الطبيب الصيني لي وينليانغ كأول مَن حذر البشرية مِن انتشار “كورونا” والذي توفي في مستشفى ووهان الصينية في 6/2/2020، ومن المعارف رحل بسببه الكاتب والباحث زاغروس آمدي- حسين قادر في 24 ايلول 2020 في أحد مشافي فيينا النمسا، وذلك بعد أسبوعين من معالجته عقب إصابته بفيروس كوفيد19، ولكن مع حصده لأرواح الكثير من الأبرياء والخيرين وإجباره لأغلب الناس على الخضوع لسلطانه، إلاّ أنه في نفس الوقت فقد مرّغ أنوف الكثير من المتكبرين والمتجبرين من أهل السطوة والمال والسلطان.
وفيما يتعلق بإهانة الأمراء والملوك والخاقانات في الماضي البعيدِ من قِبل أتفه الكائنات كما هو الوضعُ اليوم، تشير المرويات التاريحية إلى أن مثل هذه المحتقرات الحية سبق أن كانت كالكابوس على أنفاس بعض الشخصيات الكبيرة من ذوي النفوذ والسلطان، ومن تلك الحوادث، قيل إن أبو جعفر عبد الله المنصور، الخليفة العشرون من خلفاء الرسول والخليفة العباسي الثاني والمؤسس الحقيقي للدولة العباسيةِ وباني مدينة بغداد، كان جالساً في القصر فألح عليه الذباب حتى أضجره، فقال لأعوانه وحاشيته انظروا من بالباب من العلماء، وذلك حتى يسأله عن كنه هذا الكائن المضجر، فقالوا له مقاتل بن سليمان بالباب ـ من أعلام التفسيرـ فدعا الأعوان إلى دخول مقاتل إليه، وعندما دخل مقاتل بن سليمان إلى الخليفة المنصور، قال الخليفة لمقاتل: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ فقال: ليذل به الجبابرة! فقال المنصور: صدقت.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   يعوّل الشعب الكوردي على المؤتمر الوطني الكوردي في غربي كوردستان بوصفه لحظة مفصلية، لا لمجرد جمع الفاعلين الكورد في قاعة واحدة، بل لتأسيس إرادة سياسية حقيقية تمثّل صوت الأمة الكوردية وتعبّر عن تطلعاتها، لا كفصيل بين فصائل، بل كشعبٍ أصيلٍ في جغرافيا ما تزال حتى اللحظة تُدار من فوق، وتُختزل في الولاءات لا في الحقوق. إننا…

ماهين شيخاني في عالم تُرسم فيه الخرائط بدم الشعوب، لا تأتي التحوّلات العسكرية منفصلة عن الثمن الإنساني والسياسي. انسحاب نصف القوات الأمريكية من شرق الفرات ليس مجرد خطوة تكتيكية ضمن سياسة إعادة التموضع، بل مؤشر على مرحلة غامضة، قد تكون أكثر خطراً مما تبدو عليه. القرار الأميركي، الذي لم يُعلن بوضوح بل تسرب بهدوء كأنّه أمر واقع، يفتح الباب أمام…

لم يعد الثاني والعشرون من نيسان مجرّد يومٍ اعتيادي في الروزنامة الكوردستانية، بل غدا محطةً مفصلية في الذاكرة الجماعية لشعبنا الكردي، حيث يستحضر في هذا اليوم ميلاد أول صحيفة كردية، صحيفة «كردستان»، التي أبصرت النور في مثل هذا اليوم من عام 1898 في المنفى، على يد الرائد المقدام مقداد مدحت بدرخان باشا. تمرّ اليوم الذكرى السابعة والعشرون بعد المئة…

د. محمود عباس قُتل محمد سعيد رمضان البوطي لأنه لم ينتمِ إلى أحد، ولأن عقله كان عصيًا على الاصطفاف، ولأن كلمته كانت أعمق من أن تُحتمل. ولذلك، فإنني لا أستعيد البوطي اليوم بوصفه شيخًا أو عالمًا فقط، بل شاهدًا شهيدًا، ضميرًا نادرًا قُطع صوته في لحظة كانت البلاد أحوج ما تكون إلى صوت عقلٍ يعلو فوق الضجيج، مع…